في المدينة العتيقة بالكاف، حيث تخلّد الحجارة صدى خطوات العابرين عليها وتحفظ حكايات وأسرار، تغمرك رائحة الماضي العالقة على الجدران والأبواب العتيقة، وتأسرك التفاصيل النابضة حياة وفنًّا. حالة من التناغم والانسجام تسود المكان وكأن يد الله مسحت عليه حتّى بدت ملامحه بهذا السحر، فسيفساء من الألوان تمتد من الحجارة التي تكاد تنطق إلى السماء التي تخال أنّها تطأطئ لتعانق ثنايا المدينة العتيقة.
وبين السماء والأرض تطل مطريات شفافة تزيّن "حومة الصوايغية" حيث ارتمت كل الفنون في حضن فضاء واحد تدلّك عليه صور رسمتها أنامل مبدعين من "فني رغمًا عنّي"، صور تشدّك بتعبيراتها المختلفة عن الفن وسيلة للهروب من الواقع وأدرانه.
نورهان الهداوي ومالك الجربي جمعهما الفن وعلى وقعه اشتعل فتيل الحب بينهما فاجتمعا على طريقه وأنارا نبراس الفن كما يرايانه في قلب المدينة العتيقة في الكاف
في ثنايا "حومة الصوايغية"، توزع أنظارك بالقسطاس بين الأرض والسماء والجدران والحلي التقليدي التي تزين واجهات المحلات ولكن ما إن تقف قبالة فضاء الفنون أو"l’univers des arts" كما كتب على واجهته، تستأثر بأنظارك رفوف معلقة على الجدران تحمل في داخلها كتبًا بألوان وأحجام مختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: أيّ هويّة لتظاهرة أيام قرطاج للفنّ المعاصر؟
تأويلات الرسوم المتفرّدة التي تزيّن جدران الفضاء الثقافي تتراكم في رأسك، ويخفت صخبها ما إن تعانق عينيك زوايا الفضاء من الداخل، هنا الكتب زينة كل الأركان، أينما ولّيت وجهك لمحتها. كتب، وأفرشة تقليدية بألوان الحياة، وموسيقى شبيهة بتفاصيل المكان، وأنت تتأرجح بين الأصوات والصور التي تملأ المكان أملًا وحلمًا لن يتبادر إلى ذهنك أن المكان الذي تزيّن الفنون كل تفاصيله كان "محضنة" لأفكار متطرّفة ومتشدّدة جنح أصحابها إلى التضليل بيافطة "المدرسة القرآنية" لينتهي الأمر إلى انكشاف أمرهم وغلق المكان بالقوة العامة.
من الظلمة إلى النور..
وبعيدًا عن المفارقة التي تضفي رمزية على المكان فنفس الجدران التي ترددت فيها كلمات نابعة من معجم الظلام والموت تردّد اليوم صدى الموسيقى وأصوات النساء وهن تغنين وقهقهة الأطفال وهم يلعبون، فإن الفضاء الثقافي الخاص يستمدّ فرادته أيضًا من كونه مشروعًا يجمع زوجين، الموسيقية نورهان الهداوي والسينمائي مالك الجربي.
نورهان الهداوي ومالك الجربي جمعهما الفن وعلى وقعه اشتعل فتيل الحب بينهما فاجتمعا على طريقه وأنارا نبراس الفن كما يرايانه في قلب المدينة العتيقة في الكاف، في مكان كانت تلفّه الظلمة، وهو الأمر الذي بلغهما بعد أن اختارا المكان الذي سيؤوي حلمهما.
نورهان الهداوي لـ"ألترا تونس": تسمية "فضاء الفنون" تلخص في كونها عالمًا منشودًا نرسمه بريشة من صبر ونزينه بألوان الحلم
عن دور الفن في مواجهة كل أشكل التطرّف والعنف والإرهاب، تقول نور الهدّاوي إنّ ممارسة الفعل الثقافي يجب أن تكون عادة وإنّ الأمر لا يتعلّق بتكثيف التظاهرات الموسمية العابرة بل إنّ أهمية الثقافة تكمن في الالتحام بالمواطنين.
ولذلك أراد صاحبا الفضاء أن يكون في حي مفعم بالحياة والحركية، قريبًا من المدرسة والجامعة والمحلات، الأمر الذي يجعله محطّ أنظار العابرين الذين سيرضخون عاجلًا أم آجلًا إلى فضولهم باكتشاف المكان، وبالتالي يكون العمل على إقحام الفعل الثقافي في العادات اليومية للفرد أكثر وقعًا من المهرجانات الموسمية التي قد لا تتضمن بالضرورة عروضًا نوعية، وفق حديث نورهان الهداوي.
أما عن تسمية "فضاء الفنون"، فتلخصها في كونها عالمها وشريكها في الحب والفن، عالم منشود يرسمانه بريشة من صبر ويزينانها بألوان الحلم، عالم يهربون إليه، عالم يستجيرون فيه من ظلمة الواقع بنور الفنون.
