01-سبتمبر-2020

تخوف من سيناريو صراع حاد بين رأسي السلطة التنفيذية سعيّد ـ المشيشي في صورة مشابهة لصراع الباجي قائد السبسي ـ يوسف الشاهد في حكومة سابقة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

لم تحظ حكومة في تاريخ تونس الحديث بقدر الغرابة الذي ميز حكومة هشام المشيشي المعلنة في ساعة متأخرة من ليل الاثنين 24 أوت/ أغسطس 2020. حكومة تحوّلت بين ليلة وضحاها من "حكومة الرئيس" إلى حكومة يعارضها الأخير بشدة بل يحاربها حتى، وفي المقابل يصوّت لصالحها حزبي النهضة وقلب تونس. نتابع في هذا التسلسل الزمني بعض ما كُشف من تفاصيل التطورات الأخيرة في عمر حكومة هشام المشيشي. 

الاثنين 24 أوت/ أغسطس 2020 

أعلن المكلف بالإعلام لدى هشام المشيشي موعد العاشرة والنصف ليلاً للكشف عن تركيبة حكومة الأخير، إعلان في آخر أيام المهلة الدستورية وآخر سويعاتها مما يؤكد الصعوبات والعقبات التي عرفتها مهمة تشكيل الحكومة.

لكن ما هي هذه العقبات والحال أن المشيشي أعلن في وقت سابق توجهه نحو "حكومة كفاءات مستقلة تماماً عن الأحزاب"، كما أطلق عليها، وعارض بالتالي توجه معظم الأحزاب والكتل البرلمانية الوازنة في البرلمان تكوين حكومة سياسية؟ أي ضغوطات على الرجل وقد اختار أن يشكل حكومته بعيدًا عن الأحزاب وشروطها وهذا ما أُعلن على الأقل من ممثلي الأحزاب الذين قابلوه في عدد محدود من اللقاءات؟ هل يمكن أن تكون الضغوطات من طرف آخر إضافة إلى شروط الأحزاب؟

كان رئيس الجمهورية قد اختار بنفسه المكلّف بتشكيل الحكومة ولم يكن حتى مرشحًا بارزًا من قبل الأحزاب أو مدعومًا منها، وقد كان مستشارًا قانونيًا له في قصر قرطاج ومقربًا منه

إلى حدود ذلك التاريخ، 24 أوت/ أغسطس الماضي، كان من السريالي القول إن الضغوطات والخلافات قد تكون مع قيس سعيّد، رئيس الجمهورية، الذي اختار بنفسه المكلّف بتشكيل الحكومة ولم يكن حتى مرشحًا بارزًا من قبل الأحزاب أو مدعومًا منها، والذي كان مستشارًا قانونيًا له في قصر قرطاج ثم وزيرًا للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ ومقربًا منه.

وحدها تدوينة يتيمة لرئيس كتلة قلب تونس في البرلمان أسامة الخليفي بتاريخ 23 أوت/ أغسطس الماضي، على حسابه في فيسبوك وقد تجاهلها الكثيرون، وقال فيها إن "قرطاج العظيمة" (والوصف له) مصرة على إسقاط الحكومة عبر سياسة الاستفزاز وهو عبث بالدولة ودفع إلى المجهول".

لم يتم الإعلان عن تركيبة حكومة المشيشي في التوقيت الذي أعلنه المكلف بالإعلام ومثّل ذلك مجالاً خصبًا للأحاديث بما هي إشاعات أو أخبار صحيحة ومن ضمن ما رُوّج كان وجود خلاف بين الرئيس ومن كلفه بتشكيل الحكومة بعد أن خُيّل للجميع أن سعيّد سيسود ويسيطر على كامل مكونات السلطة التنفيذية في البلاد، رئاسة وحكومة. خرج المشيشي حوالي منتصف الليل ليعلن في كلمة مقتضبة عن تشكيلة حكومته المقترحة دون أي إيضاحات.

