05-يونيو-2018

زاوية سيدي عبد الله بومخلوف من بين معالم الكاف

الكاف أو سيكافينيريا "معبد" الحب والجمال حيث تطالعك "فينوس" أينما يمّمت وجهك في أنحاء المدينة المترّبعة على عرش "الدير". ومن مقامها العالي، ترسل "فينوس" نفحات الحب والجمال إلى السرس، وتاجروين، والدهماني، وساقية سيدي يوسف، والقلعة الخصبة، والجريصة، وقلعة سنان، ونبر، والطويرف والقصور.

اقرأ/ي أيضًا: "كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة

تراث معماري وتعايش إنساني

تتجسّد آلهة الجمال في المعالم الأثرية للكاف التي تعاقبت عليها حضارات عدّة منذ العصر الحجري مرورًا بالعهد الروماني والبيزنطي والعربي والعثماني. تزخر المدينة التي تبعد عن العاصمة التونسية حوالي 160 كيلومترًا، بتراث معماري تروي جدرانه قصص التعايش الإنساني بين أهل الكتاب، وتعكس آثار تعاقب الحضارات.

ينتصب في كبد المدينة الجامع والكنيسة والمعبد في توليفة فاتنة للتعايش الديني الذي يبعث الدفء في أرجاء المدينة الباردة شتاء ويعدّل من طقسها صيفًا. ويفوح أريج التسامح من ثنايا المدينة وتعاضده نفحات القدسية المنبعثة من عين" للا منى" التي تولّدت عنها مرافق للاستجمام على غرار "الحمام" والمواجل. وستحدّثك أعمدة وحجارة القصبة و"البازيليك" والكنيسة والمعبد ومقام "سيدي بومخلوف" ومتحف العادات والخزانات الرومانية عن ذاكرة الكاف. ويطالعك الجمال في قلعة سنان من مائدة "يوغرطة" المعلم التاريخي ذو الهندسة المعمارية المتفرّدة المصممة في شكل طاولة تتجاوز مساحتها 80 هكتارًا وتتوسطها مجموعة من الهضاب الجبلية الصخرية التي تضفي على المعلم لمسة سحرية.

تزخر الكاف بتراث معماري تروي جدرانه قصص التعايش الإنساني بين أهل الكتاب، وتعكس آثار تعاقب الحضارات

طقوس "المحفل" و"النجمة" وتراتيل الطبل والزكرة

الجمال والحب يسكنان أيضًا الأغاني في رنين "الزكرة" وإيقاع الطبل. وقد ردّدت في مرتفعات الكاف أجنحة الطيور المهاجرة صدى أغنيات الحب والألم والفراق ودعوات الوصل. ومازال يحافظ الريفيون في مدينة الكاف على موروثهم الغنائي ويردّدونه في "النجمة" أو "ليالي الحنّة" أو "المحفل"، فترى النسوة يجتمعن في راحة المنزل تتوسّطهن العروس لتلعلع الزغاريد والموسيقى في الأرجاء ويسمع أزيز أبواب الجنة.

تتولى إحداهن مهمة القرع على "الدربوكة" فيما تغني أخرى، وتتكفل البقية بترديد مقاطع من الأغنية على شاكلة الكورال، وتستعمل المغنية إناءً حديديًا لشرب الماء كمصدح ليتردّد صدى صوتها في أرجاء البيت، وإذا خانتها حبالها الصوتية تناولت بعض السكر أو العسل لينساب صوتها مرنًا.

ولا تخلو "النجمة" من أغنيات "هزي حرامك وخمريك" و"مرضى الهوى قتالة" و"جيبولي خالي" و"لامن يجينا" و"صغير وريقو شاح" و"ريم الفيالة". ولا تكاد الأعراس في الكاف، قبل طفرة العولمة، تخلو من الطبال والزكرة اللذان يمثلان عنوانًا للموسيقى الفرائحية، ويربت العازفون على جلود الطبول بعصي رفيعة ويبثون في "الزكرة" بعضا من روح "فينوس". وينسجم العازفون مع تراتيل الطبل و"الزكرة" فتراهم تارة يتقدّمون إلى الأمام في خطوات متناسقة وتارة أخرى يتراجعون إلى الخلف، وقد يلامس أحدهم الأرض حاملًا الطبل على رأسه فيما يعانق آخر السماء وهو يلوّح به بين ثنايا الأثير.

ولا يفرق الرقص الشعبي في الكاف بين ذكر وأنثى فالرجال أيضًا يرسمون بأجسادهم خطوات راقصة ويهزون بخصرهم تماماً كالنساء مع إضفاء بصماتهم من خلال بعض الخطوات "العنيفة".

