15-أبريل-2018

يبيع بضاعة بسيطة ويملك عمقًا فكريًا (الترا تونس)

رأس ماله بعض الأكياس المليئة بمنتجات تعكس هويته وانتماءه الثقافي والحضاري، وعقل يرفض الخمول والسلبية ويعشق الخلق والابتكار. عبد الله هو شاب سينغالي اتّخذ من رصيف أحد أنهج "لافايات" بالعاصمة التونسية مكانًا لعرض بضاعته البسيطة.

تمرّ بجانب عبدو كما يناديه حرفاؤه وأصدقاؤه فتشدّك لكنته الإفريقية حين حديثه باللغة الفرنسية، وهو يرحّب بالحرفاء والحريفات، ولا ينفكّ يردّد عبارات من قبيل "عسلامة la star" أي مرحبًا أيتها النجمة، و"on est ensemble" أي نحن معًا، وذلك حينما يمعن أحدهم في الثناء على بضاعته. وتتمثّل بضاعة عبدو في أساور، وعقود، وأقراط، بألوان أعلام الدول الإفريقية عادة، إذ تستأثر ألوان الأخضر والأحمر والأصفر والأزرق بنصيب الأسد من المجوهرات المقلّدة التي تشكّلها الأنامل الإفريقية السمراء بإتقان يترجمه إقبال الحرفاء عليها.

عبدو هو هو شاب سينغالي اتّخذ من رصيف أحد أنهج "لافايات" بالعاصمة التونسية مكانًا لعرض بضاعته البسيطة ومن أجل مقاومة الخمول والسلبية

اقرأ/ي أيضًا: "عساس الليل".. تراجيديات تحت القمر

ولا يخلو لباس الشاب السينغالي، الذي تجاوز عتبة الثلاثين من العمر، من الألوان السابق ذكرها، وذلك في تناغم تام بين المنتج وصانعه الذي يرتدي قميص "داشيكي" وهو لباس إفريقي مستوحى من أثيوبيا يرمز إلى عودة إفريقيا كقوة اقتصادية، وكذلك للدور الهامّ للأفارقة على الصعيد العالمي.

ويوشّح عبدو السترة التي يرتديها فوق القميص بحلقة على شاكلة الوسام تحمل ألوان الوحدة الإفريقية وهي الأصفر والأحمر والأخضر، ويلبس سوارين من صُنعه أحدهما باللون الأزرق والآخر باللون الأحمر.

يقول عبد الله أو عبدو لـ"الترا تونس" إنه جاء إلى تونس أواخر عام 2009 قادمًا من عاصمة السنغال داكار وذلك من أجل مواصلة دراسته الجامعية في تونس. وأفادنا أنه متحصّل على شهائد عليا في السياحة، وفي الفلسفة، كما عمل سابقًا كمدرّب في مركز نداء في بلده. ويضيف أنه اختار تونس مستقرًا له ومقرًا لمشروعه البسيط والعميق في ذات الآن، وقد خيّر أن ينطلق في تجارة "الاكسسوارات" على أن يشتغل في مطعم أو أي مكان آخر.

في الأثناء، وأنت تراقب عبدو عارضًا بضاعته على الحرفاء ومفسّراً لكيفية صنعها بأسلوب مرح لا يخلو من عمق، يتبادر إلى ذهنك أنه لم يدرس الفلسفة عبثًا. عبدو هو تاجر فيلسوف، يؤمن بروح الجماعة، ويرى أنه من الضروري أن يقوم كل فرد بعمله بشكل متقن لفائدة كل المجموعة. ويعتبر أن مشروعه كما يحلو له تسميته، ليس مجرّد وسيلة لكسب الرزق وإنما مسلكًا لإثبات وجوده وفاعليته في المجتمع.

يعتبر الشاب القادم من جنوب الصحراء الإفريقية، والذي غادر بلده طالبًا للعلم، أن الشهائد العليا على أهميتها غير كافية لإيجاد موطئ قدم في سوق الشغل، إذ على الفرد أن يكتسب أيضًا مهارات أخرى ويتمتّع بالقدرة على الخلق والابتكار والتعويل على الذات، وفق قوله.

يعتبر عبدو أن الشهائد العليا على أهميتها غير كافية لإيجاد موطئ قدم في سوق الشغل، إذ على الفرد أن يكتسب أيضًا مهارات أخرى

وعن الأسباب الكامنة وراء اختيار مشروع "الاكسسوارات"، يقول عبد الله إن لكل فرد في المجتمع مهمة ورسالة يسعى لتأديتها على أكمل وجه، وإن مشروعه مكّنه أن يكون سفيرًا لثقافة افريقيا السوداء. إذ يشير بأنه يجلب المواد الأولية التي يصنع منها "الاكسسوارات" والمتمثلة في الخيوط الملونة والحجارة المعدّة للغرض من السينغال أو من شمال مالي.

اقرأ/ي أيضًا: في الـ514.. الأبواب مفتوحة والحافلة تسير و"نورمال"

ويعتبر أن بيع المجوهرات التي يصنعها يدويًا لا يوفّر فقط عائدات مالية تمكّنه من العيش بكرامة، بل هي أيضًا فرصة للتعريف بثقافة إفريقيا جنوب الصحراء ونشرها مساهمة من موقعه في إشعاعها. إذ على عكس بعض الأعمال الأخرى، فعمله يجعله يغرق في نوع من الرتابة، ويمنحه الوقت للتفكير، وضخّ دماء جديدة في حياته، وفق تعبيره.

وهو يتحدّث عن مشروعه وعن فلسفته، التي تقوم على أن المرء صاحب رسالة في الحياة، وبلزوم أن ينشأ مشروعه الخاص في حال العجز عن تحصيل وظيفة قارة، لا ينفكّ عبد الله عن الابتسامة في وجوه المارّة، وإلقاء التحية بكلمات من اللهجة التونسية من قبيل "عسلامة"، و"لباس" و"وينك".

عبد الله يصنع بضاعته بنفسه من مواد أولية بسيطة يجلبها من بلاده

ليس عبدو الشاب السينغالي مجرّد بائع للـ" اكسسوارات" بل هو ملتزم بهويته وانتمائه، وصاحب قضية إذ أنّه لا يعترف بالحدود الجغرافية ويؤمن بأن العالم غير قابل للانقسام. ويقول إنه يراعي القدرة الشرائية للمواطن التونسي، ويعمل على تحقيق المعادلة بينها وبين ثمن منتجه وجودته.

يقول عبد الله السينغالي بائع الاكسسوارات البسيطة إنه ملتزم بهويته وصاحب قضية إذ لا يعترف بالحدود الجغرافية ويؤمن بوحدة العالم

وفي صناعته للمجوهرات المقلدة، يستوحي عبدو التصاميم من الموروث الافريقي ويوسمها ببصمته الخاصة التي يحرص فيها على تلبية أذواق حرفائه، ومواكبة الموضة دون تجاهل هويته وانتمائه، ويختار الألوان انطلاقًا من تأثيرها على نفسية الآخر، وفق قوله.

يمكن أن تحادث عبدو السينغالي أو التاجر الفيلسوف بصفة عرضية ولا تشتري شيئًا من بضاعته، لكنّك ستعود محمّلاً برسائل إيجابية من "أجنبي" أوجد لنفسه عملًا في بلد لا ينفكّ شبابه يشكو البطالة دون أي سعي، من العديد منهم، للعمل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس

"سـود" تونس.. تحت إرث العنصرية البغيض!