06-أبريل-2020

أسئلة عميقة تطرحها أزمة الكورونا (Getty)

مقال رأي

 

على مدى تاريخ الإنسانية، كان للأوبئة دور كبير في التغييرات الجوهرية التي طالت الأنظمة السياسية، إذ يعتبر الموت وحده الحقيقة الراسخة حسب تعبير نجيب محفوظ، ويؤدي سعي البشر لتلافيه واجتنابه في كل مرة إلى مراجعات جذرية لأسس الحكم في المجتمعات فيهوي منها ما يهوي لتحل محلها تنظيمات وأفكار جديدة.

 يعتبر الموت وحده الحقيقة الراسخة حسب تعبير نجيب محفوظ، ويؤدي سعي البشر لتلافيه واجتنابه في كل مرة إلى مراجعات جذرية لأسس الحكم في المجتمعات

جاوز عدد المصابين بفيروس كورونا المليون حالة وقت كتابة هذه السطور يتوزع جلهم بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، مركزا صناعة القرار في العالم. لا شك أن القرارات التي ستُتخذ في هاتين المنطقتين ونتائجها ستحمل تداعيات ملموسة وتأثيرات واضحة في عالم "ما بعد الكورونا". وفي الحقيقة، يتقلب صناع القرار في العالم بين التجربة الصينية في "قمع" الفيروس وما يصاحب ذلك من ديكتاتورية القرار باعتبار مركزية الحكم هناك وجوهره الشيوعي، وتعامل الديموقراطيات الغربية اللين نسبيًا مع الفيروس جراء حسابات اقتصادية رغم تحذيرات الخبراء.

قديمًا، كان لوباء الطاعون دور في تضاءل دور رجال الدين لصالح رجال الشرطة آنذاك إذ كان لهم الفضل في أن يلزموا الناس والمصابين بيوتهم للحد من العدوى وانتشار الوباء، كما دفع بعجلة البحث العلمي ومراجعة الكثير من المرجعيات القائمة على الإيمان الميتافيزيقي. وحل الشرطي محل الكاهن وانتقل الناس من سلطة الدين والرهبان إلى سلطة القوة، ثم حلت بعد سلطة أكثر فاعلية، وهي سلطة احترام القانون الذي كانت نتيجة لبزوغ فجر عهد الأنوار والعقد الاجتماعي وعصر الحريات العامة. فكيف تغيرت السلطة بعد ذلك؟ وما التأثير المتوقع لهذا الوباء على الصعيد الإنساني العالمي؟ وكيف ستؤثر الحلول المطروحة في النظم الكونية السائدة؟

شرطة الصابون والسلطة للأطباء

لا يختلف اثنان أن الدعوة العالمية من الكل وللكل لغسل اليدين بالصابون وملازمة البيوت هي الحل الوقائي الوحيد في الوقت الحالي. وعلينا أن نتذكر أن هذا التقليد الصحي، غسل اليدين بالصابون، لم يكن مطروحًا قديمًا إلا منذ القرن 19 عندما كانت العمليات الجراحية قبل ذلك تجرى دونما غسل لليدين، ولكن نتيجة لدراسات صحية وطبية، اتضح الدور الفعال للصابون في إزالة الفيروسات والبكتيريا.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان والمجال المكورن

ويحلّ أيضًا دور الإطارات الطبية وقطاع الصحة بصفة عامة، وهو ما دفع الأطباء ومختصي الفيروسات والباحثين إلى الواجهة لقيادة الحرب ضد الكورونا، وتصدر المشهد الإعلامي حول العالم عوض السياسيين. فاختار الجميع أن ينتظر تصريحاتهم ونتائج مختبراتهم بدل أن يهرعوا إلى المعابد كما كانت العادة في العصور الوسطى إذا اشتدت الأزمات فيسكنهم رجال الدين، أو أن ينصتوا إلى سياسيين فيطمئنوهم بأن الوضع تحت السيطرة إلى أن تأتي الكارثة أمرًا واقعًا كما في حالة الحمى الإسبانية زمن الحرب العالمية الأولى إذ أصرت القوى المتصارعة على كتمان الموضوع مخافة خسارة الحرب.

أما عن الحجر الصحي العام الذي تم اعتماده في مرات سابقة، فهو فريد من نوعه هذه المرة، إذ تم مثلًا في تونس، كما في دول أخرى، تحت طلب الجماهير، فلأول مرة في التاريخ تطلب الشعوب والمجتمعات من أنظمتها أن تصادر حقوق مقدسة وثمينة كالحرية في التنقل والسفر وحق الاجتماع و التجمهر، حقوق طالما أسيلت دماء و أسيل حبر في سبيلها، وهاهي اليوم تصادر وبتفويض شعبي مطلق، مما يحلينا إلى التساؤل عن مدى مغبة وخطورة التفويض الشامل والكامل للحكومات في وقت الأزمات خاصة أنه الوقت المناسب تاريخيًا لتمرير ما لا يمكن أن يمر في الحالة العادية؟

مراقبة "تحت الجلد"

لا شك أن العديد قرأ أو سمع برواية جورج أوروال "1984"، ومراقبة نظام "البيغ براذر" الشامل لسكان "أوسينيا"، وهي رواية تلقي الضوء على المراقبة الشاملة والكلية للمجتمع. في زمن كتابة هذه الرواية، كما يقول المؤرخ يوفال نوح هراري في مقاله، استحال على "الكي جي بي" مراقبة 240 مليون مواطن سوفياتي على مدار 24 ساعة لأن المراقبة كانت تعتمد على العملاء والتقارير، وكما أسلفنا فإن الحروب والأزمات هي أفضل مناخ لتجريب ما لن يسمح به أبدًا في السلم، وفي الأزمة الراهنة، فنحن نتحدث عن أدوات المراقبة الرقمية التي أطلقت مؤخرًا.

يكمن الخوف في أن تعمد بعض الحكومات في المستقبل إلى اعتماد تقنيات المراقبة الشاملة لحصر فيروس وهمي قصد تقييد حرية مواطنيها وانتهاك خصوصيتهم

قامت الحكومة الصين إبان انتشار الفيروس في مدينة ووهان بتفعيل أجهزة وأنظمة المراقبة الشاملة والكلية، إذ نشرت آلاف كاميرات المراقبة المجهزة بأجهزة لقياس الحرارة والتعرف على الوجوه أيضًا لتحديد المصابين و تتبعهم. كما عمدت إلى الولوج إلى الهواتف ونشر تطبيقات لمتابعة حرارة أجسام المواطنين غير المصابين قصد التفطن إلى المصابين عن طريق العدوى، كما تعمد هذه التطبيقات إلى تحذير ممتلكيها من وجود مصاب محتمل بالكورونا يقترب منهم ليبتعدوا عنه، وبهذا نجحت الصين في قمع المرض وإثبات فاعلية نظام المراقبة خاصتها.

من جهة أخرى، نجحت بعض الأنظمة الديموقراطية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة في مجابهة الفيروس وحصره، فقد عمدت إلى استعمال كاميرات لقياس حرارة مواطنيها في الشوارع وحصر المصابين لكن دون انتهاكات إذ لم تعمد لانتهاك خصوصية الهواتف مع التركيز على الشفافية في التعامل ونشر المعلومات، وهو ما يؤكد على أن المواطنة الفاعلة والثقة المتبادلة مع الحكومة هما الحل لمجابهة الفيروس في الأنظمة الديموقراطية، عكس ما يحدث في الصين من تعتيم وكتمان.

اقرأ/ي أيضًا: الكورونا تبيح المحظورات

وبالعودة إلى خطر التكنولوجيا الصينية، يكمن الخطر في تأثير هذه التقنيات على الحريات مستقبلًا انطلاقًا من احتمالية "المؤقت الذي يدوم". فعلى سبيل المثال في تونس، تم إطلاق حالة الطوارئ في البلاد إثر اندلاع الثورة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، ولكنها مستمرة بعد 10 سنوات. فلنتخيل مستقبلاً أن الحكومات ستتمكن من الولوج إلى الهواتف، والتي زاد ذكائها بصفة عالية، فعلاوة على أنها ستتمكن من معرفة ميولاتك السياسية والاجتماعية والجنسية أيضًا، فإن ستتمكن من معرفة حرارة جسمك وتفاعلاتك مع الأخبار التي تعرض في شاشة هاتفك والتي تقف أمامها أكثر وقت.

تخيّل نظامًا شموليًا كنظام كوريا الشمالية أو مصر أو روسيا، أين سيتمكن عملاء النظام من رصد آثار خطاب الرئيس أو إذا ارتفعت حرارة جسم الشخص دون أن يكون مريضًا، آمل أن الصورة واضحة؟ إذًا، فالخوف يكمن في أن تعمد بعض الحكومات في المستقبل إلى اعتماد تقنيات المراقبة الشاملة لحصر فيروس وهمي قصد تقييد حرية مواطنيها وانتهاك خصوصيتهم ومحاصرة خصومها السياسيين. ومع تطور الذكاء الاصطناعي ووتيرة التطور العلمي المتسارعة، أظن أن 2084 ستكون أفدح وأخطر من 1984 باعتبار السيناريوهات المماثلة.

دعوة لدكتاتوريات بطعم العولمة

عاد رئيس الوزراء البريطاني السابق غوردن براون إلى الدعوة لحكومة عالمية للصحة بعد فشل دعوته السابقة في حكومة مالية عامية إبان الأزمة العقارية الأميركية في 2008 حسب ما كتبه تياري مايسان في مقاله، والذي أبدى تخوفه من القوة والسلطات التي ستمنح للدول الأعضاء بهذه الحكومة العالمية. وهو يرى أنها لن تقوم بأفضل مما تقوم به الحكومات الوطنية حول العالم، ولكن هذا يحملنا إلى التفكير في عدة خيارات مطروحة مثل: هل من الأفضل أن تمضي كل أمة وبلاد في عزل ذاتي وتتصرف محليًا حسب قدراتها وإمكانياتها على خلاف هذا التضامن العالمي الجماعي تحت قيادة منظمة الصحة العالمية؟

كلنا في سفينة واحدة

لا شك أن فيروس كورونا في إيطاليا لا يستطيع التواصل مع فيروس كورونا في إيران، ولكن الطبيب الكوري يستطيع التواصل مع الطبيب الأنجليزي فيخبره بما يستطيع أن يتفاداه في تعامله مع المرضى خاصة إذا استعصت عليه حالة كان قد تعرض لها الكوري سابقًا فلا يضيع الأنجليزي وقته باعتماد المبدأ التراكمي للمعرفة. والمراد هنا هو الإشارة إلى أن ما تقوم به البشرية الآن من جهود تضامنية لمساعدة ومؤازرة بعضها البعض هو أفضل حل، وقد ساهم إلى حد ما في السيطرة على انتشار الفيروس.

والإيجابي في الأمر إلى حد الآن أن قادة العالم فهموا أن هذا هو أكبر تحد للنظام الرأسمالي، وأنه يمكن أن يتداعى جراء هذه الأزمة ولذلك هرعت الكثير من الحكومات الليبرالية بمساعدة أصحاب المليارات إلى لعب أدوار اجتماعية وحث الشركات على مساعدة موظفيها تقنيًا واعدة إياها بإعفاءات ضريبية مستقبلًا.

 تبقى الكثير من الأسئلة والفرضيات محل نقاش في انتظار انفراج الأزمة وما ستؤول إليه الأوضاع بعدها

في الحقيقة، أرى أن ما يجب العمل عليه الآن هو التوجه إلى الإنتاج الكمي للمعدات والتجهيزات الطبية، بعد أن عمدت بعض الشركات الطبية إلى التخلي عن الحقوق الفكرية لمنتجاتها قصد تمكين الجميع من إنتاجها، ومؤازرة الدول الأقل تضررًا للدول الأكثر تضررًا، فهذا تحد للإنسانية جمعاء وميزة هذا الفيروس العدل والمساواة فهو لا يفرق بين الجميع.

إن انقضت الجائحة وستنقضي، فلا شك أن السلطة السياسية ستنتمي مستقبلًا كما قال جاك أتالي، المستشار السابق للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، إلى أولئك الذين أبدوا تعاطفهم مع الناس، كما سترجع الهيمنة إلى القطاعات الاقتصادية التي أبدت تعاطفها مع الناس كالقطاعات الغذائية والصحية، بعد أن كان في النصف الأول من القرن الماضي من نصيب العسكريين، نظر للحروب حينها، ثم الحقوقيين في النصف الثاني، حيث كان فترة الحريات والحقوق.

في الختام، تبقى الكثير من الأسئلة والفرضيات محل نقاش في انتظار انفراج الأزمة وما ستؤول إليه الأوضاع بعدها، ولكن من المؤكد أنه لو انتصرنا وخرجنا بخسائر قليلة، سيكون انتصارًا ساحقًا للبشرية أمام الكثير من الأوبئة مستقبلًا. ويبقى الأهم هو المراجعة أي مراجعة كل الأسس والمفاهيم التي أدت بنا إلى مثل هذه الحالة، ومراجعة عاداتنا الاستهلاكية الإدمانية، فنخفض من ضغطنا على الكوكب والطبيعة، وأن نستثمر حياتنا في المستقبل في أشياء ذات قيمة مما يجعل مرورنا على هذا الكوكب مؤثرًا وقيمًا، وأن نضع التحول الإيكولوجي في هرم الأوليات والأهم، هو أن نتعظ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الخوف من القذف: برلمان في زمن الكورونا

أزمة "كورونا" ومستقبل الصحافة والميديا التونسية