ليس أشد وجعًا على المرأة من أن تكون عرضة لعنف جسدي ورمزي في ذات الآن بمعنى أن يحمل جسدها جراحًا وروحها ندوبًا، وقد تخفي الأيام الآثار الظاهرة ولكنها لن تطمس الوجع الكامن في الأعماق. فأن يكون الإنسان عمومًا والمرأة خصوصًا عرضة لعنف جسدي وعنف ناعم في ذات الآن من شأنه أن يخلف وقعًا نفسيًا لا تتلاشى سلبيته بالتقادم، وهو ذات الوقع الذي يخلّفه العنف المقرون بحوادث السطو والسلب.
حالات كثيرة يكون فيها الرجل أو المرأة عرضة لتلوينات شتّى من العنف تنطلق من العنف المادي الذي يمارسه القائم بفعل السلب على الضحية التي تكون تحت وقع الصدمة إلى عنف آخر محسوس لكنّه غير مرئي يمارسه أولئك الذين يرقبون فعل السطو ويوثقونه أحيانًا بهواتفهم.
في تونس لا يكاد أسبوع يخلو من حادثة سطو ونشل بأسلحة أو دونها وغالبًا ما تكون الضحايا نساء
اقرأ/ي أيضًا: عن عادات "الكريسماس" في تونس
في تونس لا يكاد أسبوع يخلو من حادثة سطو ونشل بأسلحة أو دونها وغالبًا ما تكون الضحايا نساء، نساء مسلوبات الكيان والوجود في لحظة ما ينظر إليهن فيها "جمهور البراكاج" أداة لفرجة يحفظونها في ذاكرات هواتفهم أو ينزّلونها على مواقع التواصل الاجتماعي ليحصدوا "إعجابات" كثيرة.
ورغم قسوة العنف الجسدي الذي قد يطال المرأة ضحية "البراكاج"، إلا أنّ العنف الناعم الذي يمس من ذاتها يظل الأقسى لأن آثاره غير مرئية بل ومسكوت عنها، آثار تنخر الروح فليس من السهل أن تستشعر أن الموت قريب منها وأن أبناء جنسها يمكن أن يمنعوه ولكنهم خيروا أن يكونوا جمهورًا.
وبين من ينأى بنفسه عن الخطر ومن يقحم نفسه فيه يظلّ متلقّي الفعل ضحية للعنف بكل تجلياته، وكثيرة هي القراءات المتعلّقة بأولئك الذين يلازمون الصمت إن وقعت أعينهم على حادثة سطو وقد يسردون سيلًا من الأعذار ولكن ذلك لن يمحي آثار "سلبيتهم" و"صمتهم".
قسوة وسلبية وعنف ناعم، هي خلاصة شهادات نساء تعرضن لحوادث "براكاج" في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع عدد من المارة الذين لم يحرّكوا ساكنًا واكتفوا بالاختباء وراء شاشات هواتفهم يوثقون صرخاتهن وهن يدافعن عن أنفسهن دون نصير.
عنف ناعم
وفي شهادتها عن "البراكاج"، تقول سماح اليحياوي، وهي موظّفة بوزارة التربية، إنّها تعرضت في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى محاولة سلب مرفوقة بعنف جسدي إثر مغادرتها العمل إذ اعترض سبيلها شابان، أمسك أحدهما شعرها فيما حاول الآخر افتكاك حقيبتها.
ولم يكن من السهل عليها أن تتحدّث عن تجربة كان لها وقع عميق في نفسها، وهي التي قاومت قاطعيْ الطريق وواجهتهما بكل ما أوتيت من قوّة، ولكن إصرارها على الدفاع عن نفسها جعلها عرضة لضربات عشوائية متتالية أسقطتها أرضًا، وفق روايتها.
سماح اليحياوي لـ"ألترا تونس": ما آلمني هو سلبية المارة خاصة وأن الحادثة وقعت في ضح النهار
هاتف جوال ونظارة شمسية كانت حصيلة السارقين اللذين لاذا بالفرار حينما سقطت ضحيتهما ولكنّهما ترك الحقيبة التي تشبّثت بها ولم تتركها، حسب حديثها. سرقة وعنف جسدي تقول محدّثتنا إنهما لم يؤثرا فيها لأن الأمر صار متوقعًا في الشارع التونسي مع ارتفاع نسبة الجريمة ولأنها حافظت على حقيبتها ولكن ما آلمها هو سلبية المارة خاصة وأن الحادثة وقعت في ضح النهار وفي شارع تملأه الدكاكين ويعجّ بالسيارات والمارة.
وهي تتحدّث عما اعتبرته عنفًا ناعمًا، تشير إلى أنّ الشابين اللذين اعترضا سبيلها لم يسرقا متاعها ويهربا في لحظات معدودات بل أن الأمر استغرق مقاومة ولكن كانت امرأة تتعرّض زيادة إلى العنف الجسدي من قبل مجرمين إلى عنف ناعم من قبل جمهور اعتاد التطبيع مع مشهدية تعنيف النساء.
