20-يوليو-2022
الاستفتاء في تونس

الأماكن المخصصة للتعليق خلال حملة الاستفتاء من قبل هيئة الانتخابات في سوسة خالية من البيانات (ماهر جعيدان/الترا تونس)

مقال رأي

 

يحمل الاستفتاء على مشروع الدستور يوم 25 جويلية/يوليو 2022 مفارقات عديدة منها اتجاه الأنظار إلى نسبة المشاركة أكثر من نتيجة الاستفتاء ذاته، باعتبار أن سياق الاستفتاء برمّته هو سياق غير ديمقراطي وبالتالي فنتيجته مدبّرة بحسب مخطط الجهة الداعية له. لا يبدو الرئيس التونسي قيس سعيّد، حتى الساعة، معنيًا بنسبة المشاركة، من خلال غياب هذه المسألة في خطابه السياسي وكذلك في النصوص القانونية المنظمة للاستفتاء. وهو غياب وإن يأتي في سياق عدم وضع أي مطبات لإقرار دستوره، فهو يعكس الحرج حول مسألة يعلم جوهريتها في استهداف مشروعية الدستور لاحقًا، وبالتتابع في استتباعها كورقة رئيسية لفريق المعارضة السياسية والمدنية.

يحمل الاستفتاء على مشروع الدستور يوم 25 جويلية مفارقات عديدة منها اتجاه الأنظار إلى نسبة المشاركة أكثر من نتيجة الاستفتاء ذاته

انبنى خطاب رئيس الدولة قبل 25 جويلية، في سياق استهدافه حينها لمؤسسة البرلمان بل للمؤسسات الدستورية برمتها، على ثنائية الشرعية والمشروعية، باعتبار أن الأولى غير مؤدية للثانية، وهو خلل بتقديره يفترض مراجعة هذه الشرعية، وهو ما تم فعلًا بإعلانه للحالة الاستثنائية خارج ضوابط الدستور، وذلك للاستجابة للمشروعية: مطالب الشعب. في السياق الراهن، وبعد اليقين أن رئيس الدولة مصمّم على إقرار دستوره بكل الوسائل خاصة غير الديمقراطية، تبدو الفرصة مناسبة للمعارضة لبناء برنامجها السياسي انطلاقًا من مسألة المشروعية ذاتها، حيث الرهان على استهداف مشروعية دستور السلطة انطلاقًا من ضعف نسبة المشاركة، ليس فقط باعتبار المنتظر أن تكون دون نسبة المشاركة بالخصوص عن الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2019، بل حتى دون أي نسبة مشاركة في أي انتخابات منذ الثورة.

 

 

يعلم رئيس الدولة الحرج حول هذه النقطة، وهو الذي خاض بروفة أوليّة حول نسبة المشاركة بمناسبة الاستشارة الإلكترونية المنظمة بداية العام الحالي، والتي شهدت عزوفًا شعبيًا كبيرًا بمشاركة حوالي 535 ألف تونسي على مدى أكثر من شهرين من تنظيمها، أي ما دون 6 في المائة من عدد الناخبين المسجلين، بغض النظر أصلًا أنه تم فتح باب المشاركة في الاستشارة لغير الناخبين (الأطفال بين 16 و18 سنة).

لكن تبين لنا هذه البروفة كيف سيتعامل رئيس الدولة مع ضعف نسبة المشاركة في الاستفتاء. إذ كان قد اعتبر أن الاستشارة "ناجحة" رغم الهجمات الإلكترونية "الجبانة"، أي بالنهاية مشاركة 6 في المائة من الناخبين يكفي لنجاحها، وإن جاء الحديث عن فشل فهي ليست إلا نتيجة لهجمات من "أعداء إرادة الشعب". في توطئة مشروع الدستور، اعتبر سعيّد أن الشعب التونسي "قد عبّر عن إرادته واختياراته الكبرى في الاستشارة الوطنيّة التي شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين والمواطنات". بالنهاية، مسألة نسبة المشاركة لديه هي مسألة هامشية.

رهان المعارضة في تونس هو على استهداف مشروعية دستور السلطة انطلاقًا من ضعف نسبة المشاركة

في المقابل، إن عودة لسياق الاستفتاءات في أنظمة ديمقراطية، تبيّن لنا أن نسبة المشاركة هي مسألة جوهرية، باعتبار أن كنه الاستفتاء هو التوجه للشعب مباشرة وليس عبر وساطة ممثليه ليتخذ قراره بنفسه، وهو قرار يجب أن يعكس بالفعل الإرادة الشعبية، ليس فقط بتحقق أغلبية ما للنتيجة، بل بمشاركة الأغلبية في عملية اتخاذ القرار نفسه أي في الاستفتاء. وتشترط عديد التشريعات حد أدنى من نسبة المشاركة، بل أنه في التشريع التونسي ذاته، يشترط الفصل 33 من مجلة الجماعات المحلية أن نتائج الاستفتاءات المحلية أو الجهوية أو الإقليمية لا تكون ملزمة إلا بشرط مشاركة ثلث المسجلين في القوائم الانتخابية، وفي فرنسا ترتفع النسبة إلى اشتراط مشاركة نصف الناخبين على الأقل، وكلّ ذلك بغاية ضمان نتيجة استفتاء عاكسة للإرادة العامة.

اختار قيس سعيّد، في المقابل، عدم التنصيص قانونًا على أي نسبة دنيا، والحال كان يمكن، على الأقل، وضع سقف سياسي أدنى لإقرار الدستور، أي إخضاع التفاعل للحقل السياسي وليس للمنطق القانون الصرف. لكن الخيار بيّن، لا مجال لأي مطبّات، بل في المقابل قام رئيس الدولة بوضع تحفيزات لرفع نسبة المشاركة، بداية من قراره بفتح أبواب مكاتب الاقتراع من السادسة صباحًا إلى العاشرة ليلًا، أي بزيادة أربع ساعات مقارنة بجميع الانتخابات السابقة، وذلك عدا عن إلغاء جميع المهرجانات والأنشطة العامة الكبرى يوم الاستفتاء.

ولكن رغم ذلك، ومع توقع ضعف نسبة التصويت، بدأ رئيس الدولة من الآن باستعادة خطاب المؤامرة، إذ تحدث بلاغ لرئاسة الجمهورية، قبل أيام بمناسبة لقائه بوزير الداخلية، عن اختراقات للموقع الإلكتروني المتعلّق بتسجيل الناخبين وتغيير مراكز الاقتراع باعتبارها "محاولة يائسة لإدخال الفوضى والإرباك" يوم الاستفتاء، مشيرًا بالخصوص إلى وجود 1700 هجوم إلكتروني أو اختراق. فالمنتظر تكرار العنصر المؤامراتي، وهو عنصر قار في الخطاب الشعبوي لرئيس الدولة، مع أي نتيجة للمشاركة يوم 25 جويلية.

نسبة المشاركة في الاستفتاء لدى سعيّد هي مسألة هامشية لكنها جوهرية في الديمقراطيات لأن الاستفتاء يجب أن يعكس بالفعل الإرادة الشعبية

 

 

لكن ماهي هذه النسبة الدنيا؟ بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2019، 41.7 في المائة (2.94 مليون)، وارتفعت في الرئاسية في الدورة الأولى لحوالي 49 في المائة (3.46 مليون) وبلغت في الدورة الثانية نسبة 55 في المائة (3.89 مليون). يبلغ حاليًا عدد الناخبين المسجلين بحسب هيئة الانتخابات حوالي 9 مليون ناخب، بما يجعل تجاوز نسبة المشاركة للنصف تفترض مشاركة 4.5 مليون ناخب، وهو سقف غير قابل للتحقيق لعوامل متعددة منها بالخصوص قرار عديد القوى السياسية والمدنية الفاعلة بمقاطعة الاستفتاء.

تجاوز نسبة المشاركة للنصف تفترض مشاركة 4.5 مليون ناخب وهو سقف غير قابل للتحقيق لعوامل متعددة منها بالخصوص قرار عديد القوى الفاعلة بمقاطعة الاستفتاء

رئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر أقحم نفسه في هذا الجدل، بتصريح إعلامي حول نية 2.8 مليون تونسي التوجه لمراكز الاقتراع، وبغض النظر عن أساس هذا الاستشراف، فهذه النسبة أصلًا دون الثلث. بوعسكر نفسه كان قد صرح أن مقياس نجاح الاستفتاء أو فشله يحدّد بنسبة المشاركة فيه. في المقابل، رئيس الجمهورية يتجاهل هذه النقطة، بالنهاية هو بصدد تنفيذ مشروعه، والوسيلة أو الشكل دائمًا هي عناصر هامشية أمام أولوية الهدف المحدّد. ولكن لا يمكن له تجاوز هذه المسألة خاصة إن ثبت تسجيل نسبة مشاركة ضعيفة جدًا في الاستفتاء كمشاركة دون ربع الناخبين (أي دون نسبة 2.2 مليون ناخب) أو دون هذا السقف، وهو وارد جدًا أمام حملة استفتاء باهتة لا أثر لها في الشارع التونسي.

تساءل أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، قبل أسابيع، عن سبب عدم إصدار رئيس الدولة لمرسوم يحدد نسبة مشاركة دنيا لإقرار مشروع الدستور، بما يشي أن المنظمة الشغيلة تراهن بدورها على ضعف نسبة المشاركة للتشكيك في مشروعية دستور رئيس الدولة خاصة في صورة ارتفاع نسق المواجهة بين الطرفين.

مهما تهرّب سعيّد من حرج نسبة المشاركة فهي ستكون أرضية مناسبة للقوى المعارضة لمواجهته وإحراجه من حيث يبني حكمه

من جهتها، تؤسس الأحزاب الداعية للمقاطعة على ضعف نسبة المشاركة للتمهيد لبرنامج معارضتها لمواجهة سلطة رئيس الدولة بوصفها سلطة أمر واقع تمت شرعنته ولكن خارج المشروعية. بالنهاية، مهما تهرّب رئيس الدولة من حرج نسبة المشاركة والمرجح أن تكون ضعيفة، فهي ستكون أرضية مناسبة للقوى المعارضة لمواجهة سعيّد وإحراجه من حيث يبني حكمه باعتبار أن الاستفتاء لم يكن فقط مجرّد وسيلة تجميلية لتمرير مشروع سلطوي، بل أيضًا وسيلة فاشلة حتى لإضفاء بعض المشروعية على هذا المشروع.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"