مقال رأي
استمعت منذ أيام إلى تصريحات وزير الشؤون الثقافية بتونس بخصوص المهرجانات الصيفية، وهو يشيد بأهميتها كفعل ثقافي ترفيهي أساسي بالنسبة للتونسيين وليؤكد أيضًا أن ذلك من الحقوق الثقافية التي يجب المحافظة عليها وصيانتها وتنميتها. وقد أكد أن نسخة 2018 من المهرجانات الصيفية تتميز بجودة العروض الموسيقية والغنائية والفرجوية، وبالخصوص تميّز المهرجانات الصغيرة بعروض ذات مستوى تؤمنها أسماء فنّية اعتبارية ضاربًا مثال حضور الفنان اللبناني مارسيل خليفة في مهرجانات صغيرة بمدن الداخل، واعتبر الوزير ذلك من حقوق أبناء الجهات على الوزارة.
ملف المهرجانات الصيفية من أعقد الملفات في وزارة الثقافة لتداخل الجوانب القانونية والإدارية والاجتماعية بشأنه وذلك بالإضافة لدور اللوبيات الثقافية الجهوية والمحلية
ولكن لا ترقى، في الواقع، تصريحات الوزير لمستوى الحفر الحقيقي في ملف المهرجانات الصيفية الذي يُعتبر من أعقد الملفات في وزارته لأنه تتداخل فيه الجوانب القانونية والادارية والمالية من جهة، مع الجانب الاجتماعي من جهة أخرى، وذلك باعتبار أن أغلب الفنانين وشركات الانتاج الثقافي "ترتزق" وتعيش من فضل المال العمومي الموجه للمهرجانات الصيفية. بل ويتداخل ملف هذه المهرجانات مع اللوبيات الثقافية الجهوية والمحلية.
ولم يقم وزراء الثقافة السابقين بنبش هذا الملف رغم محاولات بعضهم والتي باءت بالفشل لأن تفكيك هذا الملف وإعادة ترتيبه من جديد يتطلب إرادة تغيير حقيقية وصلبة تقوم على إعادة تصور شامل وشجاع لعمل الوزارة. فلا يكفي إحداث إدارة عامة في صلب الوزارة للاعتناء بالتظاهرات الثقافية والمهرجانات، وذلك إن ظلّ تسييرها على نفس إيقاع الإدارات العامة الأخرى في الوزارة.
اقرأ/ي أيضًا: مهرجان قرطاج الدولي.. السّياق التاريخي ومراكمة الذاكرة الثقافية
فلم يلمس التونسيون في الواقع أي تغيير في المهرجانات الصيفية وذلك باستثناء المهرجانات الواجهة أو المهرجانات التي ترعاها الوزارة رأسًا، فتقريبًا أدوات العمل وآليات التسيير هي ذاتها مع استنساخ نفس محتوى البرامج، بل ظلت الأسماء التي تدير الشأن الثقافي المحلي والجهوي هي نفسها التي تطفو على السطح كل صيف.
وإذا ذهبنا إلى أعماق الجهات وقلًبنا في الشأن الثقافي الصيفي، سنقف على صراعات سياسوية صغيرة في إطار التنافس والتطاحن الحزبي المحلي. كما نجد غيابًا تامًا لثقافة الاختلاف والتعايش السلمي للجمعيات الثقافية مع استقالة النخبة المحلية وهيمنة مقربين من السلطة الجهوية في ظل مناخ فساد مالي. وكلّ هذه المسائل من شأنها أن تعيق العملية الثقافية برمّتها صيفًا وشتاءً، والخاسر الوحيد هنا هو المواطن محور الفعل الثقافي، أفلا يكفي هذا المواطن الهزائم الأخرى في مجالات التربية والتعليم والاقتصاد؟
يعرف ملف المهرجانات الصيفية في الجهات صراعات سياسوية صغيرة في إطار التطاحن الحزبي المحلي مع غياب لثقافة الاختلاف وهيمنة مقربين من السلطة الجهوية في ظل مناخ فساد مالي
إن وزارة الشؤون الثقافية مطالبة الآن وليس غدًا بإحكام هذا "الفلتان الثقافي" الذي يحدث في العديد من المدن والجهات وذلك بإعادة رسم سياسة المهرجانات الصيفية بإحداث تغييرات في القوانين وإعادة ترتيب العلاقات مع شركات الانتاج الثقافي والجمعيات، باعتبار أن كل المهرجانات تنشط تحت طائلة قانون الجمعيات، وذلك مع ضرورة توفير الإمكانيات اللوجيستية الضرورية لإقامة هذه التظاهرات وخاصة المحلية منها، فيكفي هدرًا للمال العام. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار، لماذا هذا الكم الهائل من المهرجانات الصيفية في تونس التي بلغ عددها قرابة 400 مهرجان؟ ولماذا الابقاء على نفس السياسة المهرجانية؟
لقد حان الوقت لتقليص عدد المهرجانات والتخلص من الوضع الرثّ لمهرجانات مدن الداخل بخلق أقطاب مهرجانية إقليمية كبرى بمواصفات عالمية تراعي الخصوصيات الثقافية المحلية، ويتم التنقل إليها من المدن المحاذية في ظروف طيبة تحترم كرامة المواطن وحقه الأساسي في ثقافة راقية. ومن المهمّ أيضًا تركيز مهرجانات مختصة في فنون بعينها كمهرجان المالوف بتستور أو مهرجان الجاز بطبرقة أو مهرجان الموسيقى السمفونية بالجمّ.
حان الوقت لتقليص عدد المهرجانات والتخلص من الوضع الرثّ لمهرجانات مدن الداخل بخلق أقطاب مهرجانية إقليمية كبرى بمواصفات عالمية تراعي الخصوصيات الثقافية المحلية
إن تصريحات وزير الشؤون الثقافية بخصوص المهرجانات الصيفية وخاصة فيما يتعلق بتمييز الجهات الداخلية لا يحمل فقط على إرادة التغيير الجذري للمشهد الثقافي الصيفي الذي مازال يدور على رحى الترفيه بعيدًا كل البعد عن التثقيف والتأصيل لدور الفنون في صناعة الذوق داخل المجتمع والتخلص من مظاهر القبح والعنف بأنواعه، وإنما يحمل أيضًا على محمل حكومة لم تكن يومًا ذات نظرة استراتيجية في سياستها الثقافية.
اقرأ/ي أيضًا: