11-يوليو-2018

أهمية تشجيع السياحة الثقافية عبر المتاحف العسكرية (الصورة لزاهر كمون)

كانت درجات الحرارة متدنية جدًا والمطر يهمي بحنوّ غامر على سهول الشمال الغربي التونسي صبيحة يوم 8 فيفري/شباط 2005، كنت يومها مع مجموعة من الصحفيين التونسيين رفقة رتل عسكري تونسي في اتجاه قرية ساقية سيدي يوسف على الحدود الجزائرية التونسية، في ذكرى عدوان طيران الاستعمار الفرنسي على تلك القرية الحدودية ذات سوق أسبوعية يوم 8 فيفري/شباط 1958، وقد راح ضحيته مئات التونسيين والجزائريين.

وكان في برنامج ذكرى تلك السنة تدشين "متحف الذاكرة المشتركة التونسية الجزائرية" بمدينة غار الدماء وهو المتحف الخامس في رصيد الجيش التونسي. وخلال استراحة بنادي الضباط بماس بمدينة باجة، سألت الجنرال رشيد عمار وهو حينها قائد أركان جيش البرّ عن أهمية هذه المتاحف العسكرية بالنسبة للجيش التونسي فأجابني: "إن منظومة المتاحف العسكرية التونسية تتنزل في إطار فلسفة تلك المقولة الشهيرة "الجيش سور للوطن" أي أنه يحمي الجغرافيا ويحمي أيضًا الذاكرة".

فلسفة المقولة الشهيرة المعروفة تونسيًا "الجيش سور للوطن" هي أنه يحمي الجغرافيا ويحمي أيضًا الذاكرة

هذا هو الجيش التونسي، ليس للدفاع عن حدود الوطن فقط بل أيضًا جيش ينهض بأدوار أخرى إنمائية ومدنية تتنزل في إطار عقيدته الجمهورية. وتقوم هذه الأدوار على مجموعة من المنظومات المتكاملة منها المنظومة الثقافية والمحافظة على التراث، إذ يسهم الجيش في ترميم المعالم التاريخية بواسطة مختصين وخبراء في التاريخ والتراث والفنون والحرف ينتمون إليه. ومن أهم التدخلات في هذا المجال، ترميم مسجد "سيدي محرز بن خلف" بالمدينة العتيقة بالعاصمة، وقصر "برطال حيدر" بولاية أريانةـ وترميم برج "خديجة" بالشابة من ولاية المهدية.

اقرأ/ي أيضًا: استثناء الجيش التونسي في منطقة الانقلابات.. لماذا استمر في حياده السياسي؟

وتدعيمًا للتوجهات الرامية إلى إعادة القيمة الحقيقية للتاريخ وذاكرة الوطن على أسس علمية، بادرت المؤسسة العسكرية التونسية ببعث الإدارة العامة للمتاحف التي تشرف على أربعة متاحف منتشرة بكامل البلاد تعرّف بحضارة البلاد، وأيضًا بالتاريخ العسكري وتخلد ذكرى الشهداء والأبطال الذين بذلوا دماءهم في سبيل الذود عن الوطن وحرّيته.

المتحف العسكري الوطني لا يكف عن سرد ذاكرة الوطن

تمّ تدشين المتحف العسكري الوطني بـ"قصر الوردة" بمنوبة بتاريخ 25 جوان/يونيو 1984، وقد بنى حمودة باشا هذا القصر، وقد كان مقرًا لكبار ضيوف المملكة التونسية إبان الحكم الحسيني ثم أستعمله المستعمر الفرنسي بحكم موقعه واتساعه وجماله كمقر رسمي لقيادة الجيش الفرنسي بتونس، ثم ورثه الجيش التونسي بعد الاستقلال.

 

من معروضات المتحف العسكري بقصر الوردة (صابرين درويش)

 

يحتوي المتحف العسكري الوطني على 23 ألف قطعة بين وثائق وأدوات وأسلحة أجملها على الاطلاق البنادق والسيوف التي شارك بها الجيش التونسي في حرب القرم، وتلك التي أهديت للرؤساء والسفراء والمسؤولين التونسيين من طرف جيوش العالم.

يروي هذا المتحف تاريخ تونس الحضاري والدفاعي من العهد القرطاجني إلى الآن بواسطة مجسمات لمعارك القائد حنبعل وأدوات ووثائق ورسومات زيتية هامة. كما يبرز دور الجيش التونسي في عمليات السلام في العالم تحت راية منظمة الأمم المتحدة وذلك على غرار المشاركة المتميزة للجيش التونسي في الكونغو.

متحف الذاكرة الوطنية بالسيجومي: هنا أعدمت فرنسا مقاومين تونسيين!

على ضفاف سبخة السيجومي بالضاحية الجنوبية الغربية للعاصمة تونس، يبرز للعيان في شموخ وهيبة نصب تذكاري للشهداء ارتفاعه يتجاوز الخمسة أمتار. تمّ تنصيب هذا النصب سنة 1982 تخليدًا لذكرى المقاومين اللذين أعدمهم الاحتلال الفرنسي في نفس المكان بين سنتي 1941 و1954، ومن بين هؤلاء الشهداء المقاومين عبد الحميد الغضاب، والهادي جاب الله، وعامر الجلاصي، وصالح بن سعد، وسالم الجربي، والبشير قصيبة، وعلي بن محمد طراد، ومحمد بن الناصر بن حميدة، وحمد الورتاني وحمادي بن على المطوي.

 

نصب الشهداء في السيجومي (أمين الأندلسي/وكالة الأناضول)

 

يشرف على نصب الشهداء منذ تركيزه الجيش الوطني صيانة وعناية وحراسة، وقد تعزز هذا الدور بإنشاء متحف الذاكرة الوطنية سنة 2001 في الطابق السفلي للنصب، وهو متحف عصري مجهّز بأحدث التقنيات السمعية البصرية كتلك الموجودة في متحف اللوفر الفرنسي مع هندسة إضاءة خاصّة تؤثر في الزائر وتجعله ينشدّ إلى قصص نضال الشعب التونسي.

يسافر الزائر لهذا المتحف في الزمن ليطلع على تاريخ تونس المعاصر: الاستعمار الفرنسي للبلاد سنة 1881، ورموز وأعلام الحركة الوطنية مع سرد لأسمائهم وصورهم إضافة للمعارك التي خاضها التونسيون ضد الاحتلال من شمال البلاد إلى جنوبها إلى غاية 1964. وتنفرد بعض قاعات هذا المتحف بتقديم إضاءة عن الحضارات التي تعاقبت على البلاد من خلال عرض سمعي بصري يقدم صورًا حية وأشرطة توثيقية.

اقرأ/ي أيضًا: مأساة العميد كردون.. لما اُغتيل شرف الجيش التونسي!

المتحف العسكري بمارث: ذاكرة الحرب العالمية الثانية.. "رومل" مرّ من هنا

يوجد هذا المتحف بمدينة مارث الصحراوية التابعة لولاية قابس، وتم افتتاحه سنة 1994 وهو مبني فوق هضبة تطل على "وادى زيغزاو" الذي يشق الصحراء التونسية الفسيحة. وقد كان خط مارث شهيرًا خلال الحرب العالمية الثانية، إذ بناه الجيش الفرنسي على طول 45 كلم سنة 1936 توقيًا من هجوم محتمل من القوات الايطالية المتمركزة في ليبيا، ثم كان مسرحًا لإحدى أكبر الجبهات الحربية في الحرب العالمية من نوفمبر/تشرين الثاني 1942 إلى ماي/آيار 1943 بين قوات الحلفاء وقوات ألمانيا النازية بقيادة القائد العسكري إرفين رومل. وتُدرّس اليوم تفاصيل معارك خط مارث بجلّ الأكاديميات العسكرية في العالم.

يؤرخ المتحف العسكري بمارث للعمليات العسكرية بمنطقة خط مارث خلال الحرب العالمية الثانية كما توجد به أزياء لمختلف الرتب العسكرية وأسلحة خفيفة وثقيلة وخرائط عسكرية استعملها قادة الحرب

أشرف الجيش التونسي على بناء هذا المتحف المتكون من عدة قاعات تؤرخ للعمليات العسكرية بالمنطقة خلال الحرب العالمية الثانية، كما توجد به أزياء مختلف الرتب العسكرية، وأسلحة خفيفة، وصور، وخرائط عسكرية استعملها قادة الحرب. كما توجد مقتنيات من الحياة اليومية للجنود على غرار الرسائل، والصور الخاصة وحتى الأغاني التي كانوا يسمعونها.