اقرأ/ي أيضًا: ما يجب أن تعرفه عن إدماج مادة الصحة الجنسية في البرامج التعليمية التونسية
سلبية ولا مبالاة
فدوى العبيدي، وهي طالبة تشترك مع سماح اليحياوي في تجربة "البراكاج" مع اختلافات في التفاصيل، فمحاولة السطو التي تعرّضت لها نفّذها أربعة شبان يمتطون دراجات نارية مازالت إلى اليوم تتذكّر لون ملابسهم السوداء.
في حديثها عن هذه الواقعة، تقول لـ"ألترا تونس" إنها كانت في طريق العودة إلى منزلها في يوم من أيام شهر رمضان لتحاوطها دراجتين ناريتين يمتطي كل واحدة منهما شابان جذب أحدهم حقيبتها التي تحوي أوراقها وبعض النقود وهاتفها الجوال.
فدوى لـ"ألترا تونس": بعض المارة كان لا مبال مرّ بعد أن ألقى نظرة خاطفة
فدوى أيضًا تشبثت بحقيبتها ولم تفرّط فيها حتّى حينما وصل الأمر إلى جرّها أرضًا، الدراجة النارية لا تتوقف ويداها لا تتركان الحقيبة وكل جسدها يتمرّغ أرضًا حتّى ملأته الندوب وتمزّقت ملابسها ولكنّها زلت تقاوم وتصرخ ولكن أحدًا من المارة لم يستجب، وفق حديثها.
لحظات مرّت كأنها الساعات وهي تحاول أن تحمي ممتلكاتها أمام إصرار من المعتدين على انتزاع الحقيبة منها ولكن لحسن حظّها أن اعترضهم منعرج فما عاد ماسك الحقيبة قادرًا على التشبث بها وأرخاها ومضوا جميعًا فتناست فدوى آلامها واحتمت بمنزل كان بابه الخارجي مفتوحًا، حسب روايتها.
أما عن المارة الذين كانوا بشارع حين وقوع "البراكاج"، فتقول محدّثتنا إن بعضهم كان لا مبال مرّ بعد أن ألقى نظرة خاطفة فيما اكتفى آخرون بالفرجة وهي تبرر موقفهم بأن شخصًا واحدًا لن يقوى على مواجهة الشبان الأربع الذين حاصروها.
قسوة..
وفي محطّة للحافلات، تعرّضت بثينة التي تعمل بإحدى المصحات الخاصة إلى "براكاج" سلبها فيه شاب عقدًا وخاتمًا وإسوارة وحقيبة بما تحويه من هاتف جوال وأوراق ونقود في الوقت الذي يعج فيه المكان بمنتظري الحافلات.
ولئن مرت سنوات على هذه الحادثة، فإنّها لم تنس تفاصيلها إلى اليوم وهي التي تحمل آثارها على رقبتها ومعصمها وإصبعها، فالشاب الذي سلبها متاعها لم يتوان عن كسر إصبعها من أجل الخاتم كما أنه استل الإسوارة والعقد بطريقة كاد يقتلع معها لحم الضحية خاصة وأن القلادة غليظة، وفق روايتها لـ"ألترا تونس".
بثينة لـ"ألترا تونس": الشاب افتك حقيبتي ولم يكتف بذلك بل تجاوزه إلى رفع حجابي والبحث عن القلادة ولم يحرّك أحد ساكنًا
وعلى مرأى من عشرات الأشخاص في المحطّة، افتك الشاب حقيبتها ولم تقو على استرجاعها ولم يكتف بذلك بل تجاوزه إلى رفع حجابها والبحث عن القلادة ولم يحرّك أحد ساكنًا، ولم يكتف بها بل سلبها أيضًا الخاتم والإسوارة دون تدخّل، وفق قولها.
ولما حاول أحد المارة التدخل، وجّه له الشاب السكين كبيرة الحجم التي كان يدسها في جانبها الأيمن كي لا تقاومه وهو يسلبها متاعها، وهي صامتة عاجزة عن الثأر لنفسها وسط سيل الشتائم التي كان يكيلها لها وسلبية البعض من حولها فلو تحرّك الجميع لخاف وهرب ولكن تدخّل شخص واحد لن يقلب المعادلة، وفق قولها.
هي شهادات مختلفة عن "البراكاج" تختلف تفاصيلها ولكنّها تلتقي عند لحظات الضعف التي عاشتها النساء الثلاثة وهن تتعرضن للسطو والعنف المادي واللفظي والناعم أيضًا، لحظات لم ينسوها رغم مرور الزمن وظلت ذاكراتهم تحفظها.
اقرأ/ي أيضًا: