09-أبريل-2020

يصر البعض على اعتبار الأنثى مصدر الأوبئة (صورة تقريبية/ getty)

مقال رأي

 

عدّلت الكرة الأرضية، منذ أواخر سنة 2019، ساعتها على توقيت فيروس كورونا المستجد، الذي أخذ العالم على حين غرّة، فظهر في مدينة ووهان الصين لينتشر في غضون أشهر معدودات في ربوع المعمورة، رغم كل الإجراءات التي تم اتخاذها من مختلف الدول، ولئن كانت معظمها متأخرة.

ورغم ما أثاره هذا الفيروس من جدل كبير، حيث أصبح الشغل الشاغل لكل سكان الأرض وحديثهم اليومي، إلا أنه ليس أول وباء يعرفه العالم الذي شهد على مدى قرون عدة جوائح على غرار الطاعون والإيبولا والإنفلونزا الإسبانية، فضلًا عن الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وأعاصير.

على الرغم من التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده ويشهده العالم منذ سنوات فإن التفسيرات الغيبية للأوبئة والكوارث مازالت حاضرة بقوة

اقرأ/ي أيضًا: ما بعد الكورونا؟ توقعات متضادة

وإزاء كل هذه المحن التي اختبرتها البشرية، تصرّ فئة على البحث عن تفسيرات لاهوتية، غيبية، ولا منطقية لتفسير الكوارث التي تحصل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد اعتبر بعض المسلمين أن الطاعون هو عقاب إلهي وسهام من الجن يغرسونها في البشر، بتسليط من الله، عقابًا لهم على فجورهم وفسادهم. فيما ذهبت بعض التفسيرات إلى ربط الطاعون بانتشار الزنا وتزيّن النساء وتجولهن سافرات الوجوه.

وعلى الرغم من التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده ويشهده العالم، منذ سنوات، فإن التفسيرات الغيبية للأوبئة والكوارث مازالت حاضرة بقوة، غير عابئة بكل التفسيرات العلمية. ومع انتشار وباء كورونا في العالم ومن ثم في تونس، تواترت تعليقات تؤكد أن ما يحصل هو عقاب سلّطه الله على البشر لما يرتكبونه من "خطايا وفجور وفساد".

الأمر لا يقف عند هذا الحدّ، فمخاطبة فئة كبيرة من الشعب التونسي، أو حتى الاكتفاء بقراءة تعليقاتهم الفيسبوكية على بعض الأخبار المنتشرة في صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي، كفيلة بإظهار مدى تجذّر العقلية الذكورية والبطريركية في نفوس عدد لا يستهان به من المواطنين التونسيين. فجلّهم يحمّل مسؤولية الوباء لما يطلقون عليه "تقرير بشرى" – في إشارة إلى تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة التي ترأستها بشرى بلحاج حميدة-، وقد يذهب بعضهم إلى القول إن "النساء السافرات اللواتي يتجولن في الطرقات ويعملن في وظائف يجب أن تكون أساسًا لجنس الذكور وأهملن بيوتهن وغادرن مطابخهن، واللواتي يجلسن في المقاهي أو يقضين لياليهن في المطاعم والحانات، أو يسبحن بلباس سباحة فاضح.. هن سبب الكورونا".

بل حمّل البعض مسؤولية تفشي الوباء في تونس إلى جنازة الناشطة والمدونة لينا بن مهني، والتي حملت نعشها نساء قدن بكل اقتدار ومحبة صادقة الموكب الجنائزي في مشهد مثّل سابقة في العالم العربي والإسلامي، وأسال حبرًا كثيرًا حينها.

الأنوثة.. المتهمة الأولى والأخيرة

لا يخفى على أحد أن العقلية الذكرية المتجذرة في كل المجتمعات، وبشكل خاص المجتمعات العربية التي لا يمثل الشعب التونسي استثناء لها، لا ترى في المرأة سوى جسد يفتقر "للعقل"، لا شغل له إلا إرضاء "رغبات ونزوات" الذكر، فتقتصر مهمته على الاهتمام بشؤون المنزل من تنظيف وطبخ، إلى جانب إنجاب الأطفال والاهتمام بهم، وإشباع الرغبات الجنسية للذكر، متى أراد ذلك، دون الأخذ في الاعتبار رغبتها أو حاجياتها.

والأنثى، تمثل لدى العائلات والأفراد المحافظين، "شيئًا" خطيرًا ينبغي المحافظة عليه منذ ولادتها وخلال ترعرعها في بيت أسرتها وصولًا لتزويجها، فهي تمثل "ثقلًا" على الأب والأخوة والحفاظ على "شرفها" صون لـ"شرف العائلة"، وحين تبلغ سن الزواج تصبح ملكية لزوجها يعاملها كما يشتهي وعليها أن تتحمل جبروته وعنفه "سترة لنفسها وحفاظًا على أسرتها وأبنائها".

جسد الأنثى لا يزال إلى غاية اليوم، ينظر إليه كـ"عورة" ينبغي إخفاؤها و"عار" أبدي

اقرأ/ي أيضًا: الكورونا.. الصحة مقابل الحرية

هي سلسلة مرتبطة متواصلة تدور في حلقة مفرغة، ومنها يأتي تبرير التحرّش والاغتصاب وتحميل الضحية مسؤولية ما حصل لها، ومنها أيضًا ينبثق احتقار الجسد الأنثوي واشتهاؤه، في آن واحد، مما يشكّل مقاربة عجيبة تمثل باختصار سكيزوفرينيا النظام الأبوي.

وجسد الأنثى ما يزال إلى غاية اليوم، ينظر إليه كـ"عورة" ينبغي إخفاؤها و"عار" أبدي، ولعلّ ذلك يبرز خصوصًا في نظرة المجتمع للمثليين جنسيًا أو المتحوّلين أو "الكوير"، أو حتى كلّ ذكر تبدو عليه ملامح أنثوية أو يتصرّف بطريقة يعتبرونها "رقيقة وتشبّهًا بممارسات النساء"، حتى أن رقص الرجل يمثّل تشبّهًا بالنساء ومن شأنه أن يهز عرش الرحمان.

ولعلّ أبرز مثال على ذلك الفنان والراقص رشدي بلقاسمي، والذي كان بادر مع تفعيل إجراءات حظر التجول والحجر الصحي العام في تونس، إلى بث فيديوات مباشرة يرقص فيها من منزله ويعلّم مشاهديه حركات الرقصات التونسية، خلال هذه الفترة، لحثهم على ملازمة منازلهم والتخفيف من وطأة كآبة الحجر الشامل.

ولئن لم يكن بلقاسمي غريبًا عن الجدل الذي يثيره ظهوره في كلّ مرّة، منذ أن أثبت اسمه كفنان مبدع في مجاله، فإن بعض التعليقات اعتبرت أن ما يقوم به رشدي بلقاسمي سيزيد من وطأة الأزمة، وأن تشبّهه بالنساء من خلال حركاته الراقصة سيؤدي حتمًا إلى نهاية العالم واقتيادنا إلى الجحيم فورًا.

هذه الآراء والتعليقات تشير بدقة إلى كيفية تقسيم الأدوار التي عمل النظام الأبوي الذكوري على تكريسها في الإنسانية، فالرقص، وما قد يرافقه من حركات و"غنج"، هو نشاط تمارسه الأنثى حصرًا باعتبار أنه، وفق هذا التقسيم، لجسدها أدوار يحدّدها الذكر.

سيمون دو بوفوار:  المجتمع هو الذي ساهم في خلق الصورة النمطية للمرأة لتكون أنثى خاضعة للرجل

وتشير الكاتبة والمفكرة الفرنسية سيمون دو بوفوار، في هذا الإطار، إلى أن الرجل لا يفكر في تقديم نفسه كفرد من جنس معيّن، فهو رجل وكفى، والذكورة هي النمط والقالب والإنسانية هي الرجل والذكر، أما الأنثى فهي جنس آخر ومكانة المرأة في المجتمع أنثى لا أقل ولا أكثر، أي أنها جنس ثان بعد الرجل. وتتطرّق دو بوفوار، في كتابها "الجنس الآخر"، إلى بعض الادعاءات التي تفسر دونية المرأة من خلال مقارنة ذلك مع دونيتها في العملية الجنسية.

وتقول الكاتبة الفرنسية "إن المجتمع هو الذي ساهم في خلق الصورة النمطية للمرأة لتكون أنثى، خاضعة للرجل، صنعها المجتمع لتكون جنسًا آخر، ألغى شخصيتها وطمس إنسانيتها، واعتبرها أنثى بالمفهوم المطلق جسدًا كمتاع، حسب أهوائه".

فالذكورية التي تسكن أوصال كل المجتمعات، لا تنظر للمرأة إلا كجسد أنثوي يجوز امتلاكه واستغلاله بالطريقة التي يريد بها الذكر ذلك. أما إذا وضعت الذكورية عباءة الدين، فالنتائج ستكون بلا أي شك كارثية، فهي إلى جانب الأدوار المسنودة إليها، وفق التقسيم الذكوري للأدوار، قادرة على اقتياد عائلتها إلى الجحيم إذا لم تلتزم بتعاليم بالية على غرار التزام المنزل وتعمد إخفاء جسدها الأنثوي وملامح جمالها، عن المجتمع حتى توقظ الغريزة الحيوانية لدى الذكور.

إلا أن التطور في العالم، والحركات النسوية التي ساهمت في تحرّر المرأة، جعلت من خروج المرأة وتنقلها للعمل وتحصّلها على جملة من الحقوق والحريات، سواء كانت سياسية أو عامة أو فردية، جعلت فئة الذكوريين تختبئ وراء ستارة اتهام النساء بـ"ارتكاب الفاحشة" ومخالفة التعاليم الدينية، بل أن بعضهم يصف الرجال المساندين لقضايا المرأة بـ"الديوث". وهم أيضًا يحملونهم تبعات ما يحصل في العالم من كوارث، فالجسد الأنثوي، والأنوثة بمختلف تجلياتهم، وفق تفسيراتهم الدينية- الأخلاقوية، إلى جانب التيار النسوي المدافع عن قضية المرأة ومجتمع الميم وكل الفئات المهمشة، مصدر الجوائح ومنبع الكوارث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الخوف من القذف: برلمان في زمن الكورونا

الإنسان والمجال المكورن