01-أغسطس-2022
قيس سعيّد

تغوّل المنطق المؤامراتي في حوالي 150 خطابًا لسعيّد وغلبت عليها أفعال مبنية للمجهول (أ ف ب)

مقال رأي

 

بنبرة حادة، يتحدث قيس سعيّد في خطاباته عن أشباح وكائنات هلامية وقوى خفية ومضادة وغرف مظلمة، تحوك المؤامرات ضد الشعب والوطن لضرب الدولة التونسية حينًا، وقوت التونسيين حينًا آخر.. ليس هذا فقط، بل وذهب قيس سعيّد في خطاباته المتشنجة منذ 25 جويلية/ يوليو 2021 إلى تكفير معارضيه وتخوينهم بتسميتهم "جيوب الردة" و"الجوائح السياسية" و"الخونة" و"المنافقين" و"السرطانات" و"الأفاعي" وغيرها من الاتهامات غير المباشرة الموجهة لقوى خفية لا يعلمها إلا هو، ولنأمل أنه هو نفسه يعلمها. 

ذهب سعيّد في خطاباته المتشنجة منذ 25 جويلية 2021 إلى تكفير معارضيه وتخوينهم بتسميتهم "جيوب الردة" و"الجوائح السياسية" و"الخونة" و"المنافقين" و"السرطانات" و"الأفاعي" وغير ذلك

ما يقارب 150 خطابًا، تغوّل فيها المنطق المؤامراتي وغلبت عليها أفعال مبنية للمجهول وضمير الغائب، وجد فيها رئيس السلطة القائمة تفسيراً سهلاً لكل ما عجز عن حسمه أو فهمه وغيّب فيها الأسباب الحقيقية للمشكلات والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد. حيث سخّر طاقته الكلامية لخياطة وسادة خالية ينام عليها وتبرّر عجزه أو فشله في الوفاء بوعوده في محاربة الفساد والاحتكار خاصةً تلك التي تهم معيشة التونسيين والاقتصاد الوطني. 

  • التفكير المؤامراتي

"بدائل خيالية لما هو سائد"، هكذا عرّف باختصار أستاذا علم الاجتماع النفسي دوغلاس وساتون، نظرية المؤامرة، ويعرّفها مايكل باركون، أستاذ العلوم السياسية في كلية ماكسويل للمواطنة والشؤون العامة أنها تعتمد على ثلاثة مبادئ: لا شيء يحدث بالصدفة، لا شيء يظهر على حقيقته، وكل الأشياء مترابطة. 

على سبيل المثال، يردد النظام السوري منذ سنوات أن الغرب وراء الثورة عليه، في حين يصر الثوار على أن هناك مؤامرة لإفشال ثورتهم والإبقاء على الأسد، كما غلب الحديث عن بروتوكولات حكماء صهيون وتأثير الماسونية والتدخل الخارجي في ثورات الربيع العربي داخل الشارع العربي والتونسي.

لم تخل الخطابات الرسمية لمن حكموا تونس طوال السنوات الفارطة من التفكير المؤامراتي، مرورًا بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الذي برّر عنف سلطته فترة الثورة التونسية واتهم "مجموعات عنف وسطو ونهب" و"عصابات ومجموعات من المنحرفين" في خطابه الأخير، إلى المنصف المرزوقي الرئيس الأسبق الذي تحدث في العديد من المناسبات أثناء فترة رئاسته وبعدها عن مؤامرات تحاك ضده، وتحدث لطفي زيتون حين كان مستشاراً سياسياً لحكومة حمادي الجبالي عن مؤامرة تحاك من أطراف سياسية بالتعاون مع دول غربية لإسقاط الحكومة عبر التخطيط لعملية انقلاب. الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي لم تفارق المؤامرة هو الآخر خطاباته، خاصة فيما كان يتعلق بوضعه الصحي والاحتجاجات التي تواصلت لثلاث سنوات ضد "قانون المصالحة". 

  • سعيّد يريد سلطة دون مسؤولية 

نحن لا ننفي تمامًا وجود المؤامرة، فالتاريخ خير شاهد على وجود مؤامرات حقيقية، كما أن لجريمة المؤامرة وجود قانوني في المجلة الجزائية التونسية من الفصل 68 إلى الفصل 70، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى اعتبارها من الجرائم ذات الصبغة السياسية لاستهدافها المباشر أو غير المباشر للأنظمة السياسية السائدة في دولة ما. لكن الرئيس قيس سعيّد انتقل بالمؤامرة إلى مربع جديد، إذ أنه لا ينفك عن تفسير كل الأزمات الداخلية بأنها مؤامرة أو مخطط لإسقاط إرادة الشعب والعودة به إلى ما أسماه "عشرية الخراب". 

سعيّد انتقل بالمؤامرة إلى مربع جديد إذ أنه لا ينفك عن تفسير كل الأزمات الداخلية بأنها مؤامرة أو مخطط لإسقاط إرادة الشعب وفقه

ثم نجد "الذين يتآمرون"، وهو مصطلح يستخدمه الرئيس للإشارة إلى مجموعة منتشرة في كل مكان تعارض ما يزعم أنه "تصحيح مسار الثورة" و"الانفجار الثوري غير المسبوق". الفرق هنا هو المبالغة في قراءة الأحداث أو سطحية تفسيرها وفق هذه النظرية والخلط المتعمد الذي ينتهجه رئيس الجمهورية بين طبخ الأحداث نفسها واستغلالها لتغيير الاتجاهات الشعبية. 

وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أرجع قيس سعيّد في خطابه من وزارة الداخلية، أزمة الحبوب والمواد المرتبطة بها أساسًا، إلى وجود "محتكرين" واعتبر أنّ "عمليات الاحتكار للمواد الغذائية هي بفعل فاعل وأنّ الأمر غير عادي". في حين أن للحرب الروسية في أوكرانيا انعكاسات سلبية على إمدادات القمح والحبوب في السوق العالمية، تونس التي تستورد أكثر من 60% من استهلاكها من القمح من طرفي النزاع، تعاني من إشكالات التزود بسبب التأخر في توفير السيولة اللازمة لتسديد مستحقات دفعات من القمح، ما تسبب في تعطل تفريغ شحناتها في أكثر من مناسبة. في حين أن الدولة ممثلة في ديوان الحبوب هي المحتكر الوحيد لعملية توريد الحبوب في تونس. 

وجود التفكير المؤامراتي المتزايد في خطابات الرئيس يفسَّر بتزايد الصراع على السلطة، والغريب أنّ سعيّد ينكر ضمنيًا تحكمه في كل السلطة أو عدم قدرته على تسيير الدولة

إذًا هذه ليست مؤامرة بقدر ما هي سوء تسيير وضعف استشراف للأزمة، وليست سوى قرارات سعيّد نفسه، تعكس عقليته، وبساطة فهمه للأزمة وللعالم حوله، وعند غياب الوعي والاعتراف بالأسباب الحقيقية للأزمات، يصبح الوصول إلى حلول أبعد وشبه مستحيل.

وجود التفكير المؤامراتي المتزايد في خطابات الرئيس يفسَّر بتزايد الصراع على السلطة، سعيّد يعتقد في ثنائية الخير والشر، الشياطين والملائكة، وهو ما يدفعه إلى التفكير أو إيهام الجماهير أن الجميع ضده، وأنّ كل ما يحدث مترابط ولا صدفة فيه، ما يعيدنا إلى تعريف مايكل باركون لنظرية المؤامرة. إلا أن الغريب في الأمر أنه ينكر ضمنيًا تحكمه في كل السلطة، أو عدم قدرته على تسيير الدولة وهو ما يعفيه من تحمل المسؤولية.

الصعوبة في إدراك كيفية عمل من يمسكون بزمام السلطة، يشكل بيئة مثالية لتصديق نظريات المؤامرة وسط انغلاق مؤسسة رئاسة الجمهورية على نفسها

من ناحية أخرى، يشكل منهج التفكير وفق نظرية المؤامرة أداة فعالة ضمن نمط الحكم السلطوي الذي يؤسس له قيس سعيّد والذي يتعارض مع الديمقراطية ويشكل تهديدًا حقيقيًا للنظام الديمقراطي ولقيم حقوق الإنسان لتجييش الشعب، وتخويفه من أطراف وأعداء غامضين لتبرير إخفاقاته في إيجاد حلول عملية لأزمات التونسيين في فترة تفرده بالسلطة. وفي ظل غياب مصادر موثوقة والوصول المفتوح إلى المعلومات، وانغلاق مؤسسة رئاسة الجمهورية على نفسها، ليس هناك ما يوقف صعود نظريات المؤامرة خاصة أن المجتمع التونسي يواجه صعوبة في إدراك كيفية عمل من يمسكون بزمام السلطة، ما يشكل بيئة مثالية لتصديق نظريات المؤامرة.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"