23-ديسمبر-2019

ما الذي يفسّر صعود خبراء بعينهم في الإعلام التونسي؟ (Getty)

 

لعلّ البرنامج الحواري هو الابتكار الأكثر أهمية في المشهد التلفزيوني والإذاعي بعد أن تحرّرت الميديا من النفوذ المباشر للسلطة السياسية. فالبرنامج الحواري يحقّق للميديا مكسبًا رمزيًا لا بأس به يتمثّل في أن تظهر بمظهر المنتدى الديمقراطي تستدعي فيه كل الأصوات للنقاش في قضايا الشأن العام، فيتحوّل التلفزيون (أو هكذا يريد) إلى ما يشبه المنتدى الديمقراطي (Agora) الإغريقي الذي كان يتوسّط المدينة باعتباره فضائها العمومي الذي تدار فيه شؤون المدينة بواسطة النقاش. والبرنامج الحواري أنواع: يمكن أن يكون ذا طابعًا إخباريًا محضًا يبث يوميّا لمناقشة الأحداث المستجدة أو أسبوعيًا أو ذا طابعًا يكاد يكون ترفيهيًا تنتظم فيها المبارزات والمناظرات بواسطة الصدامات (الكلاش).

لعلّ البرنامج الحواري هو الابتكار الأكثر أهمية في المشهد التلفزيوني والإذاعي بعد أن تحرّرت الميديا من النفوذ المباشر للسلطة السياسية

وتستفيد الميديا من البرنامج الحواري باكتسابها لسلطة جديدة: سلطة إدارة الحوار أو النقاش السياسي بواسطة انتقاء المشاكل أو القضايا لإعطائها بعدًا عامًا ومشروعًا ثم بانتقاء المتكلمين أيضًا وتوزيع الحديث (الوقت) بينهم وإبرازهم أو تهميشهم، فالميديا أصبحت من هذا المنظور حاضنة النقاش السياسي. وعلى هذا النحو، أصبح لكل قناة تلفزيونية برنامجها الحواري الذي هو كالملح الذي لا يغيب عن طعام وهو ما يميّزها عن القنوات الأخرى والبرنامج الرئيسي فيها الذي تُجنّد له كل موارد القناة. وقد تستبدل بعض القنوات البرنامج الاخباري أو النشرة الإخبارية بالبرنامج الحواري، وهكذا تحوّل هذا النوع من البرامج إلي طقس من طقوس الزمن التلفزيوني يستدعي الحضور اليومي للمشاهدين.

وفي السنوات الأولى بعد الثورة، لم يكن مصمّمو البرامج الحوارية دائمًا مدركين لضوابط التنوعّ في مستوى تمثيل الفاعلين السياسيين أو غير السياسيين، فكان للجميع حظوظ وافرة في الظهور بل شهدت فترة كان فيها الأحزاب غير نمطية مثل حزب التحرير حظوة تلفزية وإخبارية رغم أنهم غير ممثلين في البرلمان ولا يمتلك مصممو البرامج الحوارية معطيات حقيقية وفعلية عن تمثيليتهم وحجمهم في المجتمع.

اقرأ/ي أيضًا: هل تونس هي مخبر الصحافة في العالم العربي؟

لماذا تحتاج الميديا إلى  الخبير؟

إن هذا المدخل أساسي حتى نفهم مكانة الخبير في المشهد التلفزيوني لأن الخبير من الفاعلين الجدد الذين ظهروا في الميديا الاذاعية والتلفزيونية إضافة الى فاعلين آخرين على غرار "الكرونيكور"، فالميديا تحتاج في برامجها الحوارية إلى متكلّمين إضافة إلى السياسيين. كما تحتاج البرامج الحواريّة أيضًا إلى ملء الوقت الطويل الذي يستحقه البرنامج لأنّ المواد الأساسيّة التي تؤثثه، في الميديا الإذاعية والتلفزيونية التونسية، هو الكلام باعتباره المادة الأقل تكلفة في مستوى الإنتاج، فالتقارير الميدانية، من تحقيقات وريبورتاجات، تحتاج إلى موارد هامة.

أما السبب الثاني، فهو أن الميديا تريد أن تضفي بعدًا جدّيًا على نفسها بما أنها تقدّم نفسها ضمنيًا كمؤسّسة توفر "الحقائق" أو "المعارف" التي يحتاجها التونسيون لفهم الواقع الذي يعيشون فيها، لأن التلفزيون يفترض أن التونسيين يجدون كل يوم من يفسّر لهم وقائع اليوم ويقترح عليهم فهمًا لها. ولهذا السبب، عادة ما يحبّذ معدّو البرامج إطلاق صفة "الخبير" على ضيوفهم من الجامعيين مثلًا حتى ولو كان الضيف مكتفيًا بالتدريس فقط لإبراز مكانته وتثمين كلامه.

يمثل الخبير آلية من آليات بناء الميديا لنفوذها عبر  انتقاء خبراء بعينهم يُقدمون على أنهم أصحاب قراءة موضوعية وعلمية للأحداث أو للظواهر  وتوظيف هذا "الخبير"  لتأويل الأحداث بطريقة مخصوصة ومعينة

تلجأ الميديا التونسية إذًا إلى أصناف متعدّدة من الخبراء ومنها الخبير في الإرهاب والخبير في الاقتصاد والخبير في القانون (الدستوري). أما في البرامج غير السياسية، فيمكن أن يكون الخبراء في مجال الطب (أطباء في برامج متخصصة) أو مختصين في التغذية أو في الرياضة (محلل رياضي) يقدم في هذه الحالة على أنه خبير رياضي أو في التحكيم. وفي كل الأحوال، تحتاج الميديا إلى متكلمين مهما كانت الصفات التي تُطلق عليهم.

في هذا الإطار، تأتي الميديا بالخبير (الجامعي المتخصص في القانون الدستوري مثلًا) في البرامج السياسية بما أنه مصدر موضوعي متعال عن الفرقاء السياسيين الذي يمكن للمشاهد أن يثق فيه، على عكس "الكرونيكور" المنحاز أحيانًا عديدة وهو صاحب الرأي. وقد يكون هذا السبب الذي يفسّر لماذا يحبذ معدو البرامج والصحفيين إطلاق صفة الخبير على فئة واسعة من المشاركين معهم بما في ذلك الأستاذ الجامعي الذي يقدم عادة بأنه خبير لأن في ذلك تعزيزًا لسلطته المعرفية. تحتاج الميديا إذًا إلى الخبير لإضفاء الموضوعية على نفسها لتصبح ميديا يُستثاق بها وحتى تقدم نفسها مصدر لمعرفة علمية أو موضوعية وغير منحازة.

يمثل الخبير إذًا آلية من آليات بناء الميديا لنفوذها في مستويين: انتقاء خبراء بعينهم يُقدمون على أنهم أصحاب قراءة موضوعية وعلمية للأحداث أو للظواهر وقادرين على التفسير مع إخفاء اتجاهات الخبير ومصالحه ومواقفه حتى يقدّم رأيه في مجالات مخصوصة على أنها معطيات علمية ثم توظيف هذا "الخبير" لتأطير الأحداث أي بتعبير لتأويل الأحداث بطريقة مخصوصة ومعينة.

صعود الخبير وأدوار الصحفيين المحدودة

صعود الخبير متصل أيضًا بطبيعة الأدوار التي يقوم بها الصحفي، فلا شكّ أن صعود الخبير متّصل كذلك بضعف مكانة الصحفي المتخصص وأدواره المحدودة. فالسياق المهني الذي يشتغل فيه الصحفيون التونسيون لا تتيح بالمرة الشروط التي تسمح للصحفيين أن يتخصصوا في مسائل أو في مجالات بعينها على غرار الإرهاب والاقتصاد بسبب ضعف قدرات المؤسّسات على توفير هذه الشروط وخاصة الوقت الذي يسمح للصحفي بالاطلاع على الأدبيات المتخصصة والحضور في الندوات والمؤتمرات أو متابعة برامج تدريبية متخصصة. ولعلّ الصعوبات المتّصلة بظهور الصحفي المتخصص تعتبر مؤشرًا جيدًا على أزمة الصناعة الصحفية برمتها ولكن أيضًا مؤشرًا على ما يمكن أن نسمّيه شروط التميز المهني (L’excellence professionnelle) في مهنة الصحافة.

إن صعود الخبير و"الكرونيكور" مرتبط بعجز الصحفيين أو محدودية قدراتهم على إرساء شروط التميز المهني داخل مؤسساتهم أي بتعبير آخر على تغيير السياقات المؤسسية التي يعملون بها فرديًا وجماعيًا

اقرأ/ي أيضًا: المفارقة التونسية: هل الصحفيون التونسيون أحرار حقًا؟

إذ تتوفر للمهن الأخرى على غرار الطب والمحاماة والقضاء عادة شروط التميز المهني إمّا بسبب أنها مهن حرة (المحاماة والطب) أو لأنها عملت على مأسسة هذه الشروط. وعلى هذا النحو، يمكن أن نقول إن صعود الخبير و"الكرونيكور" مرتبط بعجز الصحفيين أو محدودية قدراتهم على إرساء شروط التميز المهني داخل مؤسساتهم أي بتعبير آخر على تغيير السياقات المؤسسية (خاصة في مؤسسات الميديا العمومية حيث الموارد أوفر مما هي عليه في مؤسسات الميديا الخاصة) التي يعملون بها فرديًا وجماعيًا.

إن محدودية شروط الإبداع المهني التي يمكن أن تؤدي إلى التخصص هي التي تفسر، من هذا المنظور، هيمنة صحافة النقل التي تدفع الصحفي أحيانًا كثيرة إلى الاكتفاء بدور ناقل الآراء والمواقف ووجهات النظر: أراء السياسيين ونشطاء المجتمع المدني أو الخبراء دون أن تكون له القدرة دائمًا على التفسير. وهذا ما قد يفسر أيضًا ضعف وظيفة التفسير في الصحافة التونسية في مجالات أساسية على غرار الاقتصاد، وعلى هذا النحو يُستدعى الخبير الاقتصادي لحسم النقاش في بعض المسال الاقتصادية على غرار النقاش حول ميزانية الدولة.

لكن ما الذي يفسّر صعود خبراء بعينهم؟

إن السياقات المهنية الصعبة التي يعمل فيها الصحفيون لا تسمح لهم ببناء شبكة مصادر متنوعة، فبناء شبكة مصادر من الخبراء (أو من غيرهم) تحتاج إلى وقت طويل وجهود مضنية لتشخيص المصادر ذات الكفاءة والاختصاص. كما أن الصحفيين لا تتوفر لديهم الإمكانات في غرف الأخبار لبناء قواعد بيانات تتوفر فيها معطيات جيدة عن المصادر لتُستخدم فيما بعد كموارد أساسية ومشتركة للبحث عن المعلومات. وقد لا يحبذ أيضًا البعض في غرف الأخبار أن تصبح المصادر (أو شبكة المصادر بالأحرى) موردًا مشتركًا.

يكاد يكون الخبير بالنسبة إلى البرامج الحوارية ليس من يمتلك المعارف الضرورية للحديث باسم العلم والمعرفة والاختصاص بل هو من يجيد اللغة التلفزيونية التي هي أحيانًا لغة الإثارة والإيجاز 

إن هذا ما يفسر الاعتماد المتواتر على خبراء يعنيهم "تستهلكهم" الميديا بإفراط حتى يصبحوا جزءًا من المشهد. لكن هذا العامل (أي نقص المصادر) لا يفسّر وحده اعتماد الميديا في تونس على خبراء بعينهم في بعض الاختصاصات بعينها على غرار الإرهاب والاقتصاد والقانون الدستوري. فما الذي يمكن أن يفسّر هذا الاعتماد على بعض الخبراء بعينهم دون آخرين أو بما يفسر بتعبير آخر الحظوة التي يتمتع بها البعض دون آخرين؟ هم خبراء تحولوا إلى جزء من المشهد التلفزيوني نفسه.

تلتجئ الميديا على عدد قليل من الخبراء بسبب عدة عوامل أخرى إمّا لأنهم "متاحون" أكثر من غيرهم أو لأنها تعتقد أن لهم قدرات تواصلية أكثر من غيرهم للمشاركة في النقاش باعتباره حلبة، خاصة وأن الجامعيين يحجمون عادة على الظهور لأسباب عديدة ومنها مثلًا محدودية القدرة عن الحديث بالعربية (في اختصاصات الاقتصاد مثلًا) أو لأن بعض الجامعيين يعتقدون أن مخالطة الميديا هو نوع من المغامرة غير محمودة العواقب خاصة عندما يتعلق بتحويل المعلومات والمعطيات والمعارف الجامعية إلى أدوات لاستقراء الواقع والأحداث.

وعلى هذا النحو، يكاد يكون الخبير بالنسبة إلى البرامج الحوارية ليس من يمتلك المعارف الضرورية للحديث باسم العلم والمعرفة والاختصاص بل هو من يجيد اللغة التلفزيونية التي هي أحيانًا لغة الإثارة والإيجاز والمتاح دائمًا للحديث في كل المسائل والقادر على ربط علاقات شبكية مع الصحفيين والسياسيين أو الذين يبحثون عن الظهور التلفزيوني كمصدر من مصادر الوجاهة الاجتماعية ونوع من أنواع الاعتراف الاجتماعي.

في معايير انتقاء الخبير

لا يبدو أن عملية توظيف الخبير في الميديا التونسية تخضع إلى معايير معلومة، فالخبير يمكن أن يمثل بالنسبة إلى الناس مصدرًا يثقون فيه ولهذا السبب وضعت المؤسسات الميديا في العالم ضوابط صارمة خاصة بالخبراء في مواثيقها التحريرية. وعلى  سبيل المثال لا الحصر، يتضمن الميثاق التحريري للتلفزيون الفرنسي العمومي أن الخبراء الخارجيين الذين يتم دعوتهم بشكل واضح يجب الإشارة إلى مهنتهم واختصاصهم حتى يتمكن الجمهور من تقييم أرائهم. وبشكل عام، تحرص المواثيق التحريرية على أن تكون المصادر التي يستخدمها الصحفيون شفافة كلما أمكن ذلك حتى يتمكن الجمهور من تشخيص شرعية هذه المعلومات وكفاءة المتحدثين.

لا يبدو أن الميديا التونسية حريصة على اعتماد  المعايير الصارمة عندما يتعلق الأمر بإطلاق صفة الخبير على المشاركين الخارجيين في برامجها

اقرأ/ي أيضًا: كيف أصبح التلفزيون التونسي "رديئًا"؟

في المقابل، لا يبدو أن الميديا التونسية حريصة على اعتماد مثل هذه المعايير الصارمة عندما يتعلق الأمر بإطلاق صفة الخبير على المشاركين الخارجيين الذي تستدعيهم للحديث من موقع الخبرة، وهذا ما يفسر مثلًا نقص الدقة في مستوى إطلاق الصفات على الجامعيين. هكذا يتحوّل مساعد التعليم العالي (الحاصل على ماجستير بحث فقط) إلى أستاذ جامعي والحال أن رتبة أستاذ رتبة جامعية لا يمكن الحصول عليها إلا عبر الخضوع إلى عدد من المناظرات. وهذا ما يفسر أيضًا هوية الخبير الملتبسة: فهو جامعي أصبح خبيرًا أو وزيرًا سابقًا أو ناشطًا في المجتمع المدني يقدم على أنه خبير، كما يمكن أن يتحول أمني سابق إلى خبير في الجماعات الإرهابية. هكذا لا يبدو أن الميديا التونسية تعتمد على معايير مخصوصة كالانتماء إلى مجموعات أو مراكز بحثية والرتب الجامعية والمشاريع البحثية والإنتاج البحثي من دراسات وبحوث وكتب ومقالات في مجالات متخصصة هي التي تصنع من الخبير خبيرًا.

في أدوار الخبير الغامضة

إن الخبير على هذا النحو صناعة تلفزيونية، فالميديا التونسية لم تنفك منذ الثورة على صناعة فاعلين جدد: الخبير و"الكرونيكور" بتنويعاته المختلفة وكذلك النجوم التلفزيونية التي تستقطب بعضهم من الميديا الاجتماعية (الأنستغرام خاصة). وفي حالة الخبير، فهي تنتقي أشخاص بعينهم وفق آليات مخصوصة غامضة أحيانًا ومنفعية في كل الأحوال تحوّلهم إلى مصادر ذات كفاء  يطلقون الأحكام ويحظون بشرعية يمكن أن يعتمد عليها المواطنون لتكوين آراءهم السياسية على وجه الخصوص.

ومن هذا المنظور، إن مسؤولية الميديا التونسية جسيمة عندما نرى كيف استثمر بعض الخبراء "الرأسمال" الذي تحصلوا عليهم بفضل ظهورهم التلفزيوني للحصول على منافع سياسية، وهذا ما يفسر أدوار الخبير الغامضة فهو أحيانًا يقدم نفسه على أنه يعطي إجابات متخصصة مستندة على معطيات موضوعية وعلمية (خاصّة في مجالات الاقتصاد والقانون الدستوري والإرهاب) وأحيانًا أخرى يؤدي دور "الكرونيكور" أو دور المعلق على الأحداث صاحب الرأي ثم يمكن أن يتحوّل إلى فاعل سياسي منخرط في الصراع على السلطة.

 إن مسؤولية الميديا التونسية جسيمة عندما نرى كيف استثمر بعض الخبراء "الرأسمال" الذي تحصلوا عليهم بفضل ظهورهم التلفزيوني للحصول على منافع سياسية

في هذا الإطار، يمكن أن نبحث أيضًا في الاتجاهات الأيديولوجية للخبراء الاقتصاديين الذين يوظفهم التلفزيون (والميديا) التونسية وما هي الأطروحات الاقتصادية الكبرى التي يدافعون عليها وما هي ارتباطاتهم بالمؤسسات الاقتصادية والمصالح الخفية التي يمكن أن يدافعوا عنها، خاصة ونحن نرى بعض الـ"خبراء" في الاقتصاد يتعاونون مع أحزاب بعينها.

يستدعي النقاش بخصوص مسألة "الخبير التلفزيوني" والكرونيكور أيضًا أن نهتمّ بالتلفزيون باعتباره مؤسّسة ذات سلطة يمكن أن تمارس نفوذًا على الاتصال في المجال العمومي ليس لأنها تصنع أراء التونسيين وتتحكم فيهم بطريقة آلية وكأنهم كائنات لا حول ولها ولا قوة كالروبوتات يقوم التلفزيون ببرمجتها. فنتائج الانتخابات بينت على سبيل المثال أن التلفزيون ليس دائمًا مؤثرًا بالطريقة التي يتصوّرها البعض لأنه لا ينجح دائمًا في تشكيل إرادة الناس. إن سلطة التلفزيون أكثر مكرًا أي أن التلفزيون (والميديا) يعمل في إطار إستراتيجية تتمثّل في وضع الأطر التي ننظر من خلالها إلى العالم الذي نعيش فيه لأن الرهان اليومي الخفي الذي تعمل القنوات التلفزيونية والميديا التونسية كلها على كسبه هو أنها تقدّم لنا الأحداث بطريقة مخصوصة حتى نفهمها على النحو الذي تريد.

 وعلى هذا النحو، يجب أن يندرج الاهتمام بالخبير وبأدواره في الميديا التلفزيونية والإذاعية في إطار مساءلة سلطة التلفزيون بشكل عام وعمليات تشكلها. ولعلّ التحوّل الأساسي الذي شهده التلفزيون منذ الثورة يتمثل في أنه كفّ عن العمل كمؤسسة خاضعة بأشكال مختلفة مباشرة وغير مباشرة إلى السلطة السياسية ليصبح مؤسسة ذات سلطة.

ثمة عدة مؤشّرات تبين كيف تتشكل السلطة التلفزيون ومنها على وجه الخصوص انخراط العديد من أصحاب المؤسّسات التلفزيونية في العمل السياسي (على غرار مالكي قناتي حنبعل ونسمة) إذ يستخدم أصحاب المؤسسات التلفزيون، في هذه الحالة، للترويج إلى أنفسهم وإلى صناعة صورتهم لدى التونسيين للنفاذ إلى الحقل السياسي والتنافس على السلطة. ويمكن أن نضيف إلى هذا المؤشر العلاقات الشبكة التي يقيمها السياسيون مع أصحاب المؤسسات التلفزيونية في شكل مصالح مشتركة كالانتماء المشترك إلى أحزاب أو تيارات سياسية، فيصبح التلفزيون منصّة خادمة لاتجاهات سياسية بعينها بشكل مباشر ومفضوح أو بشكل غير مباشر مستتر.

يجب أن يندرج الاهتمام بالخبير وبأدواره في الميديا التلفزيونية والإذاعية في إطار مساءلة سلطة التلفزيون بشكل عام وعمليات تشكلها

أما المؤشّر الثالث الذي يمكن أن يشير إلى تنامي سلطة التلفزيون يتمثل في توظيف بعض أصحاب المؤسسات لقنواتهم لخدمة مصالحهم الاقتصادية المباشرة على وجه الخصوص أو الشخصية المحضة، فيصبح التلفزيون آلية من آليات الحصول على مكاسب من السياسيين أو ابتزازهم أو استخدام نفوذهم للحصول على موارد إشهارية (عندما يكون السياسيون مرتبطين بمصالح شبكية مع أوساط اقتصادية).

في كل الأحوال، تظلّ في مرحلة الانتقال السياسي المؤسسات السياسية وحتى غير السياسية والعلاقات بينها (كالعلاقة بين السياسية والميديا والصحافة) في طور التشكل المستمر مما يجعلها غير مستقرة خاصة في مستوى أدوارها، ولعل هذا ما يفسر الغموض الذي يلف الأدوار التي يقوم بها بعض الفاعلين الجدد الذين ازدهرت مكانتهم منذ سنوات على غرار "الكرونيكور" والخبير.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - الحوار مع الجمهور (3/1)

ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - مجلس الصحافة (3/2)

ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - سطوة "الكرونيكور" (3/3)