أغنية "هزي حرامك وخمريك" من التراث الكافي

التراث الغنائي والصور الايروتيكية

إن التراث الغنائي في الشمال الغربي وتحديدًا الكاف ليس مجرّد جمل موزونة ونغمًا بل هو تجسيد لعلاقة الفرد بمحيطه إذ تترجم بعض الأغاني التراثية رغبة الأفراد في إقامة واقع اجتماعي بديل في السياق الذي ظهرت فيه تلك الأغاني. يجسد التراث الغنائي تمثّلات الفرد عن الحب وممارسة الحب في مجتمع "محافظ" حيث يلجأ العاشق أو العاشقة إلى تشكيل مشاهد ايروتيكية بصور شعرية لا تمس حياء المجتمع الأم.

ويخفي العاشق رغبته بين ثنايا الصور الشعرية والعبارات "المهذبة" و"يحتال" على أعراف وتقاليد المجتمع "المحافظ" فيستدلّ على الحبيب بـ"الأخ" أو "الخال" او "الغزال" ويستدلّ على الرغبة بـ"مرض الهوى"و "الداء".

اقرأ/ي أيضًا: جولة في المعالم الأثرية للقيروان.. ذاكرة الحضارة الإسلامية

ففي أغنية "دليلة" التي أعادها الفنان عبد الرحمان الشيخاوي، يتغنى العاشق بحبيبته ويسمّيها "غزالي" قبل أن يضرب نواميس المجتمع وأعرافه بعرض الحائط وينادي حبيبته باسمها. وتقول الأغنية "عجبوني رمقات غزالي وحزامها يلعب شيطاني..ويا دايا اللي كان راني مريّض ها دليلة وبرّي في الأمان.. وعجبوني رمقات الطفلة وخدودها نوار الدفلة.. عجبوني عينين الطفلة وخدودها نوار الدفلة في وسط الوديان راني مريض ها دليلة دقدقني الحومان..عجبوني عينين البنية وحزامها ليّة على الليّة قاتلني قاتلان راني مريض ها طفلة بري في الأمان..عجبوني عينيك من ربي الحب والغرام يدربي على روس الكيفان هاني مريض ها دليلة دقدقني الحومان وبري في الامان".

وتعني كلمات الأغنية أنّ العاشق معجب بنظرات غزاله وأنها تهزّ خصرها بطريقة شيطانية، وأنها الداء ويطلب منها أن ترحل ليتغنى من جديد بوجنتيها وعينيها وخصرها، ويشكوها ألم الحرمان ويعترف لها بأن الحب يجعل العاشق يهوي من قمم الجبال. ويظهر من كلمات الأغنية أنّ هذا العاشق يعيش حالة من العشق تشوبها لفحة من الحرمان فيتغنى بمفاتن حبيبته من عينيها إلى وجنتيها فخصرها ويشكوها لوعة البين ثم يطلب منها أن ترحل في تجلّ واضح لعدم قدرته على أن يسيطر على رغبته في الوصال.

 يجسد التراث الغنائي تمثّلات الفرد عن الحب وممارسة الحب في مجتمع "محافظ" حيث يلجأ العاشق أو العاشقة إلى تشكيل مشاهد ايروتيكية بصور شعرية لا تمس حياء المجتمع الأم

وفي إحدى الأغنيات التي أعادت مجموعة برقو 08 إحياءها يقول العاشق في حبيبته "هاي أحمر من الورد خدّك.. كمّل ملا الثلج سنّيك.. الجازية ما تضدّك ولو كان عندي مال هارون هاي نهديه ونبات عندك.. للّا راني نتكبّ يا طويلة بين صدرك والرقبة". إذ يصف العاشق حبيبته فيخرجها في صورة الفاتنة ذات وجنتين أشد حمرة من الورد وأسنان بيضاء مثل الثلج حتى أنه يجزم أنها أجمل من الجازية الهلالية التي تعتبر أيقونة الجمال في المخيال الشعبي. ويصرّح العاشق أنه على استعداد ليبذل كل ما يملك في سبيل ليلة يمضيها مع حبيبتها حتى أنه ذهب إلى وصف تفاصيل أخرى من جسد حبيبته في تعبير على شدّة توقه لها.

وتقول كلمات أغنية زعرة مصقولة الناب التي مازالت تردّدها النسوة في أعراس أرياف الشمال الغربي  "هاي زعرة ياللي داك معذبني.. ماو هزي الشفة على الناب وخلي ربي يحاسبني.. وهيا نمشو للكاف ونهزو حرام وسورية ونزيدو سبعة شمعات باش نعدو السهرية". ويدعو العاشق في هذه الأغنية حبيبته إلى ممارسة الحب إذ يدعوها إلى سهرة ليلية في الجبل فمفرد "الكاف" في هذه الأغنية لا تحيل على الكاف المدينة وإنما الجبل، ويطلب من معشوقته أن تسمح له بتقبيلها ويخبرها أنه سيرضى بعقاب الله بشأن صنيعه ولا يلقي بالًا للمجتمع.

وقدّم عرض المنسيات للسعد بن عبد الله أغنية "جبال الكاف" التي تجسّد صورة العاشق الولهان الذي يرغب في الموت ليكون جسد حبيبته غسله وكفنه ولحده. وتقول الأغنية" يا وهاها يا نجيك نجيك وها إنموت عليك ها يدّو خبري لاماليك، هايقطروني بدمعة عينيك، هايغسلوني بريقة سنيك، ها يكفنوني بطرقة حوليك، ها يدفونني  وسط جواجيك، يا يلحدوني بصباع يديك". وتتماهى في هذه الأغنية معاني الوجد والرغبة وتنصهر الروح في الجسد، ففي الظاهر يحاول الحبيب أن يطفئ نار شهوته لكنه يعكس حبًا روحانيًا يدفعه إلى الموت فقط من أجل حبيبته.

اقرأ/ي أيضًا: الكحل.. صنعة "الخالة مليكة" التي تحدت الماركات العالمية

وفي أغنية "زينة زينة" التي أعادها أيضًا الفنان عبد الرحمان الشيخاوي، يدعو الحبيب حبيبته إلى أن ترفع رداءها "الحرام"  ليرى وشمها وأن تكشف عن شعرها ويخبرها أنها عذبته وستجعله يموت من فرط الشوق. وتقول الأغنية "زينة وهاي زينة وحبك راهو درباني.. وها عذبتيني هاي زينة علاش نموت نعاني.. زينة هاي زينة ماو هزي حرامك خلي نشبح وشامك وهاي هزي على السالف وهاي هابط".

الصوف والطين والنباتات الجبلية.. قصص الخلق

تكاد لا تخلو المنازل في الكاف من الأغطية والمفروشات المصنوعة يدويا على غرار "المرقوم"، و"الكليم"، و"كليم الشوالق" و"العبانة" التي ولدت من رحم "السدّاية" لكن اختلفت ألوانها ورسومها. وتكون بداية صنع هذه المفروشات والأغطية بجز الصوف ثم غسله وتليينه بـ"القرداش" فغزله ليصبح خيوط "طعمة" تنساب بين يدي النسوة فتلوّن بياض "الجدّاد" الواقف في شموخ على أعتاب "السدّاية".

ومن النسوة من يخيرن تصاميم بسيطة في النسج على غرار المربعات أو ما تسمينه "نقلة دور واعكل" في إشارة إلى أن الرسم يدور على أعقابه عند المنتصف، ومنهن من تخيرن رسم فراشات أو ورود أو طيور. ويغنّي بين الخيط والخيط "الجدّاد" على وقع عزف "الرطاب" وترنّ "الخلالة" وهي تهوي على الخيوط لتلتحم ببعضها البعض كالبنيان المرصوص.

الكاف التي تتميز بمخزون ثفافي وأثري ثريّ لا تزال تعاني تهميش السلطة المركزية منذ عقود

وفي الكاف أيضًا، تخرج النسوة في الصباح الباكر لجلب الطين من أماكن تقع خارج القرى وتقمن بعجن، ومن الطين الذي خلقنا منه تخلقن "القوجة" و"الكانون" و"الطجين" بعضها للاستعمال المنزلي وبعضها الآخر للبيع. ومن النسوة أيضًا من تحج إلى الجبل حيث ينبت الزعتر والاكليل ونباتات أخرى تجمعها وتصنع منها زيوتاً ومستحضرات تجمع بين الفوائد الصحية والرائحة الزكية هي رائحة جبال الكاف.

ولا تزال الكاف التي تتقاطع فيها التجارب المعمارية والموسيقية والرقصية والحرفية لترسم شرايينها الممتدّة في عمق التاريخ، تعاني إلى الآن تهميشًا من قبل المركز، ولكن ذلك لم يخمد نفحات آلهة الجمال والحب ولم يطمس صوت "أزيز أبواب الجنة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الخربقة.. لعبة أجداد التونسيين للتسلية والتفكير

قصص الزيتون في تونس.. قدم التاريخ وبركة الجغرافيا