31-يوليو-2022
الأمين النهدي

الانسحاب الجماعي من عرض الأمين النهدي هو في جوهره موقف فنّي سياسي

مقال رأي

 

أثار العرض الأخير للكوميدي لمين النهدي جدلًا واسعًا في فيسبوك، حتّى كاد يطغى على مستجدّات المشهد السياسي وكوميديا الاستفتاء على دستور قيس سعيّد. فقد فاجأ قسم مهمّ من الجمهور صاحب العرض بالانسحاب نصف ساعة بعد انطلاقه. ويمثّل الانسحاب سابقة لم تعرفها مسيرة هذا المسرحي، حتّى تكهّن البعض بنهايته الفنية. ومن المثير أنّ موضوع العرض وهو مما يصطلح عليه بـ"الوان مان شو" كان "العشرية السوداء".

  • هل الفنّ محاكاة؟

من تعريفات التراجيديا أنّها "محاكاة فعل نبيل بواسطة أشخاص يفعلون لا بواسطة الحكاية" تمييزًا لها عن القصّ. وهذا التعريف يشمل كلّ أنواع المسرح بما في ذلك الكوميديا (الملهاة).

ومفهوم المحاكاة أساسي في الفنّ والفكر عند اليونان. فالوجود في هذه الفلسفة محاكاة لعالم المثل، فيكون الفنّ باعتباره تعبيرًا عن الوجود في حقيقته "محاكاة المحاكاة"، وتسرّب هذا التصور، إلى الحداثة الغربية، فصاغ رؤيتها للفن حتّى استحالت الفنون من رسم ومسرح وسينما "عملية تعويض" عن الواقع لا فعلًا فيه، وفي أحسن الأحوال، هي تعبير فنّي عنه. ووجد هذا التصوّر عنتًا خارج المجال الثقافي الغربي بعد أن تعمّمت هذه الفنون في معظم ثقافات العالم. 

لا تختلف علاقة النخبة في تونس بالفنّ عن علاقتها بالسياسة، من جهة التعثّر في ترجمة الوافد إلى الثقافة الوطنيّة الأهليّة

ومن طرائف ما عرفناه في تونس في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أنّ التلفزة الوطنية أنتجت مسلسل بعنوان "حكايتي مع الرّمال" في إطار مقاومة التصحّر في الجنوب التونسي وبث الوعي بهذه الآفة الطبيعية وسبل مقاومتها. وقد بلغت تكاليف المسلسل التلفزي مليار من الملّيمات التونسية، ويعتبر المبلغ سنة 1980 كبيرًا قياسًا إلى راتب الأستاذ على سبيل المثال الذي لا يتجاوز المائتي دينار. فكان تعليق أهل نفزاوة في الجنوب الغربي من تونس ساخرًا، اعتبروا فيه أنّه لو قدّم هذا المبلغ إلى الأهالي لحققوا به انتصارًا معتبرًا على زحف الرمال.

وموقفهم هذا يعكس علاقتهم بالفن كما تقدّمه الدولة التي لا تفهم علاقة نفزاوة (المرازيڤ) بالشعر الذي يشكّل مخيالهم وعلاقتهم بالقيم ورؤيتهم للعالم. فالشعر عندهم ليس مجرّد خطاب جمالي يدركون بفطرتهم أنّه يختلف عن سائر الكلام العادي، وإنّما هو "الخطاب". ولعله لهذا السبب يتواصل احتفاؤهم بالشعر في مهرجانات ثقافيّة في ظلّ الدولة التي لا تدرك صوره ولا تتبيّن وظيفته. والدولة هنا ممثّلة بنخبتها التي طالتها عمليّة التحديث. وهي نخبة تفهم في المسرح ووظيفته الفنية والاجتماعية كما استقرّت في الثقافة الغربيّة، ولكنّها لم تنجح في ترجمته إلى الثقافة الأهليّة. وقد يكون في هذا تفسير لبقاء المسرح رغم محاولات تعميمه "فنّ الحاضرة" وعواصم البلاد الكبرى.

  • تخلّف النص فنيًا عن الواقع

في أفضل الأحوال، بقي المسرح فرجة تُتلقّى من قبل نخب مدينيّة محدودة. وكثير من هذه النخب نفسها بذلت جهدًا في التأقلم مع هذا الفنّ. وكانت للتجارب المسرحيّة التي ظهرت مع مطلع القرن الماضي، دور في تبيِئة متدرّجة لهذا الفنّ الوافد. ولا يَعدم كل هذا وجود تجربة مسرحيّة متميّزة اجتهدت في رسم "ملامح مدرسة تونسية" في العمل المسرحي. وحتّى التجارب التي عرفت انتشارًا أفقيًا مثلما هو الحال مع فرقة مسرح الجنوب بقفصة وفرقة الكاف، لم يكن يُنظر إليها بعين الرضا من قبل "النخب المسرحيّة"، وفي أحسن الأحوال هي من "المسرح العامّي" ضعيف الصلة بـ"الخطاب المسرحي العالم" عند من اعتُبروا مراجع لهذا الفنّ في تونس بداية من الثمانيّيات.

ولا تختلف علاقة النخبة في تونس بالفنّ عن علاقتها بالسياسة، من جهة التعثّر في ترجمة الوافد إلى الثقافة الوطنيّة الأهليّة. وتمثّل تجربة الأمين النهدي منزلة وسطى بين المسرح العامّي والمسرح العالم. 

عرض المسرحي الأمين النهدي لا يختلف، في علاقته بالسياق الذي تعرفه تونس يوم، عن المسلسل التلفزي "حكايتي مع الرمال" في علاقته بمشكل التصحّر.

نص مسرحية "نموت عليك" كان أضعف فنيًا بكثير من "النص الواقعي"، فضلًا عن أنّ الجمهور يذهب إلى المسرح للفرجة والضحك ونسيان المشهد السياسي الذي ازداد كآبة

يحمل عرض الكوميدي عنوان "نموت عليك"، وتعني في اللهجة التونسية " أحبّك حبًا لا يوصف" أو "أموت من أجل حبّك". ومن جهة موضوعه ووجهة نظره الفنية والنقدية المتعلّقتين بـ"عشرية الانتقال السوداء"، يمكن أن نسمّي هذا العرض "حكايتي مع العشريّة السوداء". فكان نصّ المسرحية استعادة لما حفلت به بلاتوهات الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي من تجاذبات وصراعات يغلب عليها شيطنة التحول إلى الديمقراطية وأهمّ فاعليه حركة النهضة والإسلام السياسي. 

ويبدو أنّ النص المسرحي كان أضعف فنيًا بكثير من "النص الواقعي" فضلًا عن أنّ الجمهور يذهب إلى المسرح للفرجة والضحك ونسيان المشهد السياسي -الذي ازداد كآبة- والوضع الاجتماعي المعيشي الذي ازداد تدهورًا مع الانقلاب. فكانت ردّة الفعل هي الانسحاب الجماعي من العرض. وهو في جوهره موقف فنّي سياسي. فموضوع السلفية والنهضة والانتقال كما صوّره كاتب المسرحية المنصف ذويب وأدّاه الكوميدي الأمين النهدي لم يرتقِ إلى انتظارات الجمهور الباحث عن فسحة متعة تنسيه ما فيه من دراما اجتماعية، رغم أنّ هذا الجمهور نفسه يمثّل في مجمله فئات ميسورة من ضواحي العاصمة الشمالية.

  • كوميديا شعبوية

يأتي عرض "نموت عليك" في أجواء الاستفتاء على دستور قيس سعيّد، بعد سنة على انقلاب 25 جويلية/ يوليو 2021. وقد عرف فيها الناس فرجة حقيقية بين الانقلاب والشارع الديمقراطي. وهو مشهد -على توتره- لا يخلو من "انزياح" هو شرط كلّ عمل فنّي. ويمثّل الانزياح عند أغلب مدارس الشعريّة ونظريّة الفنّ، جسر العبور من العادي اليومي إلى الفنّي الجمالي في الشعر والرسم والفتوغرافيا والمسرح وسائر الفنون.

ولقد لاحظ كثير من أهل الاختصاص في الصورة الشعريّة أنّ تطوّر التصوير الفوتوغرافي أربك "الصورة الشعريّة" التي بدت أقلّ "شعريّة" من صور مبهرة معجزة تنقلها عدسة المصوّر وهو يلتقط صورة زهرة متمايلة أو رئم مذعور أو قطرة ماء تنسحب من على كمّ وردة. فصارت الصورة أبلغ وأوغل في الشعريّة من مرجعها في الواقع. وهل الشعر مثلما يقول الجاحظ إلا فنّ وتصوير.

لم يرتقِ نص مسرحية "نموت عليك" إلى انتظارات الجمهور الباحث عن فسحة متعة تنسيه ما فيه من دراما اجتماعية

إلى جانب هذا البعد الفنّي المشترك، عرفت تجربة تونس مع الثورة حياة سياسيّة جديدة تجدّد فيها معجم السياسة وبلغ ثراءً عجيبًا في الخطاب والجملة السياسيّة، وكان جانب ما يُعرف بـ"الكلاش السياسي" بين الفرقاء السياسيين في البلاتوهات وعلى صفحات التواصل الاجتماعي على درجة عالية من الشعريّة، فاق بعضه ما كانت تتابعه النخبة والنشطاء السياسيون بشغف وإعجاب على قناة "فرانس 2" الفرنسيّة.  

ولعلّ الانزياح الكبير كان مع سعيّد وخطابه القادم من "خارج الطبقة السياسيّة". فقد مثّل في أوّل الأمر "خطابًا غير مألوف" قياسًا إلى السائد، ولكنّه سرعان ما تحوّل إلى "كلام مكرّر" لم تعد تعني كلماته شيئًا في علاقة بطبيعة الأزمة المركّبة التي تعرفها البلاد. ولم يبق في الذهن "غير الصواريخ على منصّاتها" و"الشرعيّة والمشروعيّة". وكان كلّ هذا أقرب إلى "الملهاة" في سياق سياسي اجتماعي يقترب من "المأساة".

أعمال المسرح وفنّ "الوان مان شو" كانت الأقرب إلى التفاعل الحيني، لكن لم تنتبه أغلبها إلى "الوضع السريالي" الذي نقلنا إليه الانقلاب، وما أحدثه من شروخ في الدولة والمجتمع خاصّة

ومع الانقلاب كان الانزياح صارخًا في علاقة سعيّد بالدستور والمؤسسات. بداية من تأويله السريالي للفصل 80 ونهاية بدستور كتبه مرّتين بنفسه وصحّح أخطاءه العجيبة، بعد أن كان كلّف لجنة وطنيّة بكتابته ثم ألقى بما كتبت في سلّة المهملات، مرورًا بهدم المؤسسات التشريعيّة والدستوريّة والتعديليّة والرقابيّة. كان الانزياح عن أهمّ قاعدة دستوريّة هي أنّ العاقل منزّه عن العبث. فإذا الانقلاب عبث في عبث. وهو ما حوّل المشهد السياسي إلى "كوميديا شعبويّة سوداء" أو "وان مان شو سياسي" يتقاطع فيه السياسي والاجتماعي والقيمي والمعيشي والدرامي.

  • خريف النهايات

ورغم ما بين نسق السياسة ونسق الفنّ من اختلاف واضح، فإنّ مثل هذا الوضع لن ينعكس مباشرة في أعمال فنيّة. غير أنّ المسرح وفنّ "الوان مان شو" كان الأقرب إلى التفاعل الحيني. وما كان من أعمال في هذا الباب لم ينتبه أغلبها إلى "الوضع السريالي" الذي نقلنا إليه الانقلاب، وما أحدثه من شروخ في الدولة والمجتمع خاصّة. ومنه دستور قيس سعيّد الذي لم يحظ بأكثر من موافقة 25% من الجسم الانتخابي، حسب النتائج الرسميّة المطعون فيها. وإذا كان الدستور هو في الأصل خلاصة لتعاقد اجتماعي واسع ينظّم علاقة الدولة بالمجتمع ومكوناتهما، فإنّ دستور قيس سعيّد دستر الانقسام الذي أقامه. وتلك طبيعة الشعبويّة وخطابها القائم على مقابلة مدمّرة بين "شعب خيّر" و"نخبة خائنة". ودور الزعامة الملهمة أن تقود الشعب الخيّر لتطهير البلاد من الخونة والفاسدين الذين نكّلوا بالشعب.

عرض "نموت عليك" للأمين النهدي انخرط في تشخيص سطحي ضعيف الصلة بالقيمة والفنّ، يعيد إنتاج الأزمة باعتباره طرفًا فيها وبخطاب فنّي هزيل هو دون سرياليّة خطاب الانقلاب وانزياحه الخطير

عرض "نموت عليك" للأمين النهدي لم ينتبه إلى كلّ هذا وانخرط في تشخيص سطحي ضعيف الصلة بالقيمة والفنّ، ويعيد إنتاج الأزمة باعتباره طرفًا فيها وبخطاب فنّي هزيل هو دون سرياليّة خطاب الانقلاب وانزياحه الخطير.

كاتب النصّ منصف ذويب لم تكن له الشجاعة للوقوف على جانب من هذه الحقيقة، واختار التبرير على استخلاص الدرس. ولكنّه سيدرك أنّ "التهريج السياسي" في أداء الانقلاب قد فاق فنيًا التهريج السياسي في عرض "نموت عليك" المسرحي.

الكوميديا الشعبويّة السوداء التي تعرفها البلاد لن تعبّر عنها "نصوص تقليدية" في السياسة والأكاديميا والفنّ، ولذلك نحن أمام حقيقة موت خطابات وظواهر سياسيّة (أحزاب) وأكاديميّة (الباحث المتكسّب) وفنيّة (مسرح وشعر مفوّتان).

والشعبويّة ليست بمعزل عن كلّ هذا، ورغم أنّها ظاهرة جديدة صاعدة، وهي في أساسها من تعبيرات الانتقال الديمقراطيّة وأزمته، ولكنّها سريعة الأفول. فهي أشبه بنار نبات العرفج تلتهب بسرعة وتنطفئ بسرعة أكبر. ومثل الانقلاب الذي تعرفه بلادنا لا يخرج عن هذا الأفق. وسيكون انحداره في أشهر معدودة، ولكن قد تزول واجهة الانقلاب ويبقى.  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"