19-أبريل-2020

علاج الأزمة بوصفها أزمة فقط لا بداية للتغيير لا يفيد (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

مقال رأي

 

تطرح أزمة الكورونا التي تواجهها تونس، مثل العالم منذ أسابيع، أسئلة محرجة في علاقة بقضايا عدّة يبدو الامتحان الحقيقي، للتونسيين وأجهزة الدولة، هو حين اختبارها ساعة هذه الأزمة. إن الاختبار الجدّي مثلًا للالتزام الجماعي المفترض بحقوق الإنسان يحلّ زمن الطوارئ بعيدًا عن رفاهية الزمن العادي، ومحور الاختبار إن ما كان هذا الالتزام يحظى بأولوية أو يتأخر لدرجات. ويأتي السؤال هل الحماية من الخطر تقتضي سطوة المصلحة الجماعية بالطريقة المُفكّر بها بطريقة تشرعن انتهاك الفرد؟

تطرح الأزمة المُعاشة أسئلة كثيرة وتعيد التفكير فيما ظهر سابقًا من المسلمّات بل حقائق ثابتة

لا يتعلق السؤال بمصادرة حقوق الفرد، وهي مصادرة متأصلة بعنوان العقد الاجتماعي وهو ليس محل جدل، وإن كانت هذه المصادرة تشتدّ وقت الأزمة عندما أصبحت أبسط حقوق الفرد من تنقل مثلًا ممنوعة بحكم حماية المصلحة العامة، إذ لا يطرح السؤال سلوك الدولة بل سلوك الجماعة. فإن شئنا صياغة السؤال بشكل آخر: هل ترتدّ الجماعة، ومظهرها الرأي العام بتفاعلاته المُعاينة في مواقع التواصل الاجتماعي، إلى سلوك وحشي يستدعي الدولة، بوصفها إله الضبط والزجر، لقمع "المتمرّدين"؟

راج، خلال الفترة الماضية، مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي صوّرته فتاة من شرفة منزلها يظهر اعتداءً لفظيًا وماديًا من عون أمن تجاه شاب ممن لم يحترم الحجر الصحي الشامل، وعلقّت الفتاة حال حصول الاعتداء بعبّارة "إيّه"، والتي تفيد الشماتة، وتُداول هذا المقطع بكثافة بتعليقات إشادة ومديح لاعتداء رجل الأمن. وقد أصدرت رابطة حقوق الإنسان لاحقًا بيانًا يندد باعتداءات وترهيب رجال الأمن بعنوان "لا لاستغلال الحظر والحجر للاعتداء على المواطنين".

اقرأ/ي أيضًا: "خلق لينتهز".. مبدأ تجاري أم منوال اقتصادي؟

هذا الانتشار الواسع لهذا المقطع مرُفقًا بعبارات الشماتة ليس إلا عينة من الدعوات المتتالية لمعاقبة المخالفين للحجر الصحي العام أو حظر التجول ليس بأشد العقوبات، ولكن بأكثر العقوبات لاإنسانية كي يكونوا عبرة لغيرهم، هكذا يُعلّق، وتلقى اعتداءات، وأدناها تجاوزات، أعوان الداخلية تشجيعًا لا تنديدًا من عموم التونسين، على نحو معاينة تعليقاتهم في مواقع التواصل. يبدو أن الحديث عن حقوق الإنسان في هذه الأزمة يكاد يصبح ترفًا في لحظة استدعاء للدولة الزجرية للإنقاذ.

يخفّ، في الأثناء، حضور الأزمة في الذاكرة الجماعية عمومًا وتنعدم ذاكرة محن الأوبئة خصوصًا، إذ لا يعرف التونسيون اليوم الوباء وهو طارئ قد يعيشه الفرد لمرة وحيدة في حياته، ولا يبدو أنهم مطلعين على تاريخ الأوبئة في البلاد بالخصوص في القرون الثلاثة الماضية، وبالتالي وجدوا أنفسهم يواجهون خطرًا لا يوجد تدرّب اجتماعي ونفسي على قبول إكراهاته. هذا الحدث الاستثنائي الفريد والخارق للعادة، الذي باغت أجهزة الدولة فلم تكن مستعدة في بدايته لمواجهته، باغت العموم من زاوية أن ردود أفعالهم، خاصة في بداية الأزمة، بدت كأنها إجابة عن سؤال يُطرح للمرة الأولى "ما العمل في هذا الحالة؟ لا نعرف ماذا نفعل".

لا غرو في القول إن قضية الحكم المحلي واللامركزية، بما خطّه الباب السادس من الدستور، لم تشهد اختبارًا كالذي عرفته خلال الأسابيع الماضية

يدفع زمن الأوبئة الإنسان للردّة إلى الغريزي ما قبل المدني، حينما تغلب غريزة التدافع من أجل البقاء على تبني الاعتقاد بقيمة مواطنية، وترتفع الحاجة إلى الخلاص الفردي على حساب المصير الجماعي سواء بالنسبة للمجموعة الوطنية أي في تصرّفات الناس فيما بينهم أو بالنسبة الدولة في سلوك الدول فيما بينها، وهو ما يفسّر أن الأيام الأولى لأزمة كورونا طغت عليها التصرفات الفردية الأنانية من أجل ضمان البقاء/الغذاء قبل أن تأتي لاحقًا مبادرات التضامن الاجتماعي لتعدّل الكفة عدا عن تدارك أجهزة الدولة التي ظهرت أنها لم تكن مستعدة لمواجهة جائحة عالمية، وهو ما أعاد، إلى حد ما، الانصياع لفكرة الجماعة، بوصفها وحدة مجتمعية لا يمكن النجاة خارجها.

اقرأ/ي أيضًا: ما بعد الكورونا؟ توقعات متضادة

تطرح الأزمة المُعاشة أسئلة كثيرة وتعيد التفكير فيما ظهر سابقًا من المسلمّات بل حقائق ثابتة، وبات الحديث عن ما بعد الكورونا أقرب لحديث وعيد وثأر لا استشراف وتبيّن. ولكن، ما يهمّنا في المسار الجماعي الذي يخوضه التونسيون منذ عشر سنوات بعد الثورة، أنها تطرح أسئلة حول الوعي الجماعي لتصوّرات ومفاهيم عدّة منها التشاركية وحقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية، ولكن الأهم بخصوص واجبات الدولة.

لا غرو في القول، في جانب متصل، إن قضية الحكم المحلي واللامركزية، بما خطّه الباب السادس من الدستور، لم تشهد اختبارًا كالذي عرفته خلال الأسابيع الماضية وبالخصوص في حدود العلاقة المُلتبسة للسلطات المحلية بسلطة المركز. جاء حديث رئيس الجمهورية، في الأيام الأولى للأزمة، منتقدًا قرارات بعض السلطات معتبرًا أنها تتعارض مع وحدة الدولة. وبدا الاختلاف في التقدير بين الهياكل المحلية من جهة والهياكل اللامحورية من جهة أخرى، كاشفًا عن عدم قدرة الفاعلين السياسيين والإداريين، مركزيًا وجهويًا ومحليًا، على تبيّن صياغة تشاركية للقرار والتنفيذ، إذ ظهرت أجهزة الدولة غير قادرة على التحرك الجماعي والمتناغم لاستيعاب لحظة الأزمة، وتلك ليست خصوصية تونسية قطعًا.

ستفيد أزمة كورونا "نموذجنا" الديمقراطي، والكرة في ملعبنا لتحديد خياراتنا، في كل المجالات، بكل شجاعة ولنواجه ما كان مُحرجًا ومؤجلًا

هذه الأزمة ربما هي تمرين فردي لقدراتنا النفسية في الحجر الصحي، ولكن الأهم أنها تمرين جماعي لنفكّر فيما لم نُفكّر به، وهو اختبار لا يهم المواطنين فقط ولكن أيضًا النخبة السياسية. ربما من المفيد أن يعرف بلدًا يعيش في "الانتقالي" سياسة واقتصادًا وغيرهما منذ سنوات، أزمة كالكورونا ذلك كي تطبع أكثر في مجهود هذا التحوّل: الانتقال الديمقراطي المؤسساتي مع التحولات في الجهاز التنظيمي للدولة مع سلطة محلية لم تكتمل بعد في انتظار الانتخابات الإقليمية والجهوية التي طال انتظارها، وأيضًا الانتقال المُتحدث عنه دائمًا في المنوال الاقتصادي، بل مع انتخابات أخيرة عنوانها الأوحد هو التغيير مع رئيس دولة يطرح مشروع لإعادة بناء تصوّرنا للدولة.

بالنهاية، لا شيء يبدو أنه يعزّز الأنظمة ويقوّي عودها إلا مرورها باختبارات عسيرة تخلف دروسًا لا هرب من الاتعاظ منها. ستفيد أزمة كورونا "نموذجنا" الديمقراطي، والكرة في ملعبنا لتحديد خياراتنا، في كل المجالات، بكل شجاعة ولنواجه ما كان مُحرجًا ومؤجلًا. طبعًا ستنهك هذه الأزمة فيما هو منهك أصلًا بمعنى أرقام الاقتصاد والمؤشرات الاجتماعية، ولكن يجب أن نحوّل الأزمة إلى فرصة ببساطة. صحيح أن الكلام جميل ويراود ولا نكران، ولكن فلنحاول، فعلاج الأزمة بوصفها أزمة فقط لا بداية للتغيير لا يفيد في كل الأحوال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"ذكورية الكورونا".. أو حين تحمل الأنثى وزر الأوبئة

الإنسان والمجال المكورن