05-نوفمبر-2019

عرض فني يجسم الشراكة التونسية الألمانية في المجال الثقافي (صفحة "مختبر المستقبل")

 

قُبالة السوق الأسبوعية بحي "بوستيل" التابع لولاية منوبة، وحذو دار الشباب تنتصب خيمة بلون السلام، خيمة يتوافد عليها الأولياء والتلاميذ وتحرسها تشكيلات أمنية، إنّه يوم "الحج" إلى "أوبيريت بوستيل" العرض الفنّي الأوّل من نوعه في تونس.

و"أوبريت بوستيل" عرض فرجوي يمزج بين الموسيقى والرقص والغناء والمسرح، وهو وليد جهود تشاركية لتلاميذ المدرسة الإعدادية "ابن خلدون" وتلاميذ وسكّان الأحياء المجاورة سيدي عمر وبن يونس وغيرها من أحياء منوبة كانت حاضرة في كل تفاصيل العرض.

"أوبريت بوستيل" هو عرض فرجوي موسيقي ومسرحي وليد جهود تشاركية لتلاميذ من منوبة في إطار مشروع "أوبرا الحي" بين تونس وألمانيا

أشهر من التمارين والتدريبات الجادة لتلاميذ وجدوا في مختبر المستقبل بتونس ملاذًا من الفراغ وخطر الشارع، بعثت الحياة في فكرة "أوبرا الحي" وصارت حقيقة تجسّدت في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري وكانت عنوان فخر للأولياء الذين ذرفوا دموع الفرح في نهاية العرض

لقاء بين بلدين، تونس وألمانيا، ينحت تفاصيله تلاميذ من "مختبر المستقبل" بتونس وآخرون من "زوكنفتسلابور بريمن" بألمانيا، لقاء بين ثقافتين مختلفتين زيّنته الفنون، في تجربة إنسانية فنّية تمتدّ من ألمانيا إلى تونس مطوّعة مشروع "أوبرا الحي" وفق خصوصيات البلدين.

اقرأ/ي أيضًا: مسرح الشارع.. فنّ خارج الستار الأحمر

عن "أوبرا الحي"

"أوبرا الحي" هي تجربة فنيّة تتماهى الفنون على غرار المسرح والرقص والغناء وتتسم بالتشاركية، إذ تضمّ أكثر من مائة شخص بين تلاميذ وموسيقيين وممثلين، ومن خلال هذه التجربة تمكّن مشروع "مختبر المستقبل" بتونس من تجاوز الفضاء المدرسي والإشعاع خارجه.

وفي هذه التجربة التي تمتد تحضيراتها لأشهر، يتولى التلاميذ كل جوانب العرض من فكرته إلى كتابته، وتصوّر الأزياء والأقنعة وكلمات الأغاني، وتقسيم الأدوار، وخطوات الرقص والديكور بتأطير من موسيقيين ومسرحين وراقصين محترفين.

تمارين لأشهر عديدة بين تلاميذ من تونس وألمانيا لتجسيد العرض الفني (صفحة "مختبر المستقبل")

 

ومفهوم "أوبرا الحي" ظهر في ألمانيا قبل عشر سنوات على يد "الزوكونفتسلابور" و"الكامرفيلهارموني" في حي "اوسترهولز تينفر"، لتكون نسخة سنة 2019 إستثنائية إذ تضمّنت موضوعًا مشتركًا بين تونس وألمانيا وتحديدًا بين مدينتيْ منوبة وبريمن.

وقبل 12 سنة أي سنة 2007 ظهر مفهوم "مختبر المستقبل" في ألمانيا تحت مسمّى "زوكونفتسلبور" وهي لفظة ألمانية تعريبها "مختبر المستقبل" وهي تجربة مكّنت من إرساء منظومة اجتماعية ثقافية شاملة.