فيما توجد قبالة المتحف آليات ثقيلة، ودبابات، وسيارات، وشاحنات لنقل الجند، وطائرات، وملاجئ مدرعة ليصبح هذا المتحف فضاء مفتوحًا على ذاكرة الحرب العالمية الثانية يأتيه الباحثون المختصون في التاريخ العسكري من كل مكان في العالم، وهو يساهم أيضًا في تنشيط السياحة الصحراوية بالجنوب التونسي.

 

مدفعية من الحرب العالمية الثانية قبالة متحف مارث (getty)

 

متحف الذاكرة المشتركة التونسية الجزائرية: ملحمة التضامن ضدّ المستعمر الفرنسي

هذا المتحف، كما أشرنا بداية، هو آخر المتاحف التي أحدثها الجيش التونسي، ويكتسي أهميته الثقافية والحضارية من كونه يحفظ ذاكرة النضال المشترك التونسي الجزائري ضد المستعمر الفرنسي. ويعكس أيضًا هذا المتحف الدور البطولي الذي قام به التونسيون تجاه الثورة الجزائرية، ولعل وجوده في المقر السابق لقيادة الثورة المسلحة بمدينة غار الدماء الحدودية يضفي عليه تلك القيمة الرمزية والتاريخية. وقد قام الجيش التونسي بتهيئة هذا المقر وحافظ على هندسته المعمارية ذات الطابع الفرنسي، وأضاف إليه منزلين مجاورين أحدهما كان مقرًا لشرطة الحدود الجزائرية.

يكتسي متحف الذاكرة المشتركة التونسية الجزائرية أهميته الثقافية والحضارية من كونه يحفظ ذاكرة النضال المشترك التونسي الجزائري ضد المستعمر الفرنسي

يؤرخ المتحف بالتحديد للفترة الممتدة من 1954 إلى 1962، ويُبرز من خلال قاعاته الأربع علاقات التآزر والتضامن بين تونس والجزائر بتقديمه لعروض أرشيفية نادرة لعل أبرزها عرض عن الوضع الجغراسياسي لدول المغرب العربي التي ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي. كما يعرض الحياة اليومية للقيادة السياسية والعسكرية لجبهة التحرير الوطني الجزائري، إذ يقدّم لمحة هامة عن نضالات الشعب الجزائري وانطلاق ثورته إثر "مؤتمر صومام" في أوت/أغسطس 1956.

إن أهمية هذا المتحف الذي يرتفع فيه عاليًا العلم التونسي وبجانبه العلم الجزائري تبرز أساسًا من خلال تعزيز الروابط بين الشعبين الشقيقين وتعميقها حيث ينظر زواره من التونسيين والجزائريين بكل فخر إلى ما حققه الاجداد دفاعًا عن حرمة الوطن.

كيف السبيل للترويج لهذه المؤسسات المتحفية؟

هذه المتاحف الأربعة التي يشرف عليها الجيش التونسي هي من أهم المؤسسات الثقافية التي تعنى بتاريخ وحضارة تونس على امتداد ثلاثة ألاف سنة، فهي تعنى بالجوانب الفنية والابداعية وتروي القصص البطولية والثورات الشجاعة للتونسيين ضد الظلم والقهر بطريقة سردية أدبية وذلك فضلًا على عنايتها بالتاريخ العسكري التونسي وإبرازها للمسيرة المشرفة للمؤسسة العسكرية التونسية على امتداد عقود من الزمن.

يجب تسهيل الولوج للمتاحف العسكرية حتى يعبر التونسيون إلى تاريخهم وتثمينه في عيون الأجيال الناشئة ولا بدّ من ترويج هذه المتاحف دعمًا للسياحة الثقافية

لكن هذه المؤسسات لا يعرفها عامة الناس والدخول إليها يخضع لتلك الصرامة العسكرية بتقديم المطالب والتفتيش عند الدخول ومنع التصوير، وهي بتقديرنا من المسائل التي تتطلب مراجعة بإضفاء المزيد من التسهيلات حتى يعبر التونسيون إلى تاريخهم والتفاعل معه وتثمينه في عيون الأجيال الناشئة صونًا للهوية وفخرًا بالذات التونسية. ولابدّ أيضًا من ضرورة الترويج لهذه المؤسسات المتحفية الوطنية الهامة دعمًا للسياحة الثقافية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حديث في أحضان "سيدي محرز".. سلطان المدينة

جولة في المعالم الأثرية للقيروان.. ذاكرة الحضارة الإسلامية