إن السؤال الذي نبحث عن الإجابة عنه هنا يتعلّق بتفسير ضمور مكانة التاريخ في التلفزيون التونسي وفي الميديا بشكل عام. ماهي الفرضيات التي يمكن أن تساعدنا على تفسير انعدام (أو قلة) الاهتمام بالتاريخ رغم تحرر التلفزيون والميديا من السلطة السياسية التي كانت تفرض سرديتها لأحداث التاريخ المعاصر وخاصة حقبتيْ الاستعمار والاستقلال؟ وما الذي يفسر إهمال التلفزيون للتاريخ في مجتمع يباهي بماضيه العريق الذي يمتد على ثلاث آلاف سنة حضارة؟
اقرأ/ي أيضًا: "الخبير".. صناعة سلطة التلفزيون الجديدة؟
لما يجب الاهتمام بمكانة التاريخ في التلفزيون بشكل خاص وفي الميديا بشكل عام؟
إن التلفزيون مؤسّسة ليست ككل المؤسسات تتقاطع فيها الثقافة والاقتصاد والسياسة والمجتمع، وهي تقدم خدمات ذات أهمية بالغة للمواطنين وللمجتمع لأنها تمثل مرفقًا عموميًا حتى وإن كانت خاصّة. ولهذه الأسباب أيضًا، يخضع التلفزيون (والإذاعة كذلك) إلى عملية التنظيم (أو التعديل) أي أن الدولة والمجتمع يضعان إطارًا يحدد وظائفه على وجه الخصوص بما أنه خدمة ليست ككل الخدمات يمكن إخضاعها للمصالح الخاصة المنفعية.
يلاحظ المتفحص في برامج التلفزيون التونسي دون عناء غياب البرامج التاريخية الوطنية التي تمثل نظريًا بعدًا أساسيًا من أبعاد دعم التلفزيون للثقافة الوطنية وهو ما يعطي الانطباع أن التونسيين شعب بلا تاريخ
وفي كل الدول الديمقراطية، تقتضي عملية التنظيم (أو التعديل) أن تلتزم القنوات التلفزيونية بكرّاسات شروط تتضمن واجباتها والتزاماتها. وقد جاء في كرّاسات الشروط التي وضعتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري التي تلتزم بها القنوات التلفزيونية (والإذاعية أيضًا) عدّة أحكام تضبط روح البرمجة العامة التي يجب أن تستلهم منها القنوات التلفزيونية التونسية سياساتها الخصوصية من بينها "تنمية برمجة وبث يعبّران عن الثقافة الوطنية وانفتاحها على القيم الإنسانية" وبذلك، "تلتزم إذن القنوات الحاصلة على إجازات على تخصيص نسبة مئوية من البرامج الداعمة للثقافة الوطنية والبرامج الاجتماعية".
يؤدي التلفزيون بهذا المعنى وظائف أساسية بالنسبة للمجتمع والثقافة لأن البرامج التاريخية على سبيل المثال ذات أهمية بالغة فهي حافظة للذاكرة الجماعية ومجددة لها. إن الميديا بهذا المعنى وسيط هذه الذاكرة تروي لنا وقائع التاريخ. كما لا تكتفي برواية وقائع التاريخ واستعراضها بل هي تسمح أيضًا بربط الناس بعضهم ببعض كما تسمح لهم بالنظر إلى الحاضر من منظور التاريخ. كما يتيح التلفزيون نقاشات حول الأحداث التاريخية في المجال العمومي، وهي نقاشات تعزز أيضًا الهوية الجماعية ومشاعر الانتماء لدى المواطنين إلى جماعة ذات ذاكرة مشتركة يتداولون في مجال عمومي واحد في قضايا ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
لكن المتفحص في برامج التلفزيون التونسي يلاحظ دون عناء يذكر غياب البرامج التاريخية الوطنية التي تمثل نظريًا بعدًا أساسيًا من أبعاد دعم التلفزيون للثقافة الوطنية وهو ما يعطي الانطباع أن التونسيين شعب بلا تاريخ وبلا ذاكرة. وتقتصر بعض البرامج التاريخية على المناسبات الكبرى مثل ذكرى الاستقلال الوطني أو عيد الجلاء أو بعض المناسبات القليلة الأخرى الدينية ببث بعض المسلسلات التاريخية المستوردة في كثير من الأحيان. وقد شاهدنا بعض المحاولات أخيرًا لإنتاج المسلسلات التاريخية على غرار مسلسل "تاج الحاضرة" لكنها تبقى محدودة في غالب الأحيان
في المقابل، يرى المتابع للقنوات الأجنبية اهتمامًا بالغًا بالتاريخ حتى أننا نجد قنوات خاصة أو مخصصة برمتها للتاريخ على غرار قناة "كل التاريخ" (Toute l’histoire)، وتحتل البرامج التاريخية مكانة لا بأس بها في القنوات المتخصصة غير التاريخية أو في القنوات الأخرى العامة. ولا يمكن على سبيل المثال لمتابع القنوات الفرنسية ألا يلاحظ مكانة الأفلام الوثائقية عن الحربين العالميتين الأولى والثانية في القنوات العامة والخاصة.
ما الذي يفسر غياب التاريخ في التلفزيون؟
لنبدأ باستعراض بعض الفرضيات عن غياب التاريخ في للبرامج التلفزيونية في التلفزيونات الخاصة والعمومية: هل هي الإمكانات المادية التي تحتاجها البرامج التاريخية وخاصة البرامج الوثائقية التاريخية والكفاءات التقنية وغير التقنية الضرورية لذلك (كتاب السيناريو، مؤرخون، مخرجون، فنيو المؤثرات الإخراجية) أي بتعبير آخر هل هناك عجز في مستوى الكفاءات التونسية القادرة على إنتاج البرامج التاريخية؟ أم أن الأمر يتعلق بخيار أساسي لدى كل القنوات يتمثل في إتباع برمجة ذات مردودية قصيرة المدى يمكن أن تحقق فوائد سريعة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل معنى هذا أن النموذج التجاري والترفيهي أي نموذج التسلية السائد في الميديا التلفزيونية والإذاعية بشكل عام هو الأفق الوحيد الممكن للتلفزيون في السياق الحالي؟
هل النموذج التجاري والترفيهي أي نموذج التسلية السائد في الميديا بشكل عام هو الأفق الوحيد الممكن للتلفزيون في السياق الحالي؟
اقرأ/ي أيضًا: هل التلفزة التونسية مرفق عمومي حقًا؟
وهل يعنى غياب البرامج التاريخية أن مصممي البرامج يتمثّلون الجمهور (أي التونسيين) عازفًا عن الثقافة والتاريخ، ولا يستحسن إلا الهزل التلفزيوني ومشاهدة نجوم التلفزيون وهم يلهون ويلعبون ويتبادلون النكت، وجمهور يحبذ الاسترخاء في أمام التلفزيون لنسيان المشاغل اليومية؟ ثم لماذا لا نرى في البرامج الإخبارية اليومية طرحًا للقضايا من زوايا التاريخ مما يفسر الحضور المحدود للمؤرخ كقارئ للأحداث؟ ولماذا لا تمثل المعرفة مرجعية من مرجعيات تفسير الأحداث وكأن الحاضر منعزل عن التاريخ وعن الماضي؟ وهل يكون مرد ذلك أن الكرونيكور مستحوذ على هذا الدور: دور استقراء الأحداث في كل الأوقات.
وفي كل الحالات، ما الذي يفسر إعراض التلفزيون العمومي عن البرامج التاريخية؟ هل هي الفرضيات السابقة مجتمعة: ضعف الإمكانات المادية وقلة أو غياب الكفاءات؟ أم إذا استنجدنا بفرضية هيمنة نموذج لتلفزيون التسلية والمنطق التجاري القائم عليه، فإن الأمر يصبح حقًا خطيرًا لأن معنى ذلك أن التلفزيون العمومي قد فقد هويته وتحول إلى نسخة باهتة من التلفزيون الترفيهي السائد عندما تخلى عن وظائفه؟
التلفزيون مٍرآة ملتبسة لما نحن عليه
لكن في المقابل، لماذا نوجه اللوم كلّه للتلفزيون؟ أليس التلفزيون (بمعنى المشهد بمختلف القنوات العامة والخاصّة المكوّنة له) مرآة للمجتمع والثقافة؟ ومن هذا المنظور، هل أن محدودية البرامج التاريخية تحيل على ضعف علاقة التونسيين بشكل عام بالتاريخ وضمور شغفهم به؟ وفي هذه الحالة، إن الأمر لا يتعلق بإدانة التلفزيون أو بنقده أو بتحميله مسؤولية نسيان التاريخ بقدر ما يتعلق باستكشاف علاقة التونسي الضعيفة بالتاريخ لأن التلفزيون في هذه الحالة هو انعكاس للذهنية السائدة وامتداد لما يمثله التونسيون لعلاقتهم بتاريخهم. وفي هذه الحالة، تمثل البرامج التاريخية أي مكانة البرامج التاريخية في القنوات التلفزيونية تعبيرًا عن حاجة للمعرفة التاريخية تعبر عن نفسها عبر الإقبال على الكتب أو بالإقبال على المحاضرات المتصلة بالتاريخ، وزيارة المتاحف إلخ.
إن الاهتمام بمكانة التاريخ في التلفزيون يتيح لنا أن نرى كيف يرانا التلفزيون أي بتعبير آخر الصور التي يعبر بواسطتها التلفزيون عما نحن عليه
إن الاهتمام بمكانة التاريخ في التلفزيون يتيح لنا أن نرى كيف يرانا التلفزيون أي بتعبير آخر الصور التي يعبر بواسطتها التلفزيون عما نحن عليه. إن التلفزيون مرآة لكنه ليس بالضرورة مرآة عاكسة لكل شيء هو بالأحرى مرآة ملتبسة: ثمة أشياء يظهرها وأخرى يخفيها، أشياء يبرزها ويقربها وأخرى يبعدها ويصغرها، والتلفزيون يهذا المعنى يعكس، على نحو ما، ما نحن عليه.
لنحاول مثلًا أن نعود إلى الوراء لنشاهد برامج التلفزيون التونسي في الستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات. هل سنرى تونس كما كانت والمجتمع التونسي كما كان؟ لن نرى في الحقيقة سوى ما أراد التلفزيون أن يراه التونسيون آنذاك. إن التلفزيون بتعبير آخر لم يكن مرآة كاملة لما يريد أن يراه التونسيون آنذاك بل مرآة للتلفزيون نفسه أي علاقته بالمجتمع والسياسية آنذاك. فلا غرابة أن نرى على وجه الخصوص الحبيب بورقيبة "الزعيم" وهو يستأثر بالمشهد التلفزيوني، ويعكس ذلك، على نحو ما، ما كانت عليه السياسة آنذاك وسطوة بورقيبة على الحياة العامة.
وكذلك الأمر في التسعينيات وحتى اندلاع الثورة، كان التلفزيون وهو الذي أصبح يشتغل على مدار الساعة يخفي أكثر مما يظهر. وعلى هذا النحو، إن البرامج التاريخية وإن وجدت لم تكن سوى تعبير عن السردية الرسمية، فتاريخ تونس المعاصر هو تاريخ "المجاهد الأكبر" وأحداث حياته الخارقة، ثم تحول إلى رواية تاريخ تونس المعاصر من وجه نظر "صانع التغيير".
تبدو الأمور وكأنها تغيرت جذريًا وبالكامل بعد الثورة حتى أن التلفزيون أصبح مشهدًا يتسع للجميع: السياسيون بكل ألوانهم والآراء حتى تلك التي نراها متطرفة وإرهابية وكذلك المواطنون نراهم يشتكون، ويتذمرون أو يسردون تفاصيل عواملهم الخاصة جدًا، فيبدو التلفزيون وكأنه انفتح على الناس وعلى المجتمع وعلى عوالم الناس.
لا يجب أن نكتفي في نقد التلفزيون بما نراه من برامج بل لا بد أن نكشف عما يسعى إلى إخفائه أو إلى تصغيره لأن في ذلك مدخلًا لفهمه باعتباره مؤسسة ذات أبعاد سياسية وثقافية
إن ما يجب أن ننشغل به هو الآتي إذًا: لماذا يخفي التلفزيون التاريخ في وقت يبدو فيه أنه انفتح على كل شيء؟ لنجرّب فرضية أخيرة: هل لأن التاريخ موضوع خلافي يمكن أن يكون حقلًا لصراعات سياسية وإيديولوجية لا يرغب التلفزيون (العمومي على وجه الخصوص) أن يكون مشهدًا لها وحاضنا لها لأنه إن كان مشهدًا للعراك السياسي فهو يريد أن يكون في كل الأحوال توافقًا إجماعيًا (consensuel) وهذا بعد جديد للتلفزيون إضافة إلى بعده التجاري الترفيهي؟
ولعل هذا البعد "الإجماعي" هو ما قد يتمايز به التلفزيون العمومي منذ 2011 عن التلفزيون الخاص لأنه يريد أن يكون فوق الصراعات والخلافات، وقد يكون هذا مدخلًا لفهم أدواره منذ 2011. ومن هذا المنظور، إن محدودية البرامج الإخبارية قد تكون تعبيرًا عن هوية التلفزيون العمومي نفسه. وفي كل الأحوال، لا يجب أن يكتفي في نقد التلفزيون بما نراه من برامج بل لا بد أن نكشف عما يسعى إلى إخفائه (أحداث، شخصيات إلخ) أو إلى تصغيره لأن في ذلك مدخلًا لفهمه باعتباره أيضًا مؤسسة ذات أبعاد سياسية وثقافية.
اقرأ/ي أيضًا: