بعد تعرضنا في الجزء السابق لخطر استطلاعات الرأي على المسار الانتخابي، نتعرض في هذا الجزء للخطر الثاني والحديث عن الميديا الاجتماعية والفيسبوك تحديدًا، هو خطر قد يحوّل الديمقراطية الناشئة إلى ديمقراطية شكلية تتلاعب بها قوى خفية. وتتعدّد مخاطر الميديا الاجتماعية منها استخدام الفيسبوك كفضاء للحملات السياسية التي يمكن أن تنظمها أحزاب سياسية أو قوى أيديولوجية خفية تعمل بشكل مباشر أو بشكل غبر مباشر لصالح مرشحين بعينهم وكذلك انتشار الأخبار الكاذبة (Fake news).
ويساهم كذلك الفيسبوك بسبب القواعد التقنية (Algorithmes) التي يستخدمها لعرض المضامين في سجن الناس في فضاءات مغلقة منسجمة أيديولوجيا وسياسيا لا مكان فيها للتنوع يطلق عليها "غرف الصدى" (Echos chambers).
يمكن أن تهدد الميديا الاجتماعية والفيسبوك المسار الانتخابي وتحوّل الديمقراطية الناشئة إلى ديمقراطية شكلية تتلاعب بها قوى خفية
وقد أقر مسؤولو الفيسبوك أنفسهم بالأخطار التي يمثلها الموقع على الحياة الديمقراطية رغم أنهم يحاولون "التخفيف من آثارها". وكان قد اعترف، في هذا الإطار، سميث شكرابرتي (Samidh Chakrabarti) المكلف بما يسمى "الانخراط المدني" في الموقع بأن هذه الأخطار تشمل خاصة الأخبار الكاذبة وخطابات الكراهية (أو الهرسلة السياسية). إذ يأتي الحديث عن نتائج الفيسبوك على المشاركة السياسية عندما تنجح قوى ما في توظيف موارد الموقع لفرض أفكارها وأرائها مما يؤثر على القرار السياسي، وكذلك إلى تدخل القوى الأجنبية في الحياة السياسية. في هذا الجانب، كشفت مثلًا صحيفة "لوموند" الفرنسية أخير أن أثرياء أمريكيين يمولون حملات إشهارية سياسية في أوروبا.
هكذا تعالت الأصوات في المجتمعات الديمقراطية للتنبيه من مخاطر الميديا الاجتماعية على الحياة الديمقراطية حتى أن البرلمان البريطاني أصدر في شهر فيفري/شباط 2019 تقريرًا عن التضليل والأخبار الكاذبة (Disinformation and fake news) وصف فيه شركات الميديا الاجتماعية بـ"العصابات الرقمية" (Digital Gangesters).
وفي هذا الإطار، بدأ فيسبوك في تطوير آليات لحماية الانتخابات على غرار ما يقوم بها حاليا لـ"تأمين الانتخابات الأوروبية" بحذف الحسابات الوهمية متتبعًا الأخبار الكاذبة لإضفاء الشفافية على حملات الإشهار السياسي.
فيسبوك.. مجال لتجاوز القانون الانتخابي
يُعتبر الإشهار السياسي آلية أساسية من آليات الاتصال والتسويق السياسي، إذ لا يمكن أن نتحدث عن حملات انتخابية دون إشهار سياسي لأن المرشحين لا يمكن لهم أن يتواصلوا مع كل المواطنين. يعرّف الإشهار السياسي بالمترشح وببرنامجه، ويسمح للمواطنين بالاطلاع على كل المترشحين. ورغم ذلك أرسى القانون الانتخابي أحكامًا صارمة تتعلق بالإشهار السياسي الذي يعرفه بأنه "كلّ عمليّة إشهار أو دعاية بمقابل مادي أو مجانًا تعتمد أساليب وتقنيات التسويق التجاري، موجهة للعموم، وتهدف إلى الترويج لشخص أو لموقف أو لبرنامج أو لحزب سياسي، بغرض استمالة الناخبين أو التأثير في سلوكهم واختياراتهم عبر وسائل الإعلام السمعيّة أو البصريّة أو المكتوبة أو الإلكترونيّة، أو عبر وسائط إشهاريّة ثابتة أو متنقلة، مركزة بالأماكن أو الوسائل العمومية أو الخاصة".
اقرأ/ي أيضًا: سلسلة "كيف سننتخب؟": في نزاهة المسار الانتخابي (4/1)
وتضمن الفصل 57 من القانون الانتخابي تحجيرًا "للإشهار السياسي في جميع الحالات خلال الفترة الانتخابية. ويخوّل للصحف الحزبية القيام بالدعاية خلال الحملة الانتخابية في شكل إعلانات إشهار لفائدة الحزب التي هي ناطقة باسمه والمترشّحين أو القائمات المترشّحة باسم الحزب فقط. ويمكن للمترشح في الانتخابات الرئاسية استعمال وسائط إشهارية، وتضبط الهيئة شروطها".
فيما يحجر الفصل 51 من كراسات الشروط للحصول على الإجازة للقنوات التلفزية والإذاعية، بث برامج أو إعلانات أو ومضات إشهار لفائدة حزب سياسي أو قائمات مترشحين بمقابل أو مجانًا.
دفعت التقييدات القانونية المتعلقة بالإشهار السياسي الفاعلين السياسيين إلى استخدام منصّات الميديا الاجتماعية لاستقطاب واستهداف ملايين التونسيين
ودفعت هذه التقييدات المتعلقة بالإشهار السياسي الفاعلين السياسيين إلى استخدام منصّات الميديا الاجتماعية لاستقطاب واستهداف ملايين التونسيين (4 ملايين على الأقل إذا حذفنا مثلًا الحسابات المزدوجة) مما جعل من موقع الفيسبوك فضاء مناسبًا لكل أنواع الحملات الاستشهارية السياسية. كما تشير بعض الدراسات المتاحة إلى أن فيسبوك أصبح يمثل مصدرًا أساسيًا من مصادر استقاء الأخبار لدى التونسيين. فحسب استطلاع رأي أنجزته جمعية "بر الأمان"، كان الفيسبوك المصدر الرئيسي بالنسبة لـ 41 في المائة من التونسيين وذلك مقابل 19 في المائة فقط بالنسبة للتلفزيون.
إحصائيات حول استعمال الميديا الاجتماعية لدى التونسيين
تحوّل الفيسبوك، على هذا النحو، إلى فضاء استراتيجي لتطوير إستراتيجيات التأثير على الناس والإقناع والتسويق السياسي وتحسين الصورة إما عبر الصفحات الشخصية أو عبر المحتوى المموّل (Contenu Sponsorisé). ويُمارس هذا النوع من الإشهار لفائدة الشخصيات السياسية سواء أكانت في السلطة أو خارجها إضافة إلى الأحزاب السياسية لأن الفيسبوك يسمح بالنفاذ إلى قطاعات هامة من التونسيين بتكلفة معقولة جدًا.
وتبين الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2014 أن بعض المترشحين لم يحترموا مبدأ منع الإشهار في الفترات الانتخابية بتجاوز القانون عبر حيل عديدة كأن تقوم صفحات إخبارية أو ترفيهية تُستخدم لصالح هذا التيار أو ذاك بنشر مضامين يروج لها بطريقة إشهارية مخاتلة مما يرفع الحرج عن المرشح نفسه. ولا توجد معطيات إحصائية عن حجم الإنفاق الإشهاري في الفيسبوك ومدى قانونيته خاصة وأنه يُدفع بالعملة الأجنبية إذ لا تملك شركة فيسبوك فرعًا في تونس.
اقرأ/ي أيضًا: سلسلة "كيف سننتخب؟": استطلاع الرأي، مرآة "الرأي العام" أو آلية لصناعته؟ (4/2)
وكما يشتكي السياسيون من استطلاعات الرأي وتأثيراتها على نوايا التصويت وعلى نزاهة العملية الانتخابية، فهو يشتكون أيضًا من الحملات المنظمة ضدهم في الفيسبوك ومن الأكاذيب التي يتعرضون إليها حتى أن وزيرًا صرح أنه وجد عددًا ضخمًا (يناهز السبعين صفحة) من الصفحات تدار من قبل موظفين للوزارة للقيام بحملات تشهير بمناوئي الوزير السابق.
وحتى نفهم الأخطار الممكنة التي تهدد الديمقراطية التونسية الناشئة، يمكن أن نستدل بما يسمى فضيحة "Cambridge Anlaytica" التي كشفت كيف أن حملة دونالد ترامب استخدمت وسائل وطرق دقيقة لاستهداف الناخبين الأمريكيين وللتأثير في اتجاهات الناخبين عبر معالجة المعطيات المتوفرة عنهم في الميديا الاجتماعية.
يشتكي السياسيون من الحملات المنظمة ضدهم في فيسبوك ومن الأكاذيب التي يتعرضون إليها عبر هذا الفضاء الاجتماعي
وتعكس بعض الحملات الإشهارية السياسية على الفيسبوك درجة من الجودة والمهنية ما يدفعنا للقول بإن بعض الأحزاب والشخصيات السياسية في تونس تستعين أيضًا بهذه الشركات التسويقية. ويعطينا التدخل الروسي بهدف التأثير على الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، الذي أصبح أمرًا مؤكدًا وفق تقارير رسمية أمريكية، دروسًا هامة جدًا عن الطرف الملتوية المستخدمة للتأثير في إرادة الناخبين وتشكيلها.
سواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة أو بتونس، فالمقاربات هي ذاتها وتتمثل في إنشاء صفحات مجهولة المصدر (أو حسابات وهمية) تروج بطريقة مكثفة معلومات زائفة حول مرشح ما، ويقع تقديمها في شكل أخبار يُعاد نشرها عبر مواقع إخبارية تكون بدورها متخصصة في الأخبار الكاذبة. ثم تنتشر هذه الأخبار الكاذبة لدى المواطنين الذين بدورهم يساهمون في الترويج إليها وهم يعلمون أحيانا أنها كاذبة.
يعطينا التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية دروسًا هامة جدًا عن الطرف الملتوية المستخدمة للتأثير في إرادة الناخبين وتشكيلها
اقرأ/ي أيضًا: الأخبار الكاذبة Fake News.. خطر يهدّد انتخابات 2019
وإذا أخذنا في الاعتبار سياق الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي، يمكن أن نفهم كيف يمكن أن تتحول الأخبار الزائفة المروّجة على الصفحات الوهمية في إطار الحملات الدعائية المدروسة إلى مادة "إخبارية" ينشرها المواطنون (بما في ذلك الفئات المتعلمة والنخب المختلفة) على صفحاتهم ويعلقون عليها بل تنتقل بعد ذلك إلى بعض المواقع الإخبارية بل ويستهزئون ممن لا يصدقها. ولا شيء يمنع من القول أن هناك قوى أجنبية يمكن أن تستخدم هذه الأحبار الكاذبة للتدخل في الحياة السياسية التونسية بطرق خفية وماكرة.
وعلى هذا النحو، تحولت الأخبار الكاذبة إلى مشكلة أساسية ذات تأثيرات بالغة على الناخبين لأنها تزودهم بمعلومات مغلوطة وزائفة هدفها التأثير على إدراكهم للحياة السياسية ولتوجيه قرارهم الانتخابي بطريقة ماكرة بل هي على نحو من تسلبهم القدرة على الحكم العقلاني على الأشياء.
وقد أقر البرلمان الفرنسي، في هذا الإطار، قانونًا لمكافحة الأخبار الزائفة يتيح للمترشحين مقاضاة من ينشر أخبارًا كاذبة وإيقاف نشرها بالتعاون مع شركات الميديا الاجتماعية على اعتبار إمكانية تأثيرها على نزاهة عملية الاقتراع. لكن المقاربة القانونية ليست دائمًا مقبولة من طرف بعض التيارات السياسية والقوى الحقوقية أو حتى الصحفية بالنظر إلى التهديدات التي يمكن أن تنتج عنها على حرية التعبير.
في المقابل، قامت شركة فيسبوك بتفعيل بعض الآليات لضمان شفافية الحملات السياسية خاصة إتاحة بعض المعلومات عن الصفحات والأماكن التي تُدار منها وعدد المشرفين عليها والحملات التي تقوم بها هذه الصفحات.
تحولت الأخبار الكاذبة إلى مشكلة أساسية ذات تأثيرات بالغة على الناخبين لأنها تزودهم بمعلومات مغلوطة وزائفة هدفها التأثير على إدراكهم للحياة السياسية ولتوجيه قرارهم الانتخابي بطريقة ماكرة
أما الخطر الثالث الذي يمكن أن نشير إليه حول مخاطر الميديا الاجتماعية، فهو يتعلق بتعزيز الفيسبوك لما يسمّى الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي، إذ ينغلق الناس داخل جماعات سياسية وفكرية وإيديولوجية منسجمة لا تقبل الاختلاف أو النقاش وتبادل وجهات النظر. بل إن الفيسبوك وبسبب اشتغاله وفق خصائص القواعد (Algorithmes)، قد يحجب عنا ما لا نتفاعل معه أي بتعبير آخر فهو يبدو غير منسجم مع اتجاهاتنا. ويؤثر هذا الأمر على الحياة الديمقراطية لأن الميديا الاجتماعية أصبحت مجالًا لخطاب الكراهية والفصل بين الناس بدل أن تكون فضاء لاكتشاف الآراء المختلفة.
ينغلق التونسيون فيما يسمّى غرف الصدى (Echo chambers ) حيث يتعرّضون فقط إلى المضامين التي تعزز أفكارهم وأرائهم ممّا يمثل خطرًا على الطبيعة الديمقراطية للمسار للانتخابي الذي يستلزم أن يتعرف المواطن على الحجج المختلفة والمتنوعة التي تسمح له باتخاذ القرار الصائب عقلانية.
لقد أصبح الفيسبوك في تونس، بعد أن فقد بريقه وبراءته كفضاء للحراك الاجتماعي والتعبير المواطني، فضاء تُجند فيه وسائل الدعاية الفجة والتضليل ونشر الأخبار الزائفة في إطار الصراع السياسي. بل تحول الفيسبوك إلى فضاء إستراتيجي تُدار فيه مواجهات سياسية وأيديولوجية لا حصر لها يتغذى جزء منها من استعداد الناس لتصديق كل ما يتعرضون إليه بما في ذلك الأكاذيب التي يقومون بإعادة بثها متحولين بدورهم إلى أداة بيد إستراتيجية التضليل وهم يعتقدون أنهم يؤدون دور المواطن الملتزم والنشط!
اقرأ/ي أيضًا:
مواقع التواصل الاجتماعي.. الفضاء البديل تونسيًا
مواقع التواصل الاجتماعي.. بوابة إغاثة أنقذت حياة عدد من التونسيين