من "كوابيس شهرزاد" إلى "أوبريت بوستيل"

"أحلام وكوابيس" هي أساس فكرة "أوبرا الحي" في كل من تونس وألمانيا، وانطلاقة لدفع الأطفال للتفكير والتأويل ورسم مستقبلهم كما يريدونه، وكان أن تمت دعوة التلاميذ إلى كتابة نصوص عن الأحلام والكوابيس كانت لبنة للسيناريو.

مفهوم "أوبرا الحي" ظهر في ألمانيا قبل عشر سنوات على يد "الزوكونفتسلابور" و"الكامرفيلهارموني" في حي "اوسترهولز تينفر"

بعد تحديد فكرة العرضين، شرع القائمون على مخبري المستقبل في البلدين إلى البحث عن همزة وصل بين الأوبراتين وكانت شخصية "الغول" في أوبرا "كوابيس شهرزاد " وحكاية "الجرّة" في "أوبرا بوستيل".

في الأوبرا الألمانية، تتغذّى شخصية "الغول" من كوابيس الأطفال، وفي الأوبرا التونسية ترمز "الجرّة" إلى الوفرة والخير حينما تكون مغلقة وهي إذا فتحت تعرّت كل أمراض الحي ويتشكّل منها "الغول" بما هو رابط أسطوري بين الثقافتين، وهو ما مكّن التلاميذ التونسيين من تمثيل مشهدهم في أوبرا بريمن في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتلاميذ الألمان من تمثيل مشهد من "أوبرا كوابيس شهرزاد" في "أوبيريت بوستيل".

الموسيقى همزة وصل..

الموسيقى، هي وسيلة مختبر المستقبل بتونس لتنمية قدرات الفرد وتسهيل عملية إدماجه في المجتمع، إذ يقوم هذا المشروع الثقافي التعليمي على صقل مواهب الأطفال ودفعهم إلى اكتشاف خبايا أنفسهم وقدرتهم على الإسهام في تغيير واقعهم.

يمرّر "مختبر المستقبل" بتونس من خلال الموسيقى جملة من القيم إلى التلاميذ مثل احترام الاختلاف وروح الجماعة والتضامن والإيثار

و"مختبر المستقبل" بتونس يمرر من خلال الموسيقى جملة من القيم إلى التلاميذ مثل احترام الاختلاف وروح الجماعة والتضامن والإيثار، وهو بادرة من مؤسسة كمال الأزعر و"زوكونفتسلبور" بدعم من الوزارة الاتحادية للشؤون الخارجية الألمانية وبالشراكة مع وزارة التربية التونسية.

لتحقيق أهداف المشروع الذي اتخذ شكل أوبرا الحي الذي انبثق عنه تصور "أوبريت بوستيل"، تحدّدت برامج وأنشطة لخلق تآزر بين التلاميذ والموسيقيين والأساتذة والإداريين والأولياء وجيران المدرسة بما يشكلونهم من نسيج مجتمعي.

وبما أن الموسيقى لغة مشتركة عابرة للحدود بمختلف تجلياتها، فإنّها كانت همزة وصل بين تونس وألمانيا وعنوانًا للثراء المتولّد عن الاختلاف بين الثقافتين.

عن "أوبريت بوستيل"..

إن العرض الذي انتظم مساء الأحد 3 نوفمبر/تشرين الثاني من سيناريو وإخراج مختار الوزير وموسيقى محمّد الأسود وأسامة المهيدي بمشاركة تلاميذ "مختبر المستقبل" من تونس وتلاميذ "زوكنفتسلابور بريمن" وموسيقيي الفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة محمد الأسود وموسيقيين ضيوف من "دي دويتش كامرفلهارموني بريمن".

والأوبريت تستمدّ تفاصيلها من حكاية "الجرّة" المقترنة في الذاكرة الشعبية بالمؤونة وبالخير والخصب، ومنها تتفرّع إلى العلاقات بين الجيران والقيم المشتركة بينهم باستعمال أسلوب الواقعية السحرية أو الغرائبية لخلق مشهدية تغري بالمتابعة.

تعدّدت التمظهرات الفنّية والرسائل من ورائها وتماهت الألحان بوقع الخطوات على الركح وصدى التصفيق وألوان الحياة في أزياء التلاميذ

اقرأ/ي أيضًا: أيام قرطاج السينمائية توزع الحلم في السجون

ومن الموسيقى إلى الغناء والرقص والمسرح، تعدّدت التمظهرات الفنّية والرسائل من ورائها وتماهت الألحان بوقع الخطوات على الركح وصدى التصفيق وأصوات الكورال وألوان الحياة التي تزيّن أزياء التلاميذ.

ثلاثة مشاهد تسافر بك إلى عمق الثقافة التونسية حيث الجرّة رمزًا للوفرة والخير والخصب، تلك الجرّة التي تختزن فيها النساء المؤونة لمواجهة الأيام السود، جرّة جعلت منها لمسة الغرائبية في "الأوبيريت" مصدر سواد إذ فتح غطاؤها.

شارك موسيقيون تونسيون وألمان في عرض "أوبيريت بوستيل" (صفحة "مختبر المستقبل")

 

في المشهد الاوّل بعنوان "حفلة الحي"، يحتفل كل من في الحي بالجرّة ويتحلّقون حولها في دلالة على اللحمة والتضامن ويستمعون إلى حكاية إمرأة تبدو شبيهًا بأولياء الله الصالحين عن الجرّة ولا يشبعون من حديثها ويطلبون في كل مرة المزيد على إيقاع النغمات التي تخلقها أنامل العازفين.

أما في المشهد الثاني، فقد اتسمت الموسيقى بكثير من الحيرة والترقّب وكأن بها تتخذ بعدًا تراجيديًا، إنّه انتهاك الممنوع الذي حمل معه الكوابيس للأطفال بعد أن تملّك الجشع رئيس الحيّ وكان أن رأى في منامه أنه يفتح الجرّة فأبرقت الدنيا وأرعدت ووُلد الغول الذي كان يتغذّى من الأمراض المجتمعية من طمع وأنانية.

ولكنّ الأطفال بما هم عنوان للمستقبل وتجسيد للبراءة، فقد احتالوا على الغول الذي يتغذّى من كوابيسه وأشبعوها منها حتّى انفجر وانتصر الإثار على الأنانية والسخاء على الجشع، وكان المشهد الثالث بعنوان انتصار الحي وفتح صفحة جديدة عنوانها التضامن واللُحمة.

من الفنّي إلى الإنساني..

في علاقة بالبعد الفني لـ"أوبيريت بوستيل"، تظافرت عدّة فنون لتمرير رسائل قيمية، وكانت الأغاني وموسيقاها مرواحة بين الثقافة التونسية والثقافة الألمانية من "طلوع الشمس"، و"منوبية"، و"نصائح منوبية"، و"الكرنفال"، و"فتح الجرة"، و"رقصة المكانس"، و"عصفورة"  وهي من كلمات التلميذة رنيم الصفاقسي، فيما قدم محمد الأسود وأسامة المهيدي موسيقى تحاكي الطفولة والحلم والأمل وما بينهم من عثرات وهزّات.

قدم العرض رسائل قيمية عديدة أهمها التضامن واللُحمة والإيثار (صفحة "مختبر المستقبل")

 

ومن "الساحرات" إلى "الدمية" إلى "الأطفال والملاحقة" و"رئيس الحي" و"الانتقام من الغول، و"ظهور الغول" وهي من كلمات عائدة النياطي، أوجد موسيقيو "دي دويتش كامرفلهارموني بريمن" وموسيقيو الفرقة الوطنية للموسيقى مقاطع انطباعية تتجاوز العالم المادي.

ولكن مفهوم "أوبرا الحي" يتجاوز الفني إلى الإنساني، إذ يمثّل منصّة تجتمع عليها جهود أبناء الحي الواحد من تلاميذ وأوليائهم وبقية النسيج المجتمع، فـ"أوبريت بوستيل" ثمرة لجهود "مختبر المستقبل" بتونس ودار الشباب بمنوبة وخيّاطات الحي وحداده ونجاره إلى جانب الكثير من المتطوّعين.

الجميع في منوبة، أسهموا في أن تتحوّل "أوبرا الحي" من فكرة إلى حقيقة زيّنها التضامن والأخوّة، وحتّى التلاميذ القادمون من ألمانيا استضافتهم عائلات من نفس الحي، وآواتهم منازل زملائهم التونسيين حيث لامسوا الثقاقة التونسية عن قرب، وأعجبهم دفء العائلات وحفاوة استقبالهم، حسب ما أفدت به التلميذة الألمانية لايتيسيا لـ"ألترا تونس".

والحلويات التي قدّمها القائمون على المشروع في حفل الاستقبال، صنعتها نزيلات سجن النساء بمنّوبة، هي حلقة كاملة من التضامن المجتمعي الذي يتخّذ أشكالا وأبعادا مختلفة اجتمعت كلها في "أوبريت بوستيل".

الحلم لا يعترف بالحدود..

ولأن الحلم لا يعترف بالحدود فإن تلاميذ "مختبر المستقبل" اعتنقوه دينًا ومن ورائهم مؤطريهم من فنانين، وما "أوبريت بوستيل" إلا حلقة من سلسلة من العروض الفنية التي ستحملها الأيام القادمة وسط حماسة وإيمان بقدرة الثقافة والفنون على تغيير الواقع.

وفي هذا السياق، يقول محمد الأسود المدير الفني المسؤول عن إدارة البرامج والعروض الفنية والتعليمية في" مختبر المستقبل" وقائد الفرقة الوطنية للموسيقى إن الحلم تحقق بعد أشهر من التمارين.

محمد الأسود لـ"ألترا تونس": الحلم تحقق بعد أشهر من التمارين ومشروع "المخبر الموسيقي" تجربة عميقة تقدم مشاريع فنّانين

ولا يخفي الأسود، في حديثه مع "ألترا تونس"، فرحته بقدرة الموسيقى على زرع المحبّة والحلم في تلاميذ يصافحهم الموسيقيون مرارًا حتّى باتوا بمثابة أولادهم، معتبرًا أن تجربة "المخبر الموسيقي" تجربة عميقة يعيشونها وهي تقدم مشاريع فنّانين.

ومن جهتها، عبرت مديرة الموسيقى "لاوبرا بريمن" بربرا غوخه عن انبهارها بتعطّش تلاميذ المختبر الموسيقي بتونس إلى التعلّم، مشيرة إلى التبادل الثقافي بين التلاميذ التونسيين والألشمال الذي جمع بين الإنساني والفني.

أما التلميذة رنيم الصفاقسي صاحبة كلمات "عصفورة" الأغنية التي كانت حاضرة في "أوبيريت بوستيل" فتقول إن حلمها اليوم تحقّق وتجاوزت كلماتها الفضاء الذاتي الضيق وصارت مسموعة من الكثيرين، مؤكّدة أنّ أحلامها لا تعترف بالحدود وأنها ستكتب المزيد والمزيد من الكلمات وتطعّمها بالأمل مثلما تعلّمت في ورشة اللحن.

وأما زياد بن قادر التلميذ الحاضر ضمن الكورال بابتسامته وربطة عنق على شاكلة فراشة، فلم يخف سعادته بوجوده اليوم ضمن هذا العرض الضخم الذي حضرته عائلته، مؤكّدًا أن الفن غيّر فيه الكثير وأنّه يحلم بأن يصير عازف إيقاع في الفرقة الوطنية للموسيقى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مجموعة "ميعاد".. أمل القصرين بنفحة موسيقية

"دريم سيتي".. المضادون للثقافة السائدة