12-يوليو-2019

حفر في تيارات الحركة النسوية (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

منذ إرهاصات الحركات النسوية الأولى، كانت محاولات التصدي لها من قبل حصون الذكورية تمرّ بعملية ممنهجة من الشيطنة والوصم إلى حدّ مقارعتها بالتقاليد والأديان، ولمّا لم يعد ذلك ممكنًا إزاء نجاح العولمة في فرض حد أدنى من المكانة والاعتراف بالمرأة ككائن معادل للرجل (على الأقل أمام القانون)، بتنا نرى سعي مناوئي هذه الحركات التحررية إلى تمييع مفهوم "الفيمينست" (féministe).

وهو تمييع عبر إفراغ هذا المفهوم من قيمته عبر تصوير النضال النسوي على أنه مجرد خطاب بائس لشدّ الانتباه، همّ متحدثاته الإطاحة بالرجل وفرض نمط حياة "يحتقر الرجال" ويقلب الطاولة عليهم لا أن يضع المرأة على نفس الدرجة من الأحقية تُجاه فرص الحياة والوجود.

على الرغم من اتفاق جميع النظريات النسوية المتنافسة على معاناة النساء من الاضطهاد في معظم المجتمعات إلا أنهن يخضعن هذه الحالة إلى عمليات اجتماعية مختلفة ولكنها على أي حال عميقة الغور في المجتمع

في هذا المنحى، أحاول أن أقدم فرضية أراها منطقية لتفسير هذا التحول إزاء قضية النسوية والتي أعزوها إلى تراجع النسوية الراديكالية لصالح النسوية الامبريالية التي استطاعت أن تحافظ على وجودها في تونس مثلًا، ذلك أننا نلحظ أن كل الجهود المحتشمة للإجهاز على التمييز الجنوسي تصدر من داخل النظام، في خضوع تام للتوافقات والمصالح السياسية قبل أي شيء آخر.

على مرّ قرون من النضال، برزت حركات نسوية مختلفة بناء على حيثيات المجتمعات التي نشأت فيها وبمحاذاة الظروف السياسية وطبيعة معارك النساء حينها، لتكون لنا، نحن الدارسون، حصيلة متنوعة من النظريات المتباينة التي حاولت تفسير التفاوت الجنوسي، أملًا في تحقيق المساواة الاجتماعية.

وعلى الرغم من اتفاق جميع النظريات النسوية المتنافسة على معاناة النساء من الاضطهاد في معظم المجتمعات إلا أنهن يخضعن هذه الحالة إلى عمليات اجتماعية مختلفة ولكنها على أي حال عميقة الغور في المجتمع مثل التحيّز الجنسي أو البطريركية أو الرأسمالية أو العنصرية.  ومن ثم، فإن ما ستقوم عليه هذه المقالة هو إبراز الفرق بين النسوية الإمبريالية ونظيرتها الراديكالية وكيف أن بروز الأولى على حساب الثانية قد أضر بالنسوية وجعل منها موضع استسهال ومن ثم استهزاء.

النسوية الليبرالية

يعرف أنتوني غدنز في كتابه "علم الاجتماع" النسوية الليبرالية بأنها تيار يعزو التفاوت بين الجنسين إلى التوجهات والمواقف الاجتماعية والثقافية. وخلافًا للمنحى الراديكالي، لا ينظر أنصار ونصيرات النسوية الليبرالية إلى إخضاع المرأة باعتباره نسقًا أو بنية اجتماعية ضخمة، معنى ذلك أن الليبراليات يرجعن أسباب التفاوت الجنوسي إلى عوامل اجتماعية منفصلة ويوجهن بنادقهن إلى مشاكل مثل التحيز الجنسي، والتفرقة في المعاملة بين الجنسين في الفضاء العام، وأماكن العمل ووسائل الإعلام الجماهيري.

اختزال قضية المرأة التونسية اليوم في المساواة في الميراث وغض الطرف عن التمييز الطبقي واستغلال القاصرات والاضطهاد الاقتصادي فتح المجال للمترصدين لتمييع حضور الحركات النسوية 

على هذا الأساس، فإن المقاربة النسوية الليبرالية تستوجب مظلة واسعة ومتينة من الديمقراطية طالما أن مشروعها ينخرط ضمن إيجاد وفرض فرص متكافئة للنساء اعتمادًا على التشريعات والقوانين التي تفرض على سبيل المثال المساواة في الأجور والوظائف والميراث. وفي هذا الجانب، باتت المساواة في الميراث مشروعًا وطنيًا ذا أولوية للحركة النسوية في تونس، ومن ثم فإن اختزال قضية المرأة التونسية اليوم في المساواة في الميراث، وغض الطرف عن التمييز الطبقي واستغلال القاصرات والاضطهاد الاقتصادي فتح المجال للمترصدين لتمييع حضور الحركات النسوية لغيابها من وجهة نظرهم عن شن معارك جامحة تمس أسس التمييز الجنوسي ومعاقله.

اقرأ/ي أيضًا: هل تحتاج نساء تونس إلى إنقاذ؟

ولأن القضية قضية وعي بالأساس، تظل النسوية الليبرالية محل انتقادات، وهي قاصرة عن إقناع حراس الذكورية والمتمعشين من حقوق النساء المهدورة، ذلك أنها لا يمكن أن تحل مسألة الوعي الجمعي الذي لم يتقبل بعد فكرة المرأة القائدة والشريكة والمتساوية مع الرجل، طالما أنها مقاربة قد تُفرض بالقوانين ولكنها لا تبني وعيًا صحيًا تجاه العدالة الجنوسية.

كذلك فإن النسوية الليبرالية، التي تتعامل باستعلاء تحت قيادة نخبة مثقفة من النساء اللاتي يترأسن محافل فرنكفونية في تونس ويسردن خطابًا فضفاضًا يقصي العاملات وغير المتعلمات، تحولت باختصار إلى نسوية طبقية لا يمكن التعويل عليها لخوض معركة إعادة النظر في حالة المرأة في جميع مواقعها.

إن النسوية التي لا تضم جميع النساء ولا تطالب بإعادة البناء، رمزيًا، ولا تلتقي بهن في الساحات والشوارع وعلى أبواب المصانع وطرق الحقول، لا تصل لقلوب الكادحات خصوصًا وأن النضال في الوعي الجمعي يرتبط بالميدان، والثورة، والعنف وهو ما تذكرنا به التعليقات المشمئزة من مشهد النساء الناشطات في قصر قرطاج واللاتي قُورنت بصور العاملات المضطهدات، لتُتهم الحركة النسوية التونسية بأنها طبقية وعنصرية.

ماذا عن النسوية الراديكالية؟

تعتقد النسوية الراديكالية المتطرفة في أن الرجال هُم المسؤولون عن اضطهاد النساء واستغلالهن كما أنهم يحققون الاستفادة والمنفعة من ذلك، ومن هذا الإيمان المتجذر بهيمنة الذكور أو ما يعرف بالبطريركية، والتي تعني الهيمنة النظامية الممنهجة للذكور على الإناث في المجتمع، تستمد هذه النظرية تفسيرها لكل الفروقات الجنوسية.

في نظر النسوية الراديكالية، تُعتبر البطريركية ظاهرة شاملة ترزح تحتها المجتمعات الانسانية وهي تضر بالمرأة وتجعل منها أدنى من الرجل بحيث يتم انتهاك حقوقها منذ نشأتها الأولى داخل العائلة النووية.

النسوية الليبرالية، التي تتعامل باستعلاء تحت قيادة نخبة مثقفة من النساء اللاتي يترأسن محافل فرنكفونية في تونس ويسردن خطابًا فضفاضًا يقصي العاملات وغير المتعلمات، تحولت باختصار إلى نسوية طبقية

هذا التحليل السوسيولوجي يُرجع التمييز الجنوسي الي مشكل بنوي بالأساس حيث يتم استغلال المرأة منذ الوهلة الأولى من قبل الأب والأخ والزوج، في البداية من خلال العمل المنزلي المجاني وسلب إرادتها والاختيار مكانها، ولاحقًا مع الزوج عبر استنزافها جنسيًا في عملية الإنجاب وتربية الأبناء مع العمل على قطع جميع الإمدادات إليها والاجهاز على فرص وصولها الي السلطة ومواقع التأثير في المجتمع.

اقرأ/ي أيضًا: الحركة النسوية..بين الأبوة السياسية والحنين للماضي

ترى الناشطة النسوية الأمريكية شولاميت فايرستون أن الاضطهاد الأسري من قبل ذكور العائلة، قد أدى إلى ظهور طبقة مقموعة من النساء داخل النسيج المجتمعي، وتذهب في موقفها المتطرف إلى حد المطالبة بإلغاء العائلة كفرصة لتحرير المرأة وانعتاقها من علاقة السلطة والقوة.

تركز البطريركية على إبراز العنف الذي يمارسه الذكور على الإناث لتحقيق تميزهم الجنسي بحيث يخلقون برنامجًا كاملًا يقوم على العنف البيتي والجنسي مثل التحرش والاغتصاب بهدف اخضاع المرأة وكسرها ككائن أدنى منزلة ووجودًا.

تبرز شدة وطأة البطريركية على حياة النساء في انشار حالة القلق لدى المرأة  في الأماكن العامة والافتقاد إلى الإحساس بالأمان، زد عليها سيطرة الذوق الذكوري على مناحي الحياة وإخضاع المرأة نفسها لمعايير الجمال والنجاح التي يضعها الرجال، لتصبح بوعي منها أو دونه حبيسة نظرته وأسيرة لتطلعاته وانتظاراته وتتحول إلى أداة جنسية معظم الوقت لإرضاء الرجال. 

وتقر العالمة الإيطالية والنسوية الماركسية سيلفيا فريدريتشي في كتابها "تنظير البطريركية" بأن منهجية فهم هذه النزعة الذكورية يجب أن تخضع إلى تمشي أكثر مرونة يسمح باستيعاب عوامل أخرى مؤثرة في مفهوم البطريركية على غرار المرحلة التاريخية والأصول الإثنية والاختلافات الطبقية.

إن النظرية النسوية الراديكالية تستمد قوّتها في وجه خصومها من شراستها وقدرتها على الإطاحة بثوابت التمييز والاضطهاد عبر مراجعة بنيوية تهدم أسس الهيمنة والاستغلال الذكوري

وتبدو مناقب النسوية الراديكالية واضحة من خلال قدرتها على الحفر عميقًا في الداء الأساسي للتمييز الجنوسي عبر مراجعة بنوية للهيمنة الذكورية، ما يتيح فرصة معالجة هذا الداء عبر تثوير الوعي السائد وإلغاء أي تمييز على أساس الجنس بقوة الثورة وإرادة التغيير.

ولكن من وجهة نظر علمية، لا ينفي كل هذا وجود بعض الإخلالات في النظرية النسوية الراديكالية لأننا لا يمكن أن نتحدث عن نسق واحد يختزل قمع النساء عبر التاريخ ويهمل عوامل أخرى على غرار العرق والدين والطبقة.

إن النظرية النسوية الراديكالية تستمد قوّتها في وجه خصومها من شراستها وقدرتها على الإطاحة بثوابت التمييز والاضطهاد عبر مراجعة بنيوية تهدم أسس الهيمنة والاستغلال الذكوري، بما يحقق وعيًا جمعيًا جديدًا مساندًا للمرأة ومنصفًا للحقوق الانسانية دون أية تقسيمات جنسية. إلا أن المعارك التي تمس البنى الاجتماعية في ثوابتها المجحفة وإرثها الظالم فالتأكيد أنها كفيلة بأن تقدم علاجات شافية لتصحيح الرؤية تجاه النسوية ورد الاعتبار إليها في تحقيق العدالة الجنوسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف اخترقت التكنولوجيا المجال النسوي المغلق؟

قصة أم عزباء.. رقصت على رماد الوصم الاجتماعي