خاضت قناة الحوار التونسي السباق الرمضاني بمسلسل "تاج الحاضرة" وهو عمل درامي ذو خلفية تاريخية وتقاطع فيه السياسي والاجتماعي. "تاج الحاضرة" سيناريو رضا القحام وإخراج سامي الفهري، عمل أحاطت به هالة إشهارية كبرى منذ الإعلان في الصائفة الماضية عن إنجاز عمل عن ثورة علي بن غذاهم.
وقد عرّج العمل الدرامي على فترة حكم أحمد باي التي ألغي فيها الرق وشهدت فيها الإيالة عجزًا اقتصاديًا بعد إفلاس خزينتها بعد أن تفانى محمود بن عياد في سرقتها ونهبها قبل أن يعزم على الهروب إلى فرنسا وطلب حمايتها.
ولئن تهيّأ للمتابعين في البداية أن هذا العمل سيكون تاريخيًا بحتًا، إلا أن الطابع الدرامي طغى عليه واقتضى "خلق" شخصيات هامشية تدور في فلك القضايا الاجتماعية لشدّ انتباه المشاهد على غرار شخصية " شريفة" أو "بشيرة" التي أدّتها الممثلة وحيدة الدريدي وشخصية "عربية" التي أدّتها الوجه الجديد غادة شكا وشخصية "عبود النحايسي" التي أدّاها محمد العربي المازني و"صالحة" التي أدت دورها لبنى السديري و"ذهبية" التي أدّت دورها أميمة بن حفصية.
طغى على عمل "تاج الحاضرة" الطابع الدرامي عبر شخصيات هامشية تدور في فلك القضايا الاجتماعية
ويتقاطع العمل الدرامي الذي عرض طيلة 14 حلقة مع المسلسل التركي "حريم السلطان" في بعض التفاصيل ولكنّه لا يكتفي بكشف خبايا القصور وما ينسج فيها من مؤامرات ودسائس، بل تعدّاها إلى الهامش حيث تعجّ أزقّة الحاضرة بالقصص الاجتماعية التي تولّدت عن الرؤية الدرامية.
"تاج الحاضرة" الذي يثاب القائمون عليه بأجر الاجتهاد والمغامرة بإنجاز عمل يلقي الضوء على حقبة تاريخية في تاريخ تونس لم تجذب إليها الفاعلين في عالم الدراما، يستند على خلفية تاريخية إذ تعدّدت الشخوص الحقيقية فيه على غرار مصطفى خزندار (أحمد الاندلسي) ومحمود بن عياد (حسام الساحلي) وخير الدين باشا (ياسين بن قمرة) وأحمد بن أبي الضياف (رؤوف بن عمر) وأحمد باي (عزيز باي).
اقرأ/ي أيضًا: الأعمال الفنية التاريخية: تحريف للتاريخ أو وسيلة لتعميمه؟
ويستمدّ المسلسل أحداثه من وقائع تاريخية شهدتها الإيالة التونسية في أربعينيات القرن التاسع عشر على غرار ثورة عسكر زواوة وانتشار وباء الكوليرا الذي دفع الباي إلى الهروب مع "العلجية" المحظية خوفًا من العدوى إضافة إلى الأزمة المالية الخانقة التي كانت تمر بها الإيالة وقتها.
ولئن يستوجب الواقع أن تكون البطولة مرتبطة بالشخصيات والوقائع التاريخية، فإنّ التصوّر الدرامي منح الشخصيات الهامشية على غرار "عربية" و"شريفة" و"عبود النحايسي" و" صالحة" و"ذهبية" حيزًا هامًا في العمل الدرامي لإماطة النقاب عن بعض جوانب حياة العامة في فترة حكم أحمد باي.
والمتابع لأحداث تاج الحاضرة سيلاحظ أن المخرج صبّ كل تركيزه على البعد الدرامي وأغفل العمق التاريخي للأحداث، إذ مرّ مرور الكرام على مسألة إلغاء الرق التي تعدّ حدثًا مهمًا في تونس واكتفى بالتنصيص عليها في أوّل العمل بكلمات خاطفة.
من المنطقي أن يلجأ السيناريست إلى قصص الحب بين عليّة القوم والعامة ولكن من غير المنطقي أن يغفل أحداثًا تاريخية هامّة
في المقابل أغرق المسلسل في نقل حكايات "الحريم" سواء في قصر الباي أو في قصر القادة والمسؤولين، وتكرّرت حيثيات الصراع بين "العلاجي" و"الخادمات" اللاتي كنّ مجرّد وسيلة متعة أو "آلة" لإنجاب الأطفال وسليلات البايات والأعيان اللاتي يستقوين بنسبهن للتحقير من النساء الأخريات.
من المنطقي أن يلجأ السيناريست إلى قصص الحب بين عليّة القوم والعامة وصراع "البقاء" بين سليلات البايات والأعيان من ناحية و"الخادمات" و"العلاجي" من ناحية أخرى، وذلك لإضفاء بعض المرونة والسلاسة على أحداث تاريخية قد تبدو للمشاهد جافة خاصة وأن فترة حكم أحمد باي شهدت عدّة أحداث تاريخية هامة.
ولكن من غير المنطقي أن يُغفل كاتب العمل أحداثًا تاريخية هامة مقابل الإيغال في قصص العشق المحموم على أهميتها. وقد أقدمت قناة الحوار التونسي على خطوة جريئة بإنجازها عملًا ذو خلفية تاريخية حاولت فيه تسليط الضوء على حقبة تاريخية ظلّت لسنوات طي التجاهل في الانتاجات الدرامية التونسية، ولتفادي "رتابة" سرد الأحداث التاريخية المتشعبة ارتأى المخرج أن يُقحم منحى دراميًا موازيًا في المسلسل تحرّكه شخصيات هامشية غير تاريخية ولكنها واقعية.
إذ راوح المسلسل بين الأحداث التاريخية والأحداث التي اقتضتها الحبكة الدرامية، فكان السيناريو برأسين أحدهما يطل على كواليس القصور بأبعادها المختلفة والآخر يطل على الأزقة والشوارع بحكاياتها المتنوعة، فكان "تاج الحاضرة" وجهًا واحدًا لعُملتين مختلفتين.
اقرأ/ي أيضًا: