13-مارس-2018

فرقة الرشيدية التونسية

في كتّاب "حوانيت عاشور" كان أحمد الوافي طفلًا صغيرًا يقرأ، يهجي في "إقرأ" و"تبت يدا" وسورة "الضحى" وأحاديث مسلم والبخاري والسيرة. كان في البداية "كيفو كيف غيرو مالغشاشر يقرى، يحفظ ويروح. لين جا النهار اللي طاح فيه بكتب رسائل إخوان الصفا وكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وكتاب الموسيقى الكبير للفارابي ومفاتيح العلوم للخوارزمي". ومنذ ذلك الحين تغير كل شيء في حياته.

يعتبر الشيخ أحمد الوافي أحد أهم المجددين في موسيقى المالوف التونسية

كنت قد سألت أستاذ الموسيقى الذي أدرس عنده عن الطبوع التونسية وكيفية نشأتها وتطورها عبر الزمن، وقد كان "سي علي الحيحي" منشغلاً بنبش خزانته العتيقة في بهو قاعة دروس المبتدئين بـ"الكونسرفاتوار" الذي أدرس فيه. وكنت مندهشًا إلى ذلك الكم الكبير من الكتب والأوراق والمطبوعات المتراصفة بكثافة وسط تلك الخزانة. قلت له "مثلًا أستاذ، من الذي أطلق اسم الإصبعين على طبع الإصبعين؟". فأجابني أن ذلك الطبع يرتكز إلى إصبعين فقط عند عزفه على آلة العود فسمي بالإصبعين. وأضاف "هناك طبع آخر ابتكره الشيخ أحمد الوافي، هو "انقلاب الإصبعين"، وهو طبع مستوحى من مقام الشهناز في الشرق".

يعتبر الشيخ أحمد الوافي الذي ولد في تونس سنة 1850 وتوفي بها سنة 1921 أحد أهم المجددين في موسيقى المالوف التونسية في التاريخ المعاصر. وقد كان له الفضل في إبراز عدد من الطبوع التونسية وإعطائها أسماء يتداولها الموسيقيون إلى الآن، كما كتب ولحن عددًا من الموشحات من بينها "هجرتني ياخي، ويال قومي ضيعوني، بدري بدا، قاضي العشق، إلى حبيبي نترك أوطاني".  وقد كان أحمد الوافي من الأوائل الذين نادوا بضرورة تجديد التراث الموسيقي التونسي وخاصة المالوف وتقعيده وتعليمه للصغار والكبار، وذلك بالنظر إلى التهديد الكبير الذي كان يمثله الاستعمار الفرنسي على الثقافة التونسية. ومنه انطلقت محاولات الإصلاح التي واجهت العديد من الصعوبات.

اقرأ/ي أيضًا: النوبة التونسية... أيقونة موسيقية ورسائل سياسية

الفنانة صليحة ضمن فرقة الرشيدية (ويكيبيديا)

عدت أتابع حركات "سي علي"، أستاذي، وهو ينبش خزانته الغريبة، وكان مائلًا بشدة إلى الأمام حتى ارتعشت ساقه وكادت تخونه من شدة ميله، وفي الوقت الذي بدأت ساقه بالانزلاق صرخ بصوته العجوز "أهيّا.. أيوااااش"، وقد كانت السعادة بادية على صوته ثم على محياه المتعرق الأحمر وقد امتلأ شعره بمخلفات العنكبوت. سألته "ما ذاك؟" فقال "وثيقة قديمة من مدرسة الرشيدية، كنت قد تحصلت عليها أيام دراستي هناك في ستينيات القرن الماضي". أحسست أن حدقتا عيني ستنفجران من فرط الاتساع، فأنا من عشاق هذه التحف العتيقة التي أعثر عليها بين الحين والآخر. استسمحت أستاذي في أن أطلع عليها، فلم يمانع..

كانت تونس سنة 1930 في أوهن لحظاتها، مع أحد البايات الذي كان يدعى أحمد باي الثاني. تقول شهادات عديدة أنه كان "أحمقًا" في السياسة ولم تكن له مواجهات مع الاستعمار الفرنسي، بل تواطأ مع فرنسا "العلمانية" في ذلك الوقت وكان من بين المشرفين على المؤتمر الأفخارستي، هو وثلة من كبار مسؤوليه والمقيم العام الفرنسي وبعض موظفي الفاتيكان والأساقف المسيحيين. وعقد المؤتمر بقرطاج سنة 1930 احتفالًا بمرور قرن على احتلال الجزائر ونصف قرن على احتلال تونس، وذلك في إطار حلم فرنسا "العلمانية" بتحويل شمال أفريقيا إلى مستعمرة تتبعها كما كان الرومان سابقًا.

تقول وثيقة أستاذي في جزء بعنوان "ظروف تأسيس المعهد الرشيدي" إن عددًا من الشبان في ذلك الوقت "شعروا بالخطر المحدق بالشخصية التونسية وأصالتها العربية إثر المؤتمر الأفخارستي الذي نادى بتعويض اللغة العربية الفصحى بالعامية، كما شعروا باضمحلال الأغنية التونسية ورداءتها وتفاهة كلماتها  (chérie حبيتك.. أو ماصابك بردقانة لو كان تطلع حلوة ) مقارنة بما كان يأتي من الشرق من عذب الألحان وقوة الكلمات ومتانة الشعر. ولذلك أعرب هؤلاء الشبان على وجوب العناية بالأغنية والموسيقى التونسية".

بالفعل، وعلى تلك الأسس المذكورة في الوثيقة، تم تأسيس المعهد الرشيدي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1934 إثر انعقاد اجتماع بالمكتبة الخلدونية ضم حوالي السبعين عضوًا من الموسيقيين والأدباء والمحامين والأطباء والتجار وكبار المثقفين وغيرهم، وقد سمي بالمعهد الرشيدي نسبة إلى الرشيد باي، الذي رتب النوبة التونسية. لكن من هم أولئك الشبان الذين اجتمعوا ليتصدوا إلى تهديدات الاستعمار للمميزات الثقافية التونسية؟

تأسس المعهد الرشيدي في نوفمبر 1934 بغاية العناية بالأغنية والموسيقى التونسية وضد موجة الفرنسة

تكونت عقب ذلك الاجتماع التأسيسي ثلاث لجان متخصصة وهي: اللجنة الفنية والتي ترأسها خميس ترنان (1864 ـ 1964) واللجنة الأدبية التي أدارها عبد الرزاق كرباكة (1901 ـ 1945) ولجنة الدعاية التي نشط فيها عدد من الأسماء اللامعة من بينها مصطفى صفر وحمادي النيفر وزكريا مصطفى وعبد القادر بوسحابة ومصطفى الكعاك.

الفنان التونسي خميس ترنان (ويكيبيديا)

وقد أنيطت مهمة تدريب الموسيقيين على المقامات والطبوع التونسية للأستاذ محمد التريكي بإشراف من خميس ترنان وقد تم التركيز على الطبوع التونسية أكثر من المقامات الشرقية. أما مهمة جمع التراث الغنائي والشعري وإنشاء أشعار وأغان جديدة فقد كانت من مهام اللجنة الأدبية والتي جمعت كل من عبد الرزاق كرباكة والهادي العبيدي، اللذان انطلقا من الموروث التقليدي الذي جمعه الشيخ أحمد الوافي كما ساهما في استقدام الأغاني البدوية والطبوع الريفية (يا خيل سالم، العين تنحب من فراق غزالي.. الصالحي، العرضاوي...).

وأما لجنة الدعاية فقد سهرت على جلب المطربين والعازفين من أنحاء البلاد كالمطربة صليحة التي أتت من أقصى الريف بالشمال الغربي، كما عملت جاهدة على التعريف بالمعهد الرشيدي وحث الناس على دراسة الموسيقى. وقد قاد التخت الموسيقي للرشيدية في تلك الفترة كل من محمد التريكي وقدور الصرارفي وصالح المهدي وعبد الحميد بن علجية ومحمد سعادة ولطفي الوكيل، "وكان همهم الوحيد في تلك الفترة ترسيخ النمط الموسيقي التونسي غناء ولحنًا ضد موجة الفرنسة التي اجتاحت تونس بعد المؤتمر الأفخارستي وطيلة فترة ما بين الحربين".

عدت بعد الاطلاع على تلك الوثيقة التاريخية إلى درس الموسيقى الذي أتلقاه كل يوم سبت.. جلست إلى "سي علي" الذي كان منهمكًا في تغيير أوتار عوده الجديد ذي الأوتار الأربعة، بينما كنت ممسكًا بعودي المتكون من خمسة أوتار. سألته "أهو ذو أربعة أوتار" فأجابني ضاحكًا بأنه عود تونسي.. ثم نظرت إلى الورقة التي في محمل دروس الموسيقى فوجدت أن درسنا لليوم هو "طبع المزموم".. "آش دعاني نعشق ذا الرشا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

منير الطرودي.. الغناء كطريقة سرد

"الزيارة".. على خطوات الذاكرة