اقرأ/ي أيضًا: المهرجان الدولي لفنون النحت ضيف سيليوم القصرين
عن فضاء الفنون..
فكرة الفضاء الثقافي، عصارة التحام روح حبيبين حدّ التماهي، وهي ترمي إلى تقريب الخدمات الثقافية من المواطن دون تكليفه عناء الانتظار، وتحوز الكتب على اهتمام كبير في هذا الفضاء إذ فاق عددها الألف وثلاثمائة كتاب ولن يتوقف عنده.
والكتب التي تزيّن أركان الفضاء الذي انتشرت فيه طاولات وكراس بشكل متناسق وغير مكتظ، تراوح بين الفلسفة والأدب وموسوعات في الثقافة في الفن وكتب أطفال، وهو ما يجعل من الفضاء قبلة لكل الأعمار حيث يكون الكتاب قريبًا من الأنظار.
يحتوي "فضاء الفنون" إلى جانب الكتب على ركح بغاية احتضان عروض موسيقية ومسرحية
وإلى جانب الكتب، يحتوي الفضاء على ركح بغاية احتضان عروض موسيقية ومسرحية، وغير بعيد عنه باب يؤدي إلى غرفة تملأها الآلات الموسيقية وهي الغرفة التي تحتضن الدروس الموسيقية وتمارين المجموعات الموسيقية، خاصة مع غياب أماكن للتمارين الموسيقية مجهزة بالمعدات الصوتية في تونس عمومًا وفي الكاف خصوصًا.
وفي الفضاء شاشة عرض، تراوح بين الأفلام السينمائية والحفلات الموسيقية المصورة وهو ما يضفي ديناميكية على الفضاء، إلى جانب عدد من النوادي الموسيقية على غرار تدريس العزف على الكمنجة والبيانو والغيتار وناديي الغناء والإيقاظ الموسيقي الذين تشرف عليهما نورهان الهداوي.
فلسفة أخرى..
وعن الفلسفة التي يقوم عليها الفضاء الثقافي، تقول محدّثتنا إنها ترتكز على تقريب الثقافة من المواطن مع القطع مع السائد والنمطي، من ذلك أن الفضاء حاد عن فكرة " الكونسرفاتوار"، وهي أستاذة الموسيقية التي درست بالـ"كونسرفاتوار" تعلم أن تصوره يزعج في جانب ما إذ أنه يفرغ الموسيقى من بعد المتعة فيها ويجعل منها مادة صعبة وجدّية فحسب، وإن كانت الموسيقى لا تخلو من صعوبة وجدية ولكن ترغيب المولعين بدراستها يكون أسهل في النوادي، وفق حديث نورهان الهداوي.
ولأن القائمين على فضاء الفنون يرومون الاختلاف عن غيرهم، فإن من بين النوادي نادي الإيقاظ الموسيقي وهي مادة غير منتشرة في تونس، والإيقاظ الموسيقي ينطلق في الشهر الرابع للجنين في أحشاء أمه وهو تحفيز للحواس لكل ما هو صوت أو موسيقى أو صخب، وهو ما يكسبه حدسًا وفطنة موسيقية.
الإيقاظ الموسيقي مجال لنفاذ الطفل إلى عالم الموسيقى دون إخباره بذلك
والإيقاظ الموسيقي، مجال لنفاذ الطفل إلى عالم الموسيقى دون إخباره بذلك، ويستقبل فضاء الفنون أطفالًا تتراوح أعمارهم بين الثلاث والسبع سنوات يعتقدون أنهم يلعبون، وإن كانوا فعلًا يلعبون فهي ألعاب موسيقية، يشكلون آلات موسيقية بالصلصال ويرسمون آلات موسيقية ويلونونها.
وفي الإيقاظ الموسيقي، يدرس الأطفال "علم الآلة" دون إخبارهم بذلك على اعتبار أن التركيب صعب ولن يستوعبوه ولكنهم يرسمون الآلة ويلونونها ثم يسمعون صوتها وصنفها، وعندما يبلغ عمر الست سنوات يختار الآلة التي يريد العزف عليها دون إسقاط من والديه وفق حديث نورهان الهداوي.
أما عن نادي الغناء، فتؤمه نساء متقدمات في السن، تفاجأت بإقبالهن عليه ولكنها استمتع بالتجربة معهن لأن من بينهن من بلغت سنة الخامسة والخمسين ولم تغن يومًا في حياتها. ومن بين المشاركين في النادي من يحاول تجاوز مركّب نقص شكّله لديه أستاذ الموسيقى حينما اخبره أنه لا يجيد الغناء.
ومن بين الأنشطة الأخرى التي تجعل من فضاء الفنون فضاء ثقافيًا متفرّدًا، المقهى الفلسفي، وهي فكرة أستاذة الأنقليزية بالمعهد العالي للإنسانيات بالكاف شمس رضواني العابدي وأستاذ الفلسفة بمعهد دشرة نبر حازم الشيخاوي، وينتظم المقهى يوم الثلاثاء مرّة كل أسبوعين.
