19-أغسطس-2020

تاريخ المتعة والحرملك في تونس (قبة الهوى بالمرسى)

 

تذهب الباحثة وعالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها "هل أنتم محصّنون ضدّ الحريم؟" إلى أن فكرة الحريم هي فكرة قديمة قدم الإنسان، وإذا راقبناها عبر حركة التاريخ نجد أنّها عابرة لكل الأزمان، وقد تشهد عتوًا في بعض المراحل نتيجة لمناخات اجتماعية وسياسية بعينها وهي مازالت متواصلة إلى اليوم في أغلب المجتمعات لكنها كامنة تنتظر الظهور من جديد. تقول المرنيسي: "لا يملك فيروس الحريم الغريب هذا عوارض جسدية مما يزيد الأمور تعقيدًا، فهو يهاجم الاستقرار العاطفي وتختلف الصورة التي يتجلّى فيها باختلاف ميادين المعركة. فهو يقبع في غياهب أحلام الرجال وقد يطفو على السطح في هيئات مختلفة داخل المجتمعات الحديثة".

إذًا، تحمل هذه المسألة الكثير من التّعقيد ووجب الحذر عند التعاطي معها، وهو ما سنسعى اليه من خلال التطرق إلى هذا الملمح من الحياة الخاصة للبايات الحسينيين الذين حكموا تونس قبل قيام الجمهورية لما يزيد عن القرنين والنصف من الزمن (من 1705 إلى 1957). وقد عرف حكمهم الكثير من الهزات السياسية والاقتصادية والثورات الاجتماعية، كما شهدت المملكة التونسية خلال تلك الحقب من حكم البايات أوجه عديدة من الاستقرار وومضات من الإصلاح السياسي والاجتماعي وصفت بالتاريخية خاصة مع المشير أحمد باشا باي وخير الدين باشا والمنصف باي، مازالت تونس تمتح من معانيها إلى اليوم.

كانت الحياة الخاصة للبايات مُحاطة بالسرية المطلقة، فمناطق الحرملك أين يقيم حريمهم كانت محروسة تمامًا كالقشالي والثكنات العسكرية وبعيدة عن أعين الفضوليين

ولكن ثمة أيضًا الكثير من الغرف المظلمة التي تشكّلت طيلة هذه الفترة الطويلة من حكم الحسينيين لتونس مثل الدسائس السياسية وحلقات التسميم. وكانوا يحيطون حياتهم الخاصة بالسرية المطلقة، فمناطق الحرملك أين يقيم حريمهم كانت محروسة تمامًا كالقشالي والثكنات العسكرية وبعيدة عن أعين الفضوليين، وقد عرف البايات بولعهم بالنساء البربريات والإيطاليات والمالطيات، مع الإشارة إلى أن السلالة الأولى لأول باي وهو حسين بن علي التركي كانت من أمّ من عائلة "الشوارنية" من جهة الكاف. كما كان يقوم قراصنة تونس بقرصنة السفن في عرض البحر الأبيض المتوسط وسبي النساء من سواحل الجزر اليونانية والإيطالية، ويقدمون الجميلات من النساء كهدايا للعائلة المالكة مقابل امتيازات الحماية والتجارة.

اقرأ/ي أيضًا: قصور منوبة البديعة: عزلتها الجمهورية الأولى.. فهل تنصفها الجمهورية الثانية؟

لكن للاستانة رأي آخر، إذ كان "الباب العالي" يرسل النساء التركيات من الحرملك السلطاني كهدايا للبايات التونسيين مع التأكيد على الزواج منهن، وكان الهدف من ذلك هو تنقية الدماء التركية من البربرية والأوروبية وجعلها عثمانية صرفة حتى يتواصل الولاء التام للسلاطين العثمانيين وغرس ذاك الشعور بتمثيل الإمبراطورية دون التفكير في الانفصال عنها.

وإلى جانب انشغال البايات الحسينيين بالسياسة وحماية ملكهم من نزعات الانفصال الداخلية وتركيزه على كامل الأراضي التونسية والحروب الخارجية مع المتربصين بعرشهم، كانت حياتهم الشخصية لا تخلو من فسح المتعة والترفيه عن النفس وشتى أنواع التريّض. ومن أشكال هذه الفسح التي قلّما يتعرض لها المؤرخون ويطرقها الباحثون، نجد "فنّ الهوى" وهو تقريبًا ما ذهب إليه الشاعر الروماني "أوفيد" في مؤلّفه الشهير "فنّ الهوى" أي ذاك الإيغال في الحبّ وإشباع الرغبة وإتراعها بمتع الجنس والجلوس إلى النساء الحسناوات في أمكنة تسمى "قباب الهوى".

وكأنّ الحرملك وأجنحة الحريم وأبّهة القصور لا تسع نفوسهم وقلوبهم، نجد البايات يتنقلون بين ضواحي حاضرة تونس دون الرغبة في سكناها باستثناء "سرايا المملكة" (قصر الحكومة بالقصبة حاليًا) الذي كان البايات يتنقلون لسكناه خلال شهر رمضان المعظم فقط لقربه من جامع الزيتونة، فيما يقضون بقية شهور السنة بين القصر السعيد، وقصور منوبة وأبراجها الكثيرة، وقصر حمام الأنف، وقصر الشريفية بحلق الوادي، ودار التاج، وعبدليات المرسى، وقصر برج شاكير، وقصر مرناق، وقصر الصالحية بالمحمدية، وقصر قرطاج، وهي كلها قصور بعيدة عن المدينة العتيقة وما جاورها وخاصة عن قصر الحكم بباردو، إذ كانوا يتوارون عن الأنظار ويتفادون لقاء الرعية والضيوف الأجانب في هذه القصور.

 "قبّة الهوى" هي قصر صغير غير بعيد عن القصور الرئيسية، تتكوّن من غرف صغيرة وشرفات كثيرة مفتوحة على الحدائق والبساتين أو مفتوحة على البحر

وكانت "قباب الهوى" جزءًا لا يتجزأ من عمارة بعض القصور الباياتية، فهي مبنى صغير يكون مفصلًا ومتصلًا بالمبنى الرئيسي، و"قبّة الهوى" عمومًا هي قصر صغير غير بعيد عن أحد القصور الرئيسية، تتكوّن عادة من غرف صغيرة وشرفات كثيرة مفتوحة على الحدائق والبساتين الغناء والسواني أو مفتوحة على البحر، وكان يجلب لغرض تشييد القباب كبار المهندسين والبنائين والمزوقين والنقاشين من داخل البلاد ومن أوروبا وسائر بلاد المشرق والمغرب وذلك حتى تكون في أفضل حلّة وفي مواءمة تامة مع هوى الباي ومزاجه مع اللذة ومباهجها. إذ كان يختلي البابات داخلها مع بعض حريمهم ممّن يُختارون بعناية، وتخدمهم جواري وقينات مهمتهن العزف والغناء. كما كانت تحتضن هذه القباب المتنوعة الشكل والبديعة الهندسة حفلات "الكيف" بأنواعه والتي يحضرها أحيانًا نخبة صغيرة من أصدقاء الباي من العائلة المالكة أو العائلات المتنفّذة في البلاد. وكانت هذه القباب أيضًا أمكنة للتأمل والنقاهة بعيدًا عن صخب السياسة وإكراهات الحكم.

قبة الهوى بالمرسى: المدخل السري والسهرات الباذخة

من قباب الهوى الشهيرة للبايات الحسينيين، نجد "قبة الهوى" بضاحية المرسى التي بنيت نهاية القرن التاسع عشر، وهي قصر صغير بطابقين مشيّد على الشاطئ غير بعيد عن قصور العبدلية وقصر السعادة ودار الكاملة (مقر إقامة السفير الفرنسي بتونس)، وهي ذات هندسة جميلة بيضاوية الشكل ومتعددة الشرفات، وتبدو متوغلة داخل البحر فيما يشبه اللسان المرتكز على أعمدة إسمنتية.

قبة الهوى بالمرسى قبل التحسينات وبعدها

 

وكانت هذه القبة ملاذًا أنيقًا للبايات والأمراء في مواسم الاصطياف والاستجمام والفضاء الحاضن للسهرات الباذخة والليالي الملاح في باقى أوقات السنة. أما عن كيفية استغلال هذا الفضاء، فإن الطابق السفلي يخصص عادة للباي وحريمه ويكون المرور إليه عبر مدخل سرّي واحد بدرجات غير ثابتة يتم رفعها كلما دلف الباي إلى هذا المكان للاستجمام ولقاء زوجته أو جواريه والتمتع بالبحر معهن، أما باقي الفضاء فيكون مفتوحًا للحاشية والمرافقين والخدم والجند الحارس.

ولا زالت قبة الهوى بالمرسى قائمة إلى اليوم كشاهد على جزء من تاريخ تونس وقد اُهملت إبان زوال حكم البايات قبل التفويت فيها لمستثمرين خواص حولوها إلى مطعم سياحي.

قبة الهوى بالبلفدير.. حولها المستعمر الفرنسي من منوبة إلى البلفدير

أما ثاني قبة شهيرة بتونس، فهي قبة الهوى بالبلفدير المشيّدة أواسط القرن السابع عشر في حديقة قصر الوردة بمنوبة (المتحف العسكري حاليًا) بطلب من حمودة باشا. وقد تجند لتشييدها كبار بنائي المملكة التونسية المعروفين آنذاك، فكانت نموذجًا فريدًا وبديعًا للمعمار التونسي في مستوى زخرفها وطول أعمدتها، وكانت ملاذًا وخلوة للعديد من البايات في أيام الاستجمام وخاصة في فصل الربيع علمًا وأن قصر الوردة بمنوبة كان مفتوحًا على بستان أنيق وعامر بالأشجار مازالت بقاياه صامدة الى اليوم.

بُنيت قبة الهوى بالبلفدير في القرن السابع عشر بطلب من حمودة باشا

 

لكن ما حدث لهذه القبة أنه وفي عام 1900، قام المستعمر الفرنسي الذي كان يستغل قصر الوردة كمقر لقيادة جيشه بتفكيك القبة وإرسالها لباريس للمشاركة في معرض عالمي يهم الآثار والتراث، وراج حينها أن القبة ستبقى بفرنسا وستركز بإحدى حدائق باريس، لكن القصر الملكي التونسي تدخل بحزم من أجل إرجاع القبة الى تونس ولكن لم يرجعها المستعمر الفرنسي إلى مكانها الأصلي بقصر الوردة بمنوبة بل ركزها بحديقة البلفدير المنجزة حديثًا في ذاك الوقت. وبقيت القبة إلى اليوم ثابتة وشامخة في مكانها غير الأصلي، وقامت التلفزة الوطنية في ستينيات القرن الماضي باستغلالها العديد من المرات لتصوير بعض البرامج أو الكليبات الغنائية وأشهرها كليب بالأبيض والأسود للفنان الكبير على الرياحي، وقد تجلى خلاله جمال معمار قبة الهوى.

اقرأ/ي أيضًا: قصور الجنوب التونسي.. هل تخرجها قائمة التراث العالمي من التهميش؟

قبة النحاس بمنوبة.. من أجل متعة محمد رشيد باي

ومن قباب الهوى الشهيرة بتونس كذلك، "قبة النحاس" الكائنة بقصر الرشيد المعروف الآن بقصر برج قبة النحاس بمنوبة، وهو قصر مشيّد بين 1756 و1758 بأمر من محمد رشيد باي، وشهد إضافات عديدة في عهد حمودة باشا وتحديدًا عام 1805 وبه مزاوجة عجيبة بين المعمار العثماني والمغربي أثمرت تحفة معمارية فريدة.

قبة النحاس بمنوبة

 

وكان محمد رشيد باي محبًا للفن والسهر، وهو من شجع على إنشاء المدرسة الرشيدية التي تحفظ الموسيقى التونسية وتدرّس المالوف. وكان قصره بمنوبة مكانًا للاستجمام والإلذاذ من كل المتع، فأمر بإنشاء قبة من النحاس ركزت على كامل المسبح الخاص بالقصر. ولكن يؤكد بعض المؤرخين، في رواية أخرى، أن القبة كانت على شاكلة القباب المعروفة ومنجزة من طوب وخشب لكن سطحها موشّى بطبقة من النحاس وهي موجودة بجناح الحريم، وقد اُزيلت فيما بعد خاصة إذا علمنا أن هذا القصر الفريد تداول على ملكيته العديد من العائلات أشهرها عائلة فرحات.

ويرجح أهل الذكر أن القبة النحاسية أزيلت عندما تحول القصر إبان الاستعمار الفرنسي لتونس إلى مقر للراهبات التابعين للكنيسة المسيحية. وأما المسبح أو الحوض المائي الذي يشكل جزءًا من ذاكرة هذا المعلم، فقد أزاله المستثمر التونسي الذي يستغل الآن القصر كفضاء ثقافي وللمناسبات الخاصة والمؤتمرات.

قبة قصر زروق بقرطاج.. شاهد على تاريخ تونس

ومن قباب الهوى أيضًا التي مازالت بقاياها بادية إلى اليوم، نجد قبة قصر زروق بسهل قرطاج درمش (بيت الحكمة حاليًا) الذي بني سنة 1874 بأمر من محمد باي، وهو قبة مركزة في البحر على أعمدة إسمنتية، وممر خشبي يربطها بالقصر الذي اقتناه الحبيب باي من أجل قبته الفريدة، وكان ملاذه للراحة و الاستجمام والاختلاء بنفسه وبحريمه.

قبة قصر زرّوق وهو مقرّ "بيت الحكمة" حاليًا

 

وتم فيما بعد التفويت في هذا القصر للثري اليهودي "بوريس بسيس" بعد عزل القايد أحمد زرّوق وكثرة تداينه، لكن سرعان ما استعاده البايات من جديد وشغله الحبيب باي بين 1922 و1929، وفضله على دار التاج بالمرسى لموقعه الساحر على البحر ولروعة قبة الهوى به. وبقي هذا القصر على ذمة عائلته، وجعله ابنه محمد الأمين باي، عند صعوده للحكم، مقرًا من مقرات سيادة المملكة وفضاء اصطيافه الخاص.

وشهدت هذه القبة العديد من القرارات السياسية والأحداث المفصلية في تاريخ تونس منها توقيع وثيقة الاستقلال الداخلي، كما احتضنت لقاءات مع شخصيات كبرى من ملوك ورؤساء وسفراء ورموز الحركة الوطنية التونسية.

ونهاية، إن قباب الهوى التي كانت شاهدًا على حياة ملوك تونس وباياتها، تبقى جزءًا لايتجزأ من التاريخ السياسي والثقافي والفني لهذا البلد، وهي جديرة بالحماية والصيانة والتوثيق حولها كما هي جديرة أيضًا بالبحث العلمي المستفيض.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

الاستثمار في التاريخ والثقافة.. من اسطبلات إلى فضاءات ثقافية