الخميس والجمعة 27 و28 أوت/ أغسطس 2020

تدريجيًا تتالت الأخبار من كواليس قرطاج (قصر الرئيس) ودار الضيافة (مكان انعقاد مباحثات تشكيل الحكومة) لتأكيد وجود خلاف حاد بين الرئيس والمكلّف بتشكيل الحكومة حول بعض الأسماء في التركيبة الحكومية. وساهم في ذلك ما خرج للعلن من خلاف حول وزيري التجهيز والثقافة.

فقد أعلن المشيشي يوم الخميس 27 أوت/ أغسطس الماضي عن تخليه عن وزير الثقافة المقترح وليد الزيدي وأنه سيقوم بتعويضه بشخصية أخرى، لكن في مساء ذات اليوم، استقبل رئيس الجمهورية في قصر قرطاج الزيدي ويقوم بتأكيد ثقته فيه وأنه جدير بتولي مسؤولية وزارة الثقافة ويجبر بذلك المشيشي على إبقائه ضمن تركيبة حكومته المقترحة، مع كل ما مثله ذلك من إحراج له ومس من صلاحياته.

بعد تخلي المشيشي عن وزير الثقافة المقترح وإعلان رغبته في تعديله، أجبر سعيّد المشيشي على إبقائه ضمن تركيبة حكومته المقترحة، مع كل ما مثله ذلك من إحراج له ومس من صلاحياته

خلال اليوم الموالي، الجمعة 28 أوت/ أغسطس الماضي، تتالت "غرائب حكومة المشيشي" إذ قامت رئاسة الجمهورية بتوجيه مراسلة إلى رئيس مجلس نواب الشعب بها إعلام بتصويب يهم أعضاء قائمة الحكومة المقترحة وذلك بالتنصيص على أن "كمال الدوخ" هو الوزير المكلّف بالتجهيز والإسكان والبنية التحتيّة وليس "كمال أم الزين" كما ورد في القائمة المرسلة بتاريخ 24 أوت. وورد في ذات المراسلة أن "رئاسة الجمهورية لم تخطئ ولكنها تُصوّب خطأً غير مسؤولة عنه"، في إشارة إلى خطأ من المشيشي. وقد تقبل مكتب البرلمان إصلاح ما قيل إنه خطأ فيما تواترت أخبار أنه لم يكن كذلك بل يعكس تدخلًا آخر من رئيس الجمهورية.

لم يعد هناك مجال للشك بعد ما حصل علنًا من تدخل للرئيس في تركيبة الحكومة المقترحة ومن خلال طريقة التعاطي مع موضوع وزيري الثقافة والتجهيز أن حالة من التوتر تسود العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية، المشيشي وسعيّد، حتى قبل انطلاق عملهما سويًا. كما ليس من المنطق أبدًا اعتبار أن خلافًا حول اسم وزير للثقافة أو التجهيز، مع العلم أن الأسماء المقترحة لإداريين وموظفين دون أي تاريخ سياسي أو مواقف معلومة، قد يكون سبب هذا التحوّل المفاجئ في علاقة الرجلين.

في الحقيقة، لا يمكن الجزم بسبب الخلاف الأساسي أو لنقل الأبرز لكن مصادر عدة ومتقاطعة تؤكد أن  الشخصية المختارة لوزارة الداخلية قد تكون خلف هذا الخلاف أو على الأقل العنصر الأبرز فيه. يتعلق الأمر بتوفيق شرف الدين وهو شخص غير معروف في الأوساط الحزبية، درس الحقوق واشتغل كمحامٍ وقد تداول اسمه بالخصوص خلال الحملة الانتخابية لرئيس الجمهورية قيس سعيّد سنة 2019، إذ يشاع أنه أدار الحملة الانتخابية لسعيّد في منطقة الساحل.

الشخصية المختارة لوزارة الداخلية توفيق شرف الدين قد تكون خلف خلاف المشيشي ـ سعيّد أو على الأقل العنصر الأبرز فيه وهي شخصية مرفوضة من عدد من الأحزاب

شرف الدين هو إذًا من ضمن عدد من التعيينات في حكومة المشيشي المقترحة الذي يحمل إمضاء رئيس الجمهورية، لكن لما قد يُعارض المشيشي هذا الاختيار؟ يمكن تفسير الأمر بمعارضة بعض الأحزاب لهذا التعيين ومن ضمنهم قلب تونس وحركة النهضة كما قد تتوفر عناصر أخرى في الكواليس ساهمت في مزيد توتر علاقة المشيشي ـ سعيّد لدرجة القطيعة.

اقرأ/ي أيضًا:  هناء بن عبدة لـ"ألترا تونس": سعيّد وصل إلى بعض مبتغاه في تغيير النظام السياسي

31 أوت/ أغسطس 2020

اليوم الأخير قبل جلسة المصادقة على حكومة المشيشي كان يومًا حافلاً بالغرائب وكُشف فيه اللثام عن مبادرات قُدمت ومحاولات لعقد اتفاقات كانت تصب جميعها في سياق إسقاط حكومة المشيشي.

أولاً، كشف بعض قيادات حركة النهضة ومنهم رئيس كتلتها البرلمانية عن مبادرة تقدم بها حزب التيار لقيادات من النهضة خلال الأيام القليلة الماضية تدعوهم لإسقاط حكومة المشيشي مع تعهد رئيس الجمهورية بعدم حل البرلمان ومواصلة حكومة الفخفاخ تسيير البلد مع "تجديدها" بعودة وزراء النهضة وتفويض الفخفاخ صلاحياته إلى أحد وزرائه.

ثانياً، تلقى أحزاب النهضة، التيار الديمقراطي، حركة الشعب وتحيا تونس دعوة من رئيس الجمهورية للقاء بشكل عاجل في قصر قرطاج، مع العلم أن الأخير لم يستقبل قيادات الأحزاب في أي مباحثات لاختيار رئيس الحكومة المكلّف واقتصر على طلب إرسال مقترحاتهم عن بعد ولذلك كان اللقاء حدثًا لافتاً.

اتضح فيما بعد من تصريحات الحضور من ممثلي الأحزاب أن الرئيس لمّح لعقد اتفاق يقضي بإسقاط حكومة المشيشي مقابل تواصل حكومة الفخفاخ مع تغييرات سبق ذكرها في مقترح التيار، متعهدًا بعدم حل البرلمان ومحذرًا في حال تمرير حكومة المشيشي من تغيير وزراء فيها فيما بعد، لكن ما سر هذا التحذير؟

من الصفقات التي دُعي لها خلال الأيام القليلة الماضية وساندها الرئيس: إسقاط حكومة المشيشي مقابل مواصلة حكومة الفخفاخ مع "تجديدها" بعودة وزراء النهضة وتفويض الفخفاخ صلاحياته إلى أحد وزرائه

كان سعيّد يعبر ضمنيًا عن تخوفه من تغيير وزرائه، الأسماء التي اختارها بعناية ضمن حكومة توقع أنها ستكون حكومته وستأتمر بأمره كما توقع الكثيرون ذلك أيضًا، وروج مقربون منه حتى فكرة أن سعيّد بإمكانية "منع إجراء تعديلات على الحكومة"، رغم أن آخر فقرات الفصل 97 من الدستور واضحة وتنص على إمكانية التعديل من قبل مجلس نواب الشعب وفق ضوابط.

في الحقيقة، يعلم سعيّد أن لا رغبة لقلب تونس أو النهضة في حكومة اختار الرئيس جزءاً مهمًا من وزرائها خاصة إذا تعلق الأمر بوزارة سيادية كالداخلية ويعلم أن أي دعم من قبلهم لحكومة المشيشي سيكون ضمنيًا مشروطًا بتعديلات يدخلها المشيشي بعد فترة على حكومته "للتخلص"، إن صح التعبير، من رجال سعيّد فيها وهنا كل تخوفه. 

وفي الحقيقة أيضًا كان هذا الأمر جليًا للجميع، حتى أن بيانات المجلس الوطني لقلب تونس ومجلس شورى النهضة الصادرة مساء الاثنين وفجر الثلاثاء أكدا أن دعم حكومة المشيشي لا ينفي وجود تحفظات حول بعض الوزراء خاصة في وزارات السيادة.

كان سعيّد يعبر ضمنيًا عن تخوفه من تغيير وزرائه، الأسماء التي اختارها بعناية ضمن حكومة توقع أنها ستكون حكومته وستأتمر بأمره كما توقع الكثيرون ذلك أيضًا

هكذا تحولت تدريجيًا حكومة المشيشي أو "حكومة الفاتح من سبتمبر"، كما أطلق البعض عليها تندرًا، من أحضان سعيّد إلى أحضان داعميها في البرلمان وهم حركة النهضة وقلب تونس أساسًا نظرًا لوزنهما من حيث الكتل البرلمانية مع دعم كتل الإصلاح، تحيا تونس والوطنية. بينما تعارض هذه الحكومة الكتلة الديمقراطية ممثلة في نواب الشعب والتيار الديمقراطي وكتلة حزب عبير موسي وكتلة ائتلاف الكرامة.

ما عدا مفاجآت عجيبة ضمن السيناريو السريالي الذي نعيشه، ستمر حكومة هشام المشيشي هذا عن التصويت، أما عن مستقبلها وما ستعيشه من أطوار فستكون الحكومة الأكثر تعرضًا للنقد والطعن على الإطلاق. حكومة دون "أب" فمن اختار جزءًا واسعًا منها (قيس سعيّد) تبرأ منها واعتمد حتى "الصفقات" والتوافقات لإسقاطها ليلة قبل التصويت لها، وكل داعميها تقريبًا يتحفظون منذ البداية على عدد من وزرائها ويعني ذلك أن لا أحد سيتحمل مسؤولية  منجز هذه الحكومة خاصة لو كان سلبيًا.

جُرت حركة النهضة جرًا نحو خيار دعم حكومة المشيشي للمحافظة على شريكها منذ انتخابات 2019 وسندها في محنتها البرلمانية الأخيرة (محاولة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي) قلب تونس، الذي يريد التخلص من الفخفاخ وحكومته، وأيضًا أمام غياب أي ضمانات للسيناريو الآخر المدعوم من الرئيس ولو ضمنيًا والمقدم من بعض الأطراف من حزب التيار أي إبقاء حكومة الفخفاخ مع تجديدها وتعهد الرئيس بعدم حل البرلمان.

لم تضمن النهضة بتوجهها نحو خيار منح الثقة لحكومة المشيشي، رغم تحفظاتها، أي علاقة مستقرة بالضرورة مع رئيس الحكومة القادم

لكن النهضة أيضًا لم تضمن بتوجهها نحو خيار منح الثقة لحكومة المشيشي، رغم تحفظاتها، أي علاقة مستقرة بالضرورة مع رئيس الحكومة القادم. يبقى المشيشي لغزًا للكثيرين ومن بينهم النهضة. كما يبدو أيضًا أن سيناريو صراع حاد بين رأسي السلطة التنفيذية سعيّد ـ المشيشي هو بصدد التبلور في صورة مشابهة لصراع الباجي قائد السبسي ـ يوسف الشاهد في حكومة سابقة ليست بعيدة زمنيًا وربما هذه المرة بشكل مخيف أكثر  خاصة من جانب رئيس الجمهورية قيس سعيّد.

من الواضح أنها ستكون حربًا مفتوحة مباشرة إثر التصويت لحكومة المشيشي بين النهضة وقلب تونس من جانب والرئيس وأحزاب كالتيار الديمقراطي وحركة الشعب وحزب عبير موسي وغيرها قد تتلاقي معه في  بعض المسائل وتختلف في أخرى حسب المصالح والأحداث من جانب ثان، فيما لا يبدو واضحًا منهج المشيشي بعد. وبشكل عام، لا يزال مبكرًا التفصيل في مجريات هذه "الحرب" والوسائل المعتمدة فيها وانعكاساتها خاصة في ساحة تونسية متحركة بشكل يتجاوز خيال أعتى كتاب السيناريوهات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أيّ مصير ينتظر حكومة المشيشي؟ محلّلون يجيبون

هذه مواقف الكتل: هل تنال حكومة المشيشي ثقة البرلمان؟

أمام البرلمان: هشام المشيشي يقدم أولويات حكومته