عن المقهى الفلسفي..
وفكرة المقهى الفلسفي وليدة نقاشات جمعت حازم الشيخاوي وشمس الرضواني وهما اللذان يدرّسان في الكاف ومهتمان بالفعل الثقافي في الجهة، وفق حديث حازم الشيخاوي الذي يحمل هاجس جعل الفلسفة مسألة عامة متبنيًا رأي "ديدرو".
والتمييزات المفهومية للفلسفة، وفق الشيخاوي، تقوم على التحليل والنقاش خاصة وأن ميلاد الفلسفة الإغريقية التي يتعمّق في قراءتها كان بتبادل الحوار، وأغلب الكتب التي وصلتنا كتب عن الحوارات العامة في ساحة أثينا أي أن الفلسفة قائمة على الحوار والنقاش مع عامة الناس.
وانطلاقًا من قراءاته الفلسفية ونقاشاته مع شمس الرضواني التي تتقاسم معه نفس الهاجس ولدت الفكرة الرومنسية، ولم يواجها صعوبة في تنفيذها رغم أن الانطلاقة كانت دون تصور واضح لشكل المقهى أو ديناميكيته وكانت الصدفة سيدة الموقف، حسب حديث حازم.
وفكرة المقهى الفلسفي تقوم على اقتراح موضوع ومناقشته وسط إيمان بأن كل إنسان ذكي بطريقته وأن له طاقة إبداع تنتظر من يفجرها، الأمر الذي أثبتته التجربة، فبعض الأفراد في العادة خجولين ولا يتكلمون كثيرًا عبروا عن آرائهم وناقشوا.
من خلال استثارة الأشخاص بموضوعين هما "ما هي النسوية" و"هل نريد أن نكون سعداء"، لم يستند النقاش على أطروحات فلسفية بل كان قائمًا على تمييزات مفهومية ضبابية ولكنها ذاتية، ليتحول الفضاء الروتيني أي المقهى بما هو جزء من فضاء الفنون من فضاء روتيني يجعل منا ذواتًا عابرة لا تترك أثرًا إلى فضاء يخلق زوبعة ويبيّن أن الجمهور وأغلبه طلابي لديه وازع قوي للتفكير، حسب حديث حازم الشيخاوي.
المقهى الفلسفي يهدف إلى فك العزلة عن الفلسفة وجعلها مطية للحوار والتفكير وخلق صدى لها لدى جمهور متنوع
وعن دوره ودور شمس الرضواني في النقاش، يقول إن مهمتهما توجيهية تأطيرية بالأساس الهدف منها خلق حوار وبناء أسس للتفكير تقطع مع عادات الاستهلاك النمطية وتكسر الجدران التي يبنيها بعض الأشخاص حولهم من خلال طرح مواضيع يمكن التفكير فيها دون وصاية دون خلفيات سياسية أو إيديولوجية ودون فرض رأي أو موقف.
وفي نفس السياق، يشير إلى أن الفلسفة في كل العالم تعيش نوعًا من العزلة ولا بد من فك العزلة عنها وتحريرها من ذنب من جعلوا منها هاجسًا أكاديميًا فقط، والحال أنها كانت حية في الشارع وفي الجامعة، مضيفًا "نحن اليوم جيل جديد بروح جديدة وأفكار جديدة ننتمي إلى الحاضر وهدفها الانتماء إلى المستقبل دون التنكر إلى الماضي الذي نستقي منه ألوانًا متعدّدة لنخلق ديناميكية".
والمقهى الفلسفي يهدف إلى فك العزلة عن الفلسفة وجعلها مطية للحوار والتفكير وخلق صدى لها لدى جمهور متنوع منه من انقطع عن الدراسة ولكن النقاشات عن السعادة والنسوية استثارته فكان جزءًا منها، وهو ما يجعل من الفكرة التي احتضنها فضاء الفنون مسألة استيتيقية بحتة في مواجهة الرداءة والنمطية الاستهلاكية والفرجة المبتذلة، وفق قول محدّثنا.
ومن الفلسفة إلى الفنون تتعدد أنشطة الفضاء الذي يختلف عن الفضاءات الثقافية ولا يشبه إلا صاحبيه الذين ترتسم المحبة في عينيهما وهما يرحّبان برواد الفضاء ويوزعان الابتسامات بين الطاولات، فيما تنبعث موسيقى تتسلل إلى ثنايا المدينة العتيقة مفعمة بالحياة، حياة مدادها حب جمع نورهان الهداوي ومالك الجربي على أرض الفن.
اقرأ/ي أيضًا:
الموروث الشعبي المنسي.. الشعر الغزلي الإباحي في التراث التونسي
"أوبيريت بوستيل": عرض فنّي إنساني يجمع بين خرافات تونس وألمانيا