24-أكتوبر-2018

جدل دائم حول مطلب إعادة كتابة التاريخ المعاصر في تونس (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

"كتابة التاريخ لا يتولاها من يقبض الأموال مقابل المواقف، كما أنّ كتابة التاريخ لا تتم بناء على مجرّد أقوال. كتابة التاريخ تحدث اعتمادً على وثائق مكتوبة لا يرقى إليها الشك، وكذلك على شهادات حية لمعاصرين يقوم الدارسون بتمحيصها، كما تتم أيضًا بناءً على آثار قائمة ثابتة مثل البناءات"، هكذا عرّف الكاتب التونسي إسماعيل بوسروال ما تتطلّبه كتابة التاريخ، وهو الذي يتبنى الموقف المساند لإعادة مراجعة التاريخ وخاصة الحقبة البورقيبية في تونس.

 أثارت هيئة الحقيقة والكرامة مسألة إعادة كتابة التاريخ حينما دعت إلى تكوين لجنة من المؤرخين تكون مهمتها إعادة كتابة تاريخ تونس استنادًا إلى الوثائق التي جمعتها وأعمال التقصي والشهادات التي تحصّلت عليها

وكانت هيئة الحقيقة والكرامة أول من أثارت مسألة إعادة كتابة التاريخ، وقد دعت سابقًا إلى تكوين لجنة من المؤرخين تكون مهمتها إعادة كتابة تاريخ تونس بصورة دقيقة وصحيحة، استنادًا إلى الوثائق التي جمعتها وأعمال التقصي والشهادات التي تحصّلت عليها. وقد أثار طلبها ردود فعل مختلفة من طرف المؤرخين بين مرحب به ورافض له بشكل قطعي.

اقرأ/ي أيضًا: ذكرى اتفاقيات الاستقلال الداخلي.. الجدل لم ينته

إعادة كتابة التاريخ من أجل الحقيقة والإنصاف

لعل ما نعيشه اليوم من محاولات لتحريف التاريخ القريب لأحداث الثورة قبل 7 سنوات على سبيل المثال، يحيل إلى المخاوف من أن تكون الأنظمة السابقة قد حرّفت هي الأخرى جزءًا من تاريخ تونس وتعسفت على حق شهداء ومناضلين يحق اليوم المطالبة بإنصافهم، خاصة وأنّه في ظل الدكتاتوريات يصعب التحرّي في الحقائق والوصول إلى الوثائق، مثلما يؤكد ذلك المؤرخ عبد الجليل التميمي، الذي أشار إلى أنّه يقع طمس عديد الوثائق وإبعادها عن الباحثين، وعرقلة المؤرخين عن الوصول إلى الحقيقة بهدف إبراز أدوار وتنظيمات على حساب أدوار وتنظيمات أخرى.

عبد الجليل التميمي: يجب إعادة دراسة بعض الفترات والأحداث التاريخية بتأن وإعادة كتابة التاريخ تأتي بعد التقصي والتأكد من الوثائق والشهادات

ويؤكد المؤرخ عبد الجليل التميمي لـ"الترا تونس" أن مؤسسته (مؤسسة التميمي) قابلت عديد الشخصيات الوطنية وعددًا من المناضلين ممن تحدثوا عن أحداث لم تذكر في التاريخ سابقًا، لذا يجب إعادة دراسة بعض الفترات والأحداث بتأن وإعادة كتابة التاريخ تأتي بعد التقصي والتأكد من الوثائق والشهادات وفق قوله. كما أشار، في حديثه معنا أنّ هيئة الحقيقة والكرامة جمعت عديد الوثائق أو الشهادات التي ستكون مهمة في المرحلة القادمة والاستناد إليها لمراجعة التاريخ، لكنّها تبقى مهمة خاصة بالمؤرخين فقط وليست من مهام هيئة الحقيقة والكرامة.

في نفس الإطار، أكد هشام جعيط، في أكثر من مناسبة، على أنّ تونس في حاجة إلى إعادة كتابة تاريخها والتعامل مع التاريخ تعاملًا موضوعيًا، لأن تونس شهدت خلال أكثر من قرن عديد التحولات السياسية أثرت على كتابة التاريخ. وأشار إلى أنّ الاستعمار كتب التاريخ وفق أنماطه ومصالحه، ويقول إنه تعمدت مرحلة بناء دولة الاستقلال بقيادة الزعيم بورقيبة طمس جزء من ذاكرة ملوك تونس القدامى، فيما واصل بن علي محاولات فسخ جزء من تاريخ تونس.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى الحبيب بورقيبة.. جروحٌ تونسية باقية

كتابة التاريخ أم تصفية حسابات ضد البورقيبية؟

يرفض مؤرخون، في المقابل، الدعوات المطالبة بإعادة قراءة وكتابة التاريخ، ويعتبرون هكذا دعوات من قبيل التشكيك في نزاهة وتكوين المؤرخين السابقين وما وثقوه في كتب تاريخية.

وكان قد أصدر 65 مؤرخًا بيانًا ردّوا فيه على دعوة رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين لإعادة كتابة التاريخ، معتبرين أنها مصرّة على "التجني على التاريخ والسردية الوطنية وأنها لا تتردد في الطعن في مصداقية المؤرخين التونسيين، وتبخيس إنتاجهم في جهل شبه تام بالاستغرافيا التونسية المعاصر منها والراهن". كما أضافوا في ذات البيان أنّ "المؤرخين التونسيون (الذين هم من خيرة المؤرخين العرب يشهد بهذا القاصي والداني) سيواصلون عملهم وفقاً لما يمليه عليهم ضميرهم غير عابئين بتلك الدعاوى المجانية".

ويرى المؤرّخ رياض المرابط إلى أنّ مطلب هيئة الحقيقة والكرامة والمتعلق بتكوين لجنة لإعادة كتابة التاريخ "يجعلنا نلاحظ أوّلًا أنّه بالفعل هناك مشاكل عديدة في تمثل التاريخ الوطني، خاصة في حقبة بورقيبة وما بعد بورقيبة، ولكن في واقع الأمر الأخطاء الشائعة والمفاهيم المغلوطة والفهم السيئ لتاريخنا قائم الذات في كل مراحل التاريخ الوطني، وهو في حاجة إلى المراجعة كما فيه معطيات تعتبر نهائية أيضًا".

رياض المرابط (مؤرخ):  الطرح الذي قدّمته هيئة الحقيقة والكرامة هو في ظاهره مطلب لنشر الحقيقة ولكن في باطنه مطلب سياسي أو تصفية حساب سياسي مع الفترة البورقيبية

ولكن يعتبر رياض المرابط في حديثه لـ"الترا تونس"أنّ الطرح الذي قدّمته هيئة الحقيقة والكرامة هو في ظاهره مطلب لنشر الحقيقة ولكن في باطنه مطلب سياسي أو تصفية حساب سياسي مع الفترة البورقيبية حسب رأيه. ويقول:" إن الذين يطالبون بإعادة كتابة التاريخ هم خصوم بورقيبة، ومن يرون عكس ذلك هم في الحقيقة خصوم لهذا الطرف. وهذه هي الطامة الكبرى، عندما نُخضع ما هو أكاديمي وعلمي صرف لتجاذب سياسي".

اقرأ/ي أيضًا: بين 1952 و1956: 10 تواريخ فارقة في مسيرة استقلال تونس

كما أشار محدّثنا إلى أنّ "كل مؤرخ محترم ومحترف يجب أن يعي أنّ العلم فوق كل الانتماءات، ومهنة المؤرخ هي البحث عن الحقيقة التي يجب أن تنطلق من الوثائق وليس الانطلاق من الأهواء والمصالح أو الانتماءات مهما كان نوعها، وهي مسألة مبدئية. وبالتالي فإنّ طرح هذه اللجنة وطرح إعادة كتابة التاريخ صادر من قبل هيئة هي في حدّ ذاتها غير مستقلة ولديها موقف ومتحيزة وعندها إشكال. وربما تكون محقة في اشكالاتها ولكن في كل الحالات لا يمكن أن يطرح مثل ذلك الطرح طرف هو جزء من خصومة أو معركة ذات بعد تاريخي".

على صعيد آخر، اعتبر المؤرخ أنّ التاريخ الوطني بصدد إعادة الكتابة يوميًا قائلًا: "أصحاب هذا الطرح هم ليسوا على اطلاع على ما تنتجه الجامعة التونسية، فهناك عشرات الرسائل التي تراجع التاريخ الوطني في الجامعة التونسية وما عليهم إلاّ الاطلاع عليها. هناك دراسات حول الحركة الإسلامية وأخرى حول الحركة اليوسفية ودراسات حول الصراع اليوسفي البورقيبي وهي دراسات أكاديمية موثقة ومعترف بها، ولكن يبقى الإشكال في التعريف بهذه الدراسات والخروج بها من رفوف المكتبات بالجامعات إلى دور النشر ودور الطباعة".

رياض المرابط (مؤرخ):  البحث عن الحقيقة التي يجب أن تنطلق من الوثائق ولا يكون الانطلاق من الأهواء والمصالح أو الانتماءات مهما كان نوعها

ويؤكد محدثًنا أنه لا توجد مرحلة من مراحل التاريخ لا تحتاج إلى إعادة كتابة، ولا توجد مرحلة هي ليست بصدد إعادة كتابة عن طريق أساتذة في الجامعات التونسية، قائلًا: "إن الطرح حول إعادة كتابة التهو طرح مضحك، لأنّه ينم عن جهل لما يوجد في الجامعة، والبحث العلمي في الجامعة لم ولن يخضع إلى أي توجيه فالجامعيون يبحثون بكل حرّية". بذلك ينتهي المؤرخ رياض المرابط إلى أن هيئة الحقيقة والكرامة جاهلة بالتاريخ وأنها تعمل في إطار إعادة الاعتبار لكثير من الأطراف التي ظلمت في العهود السابقة، وتريد أن تعالج الخطأ بخطأ آخر وفق قوله.

سيُحال، في الأثناء، أرشيف هيئة الحقيقة والكرامة إلى مؤسسة الأرشيف الوطني وهي المؤسسة التي يقول محدثنا المؤرخ رياض مرابط أنها المخولة لتلقيه "وذلك ليكون فيما بعد مفتوحًا لكلّ الباحثين وعلى ذمة العموم، وتصبح الوثائق متاحة للبحث العلمي". ويضيف أن هيئة الحقيقة والكرامة إن كانت تخشى ضياع أو إتلاف تلك الوثائق فما عليها إلا أن تنشر قائمة في تلك الوثائق وفي مواضيعها وفي عدد صفحاتها حين تسليمها للأرشيف الوطني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

روضة آل بورقيبة في المنستير.. هكذا شيد الزعيم مرقده الأخير (الجزء الأول)

روضة آل بورقيبة في المنستير.. هكذا شيد الزعيم مرقده الأخير (الجزء الثاني)