31-يوليو-2019

هل يريد التونسيون (أو جزء مهمّ منهم) فعلًا لزعيمهم أن يكون ديمقراطيًا؟ (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

 

مقال رأي

 

ودّعت تونس رئيسها يوم 27 جويلية/ تموز الماضي في جنازة مهيبة. ولا تكتسب وفاة الرئيس أهمّيتها من كونه أوّل رئيس مُنتخب بطريقة مباشرة يفارق الحياة وهو يمارس مهامّه فحسب، كما أنّ خطورتها لا تقتصر على الظّرف الصّعب وما يميّزه من سباق انتخابيّ محموم ومعادلات حزبيّة سياسيّة مُعقّدة، وإنّما تتجاوز كلّ هذا وذاك لتؤشّر على ثنائيّة فريدة: ديمقراطيّة ناشئة تنحو موضوعيًّا إلى تجاوز الزّعامة، والتفاف شعبيّ منقطع النّظير حول صورة الزّعيم الأب الفقيد مُجسّدة هذه المرّة في الباجي قائد السّبسي.

لقد كانت صورة "رجل الدّولة" جوهريّة في حضور السبسي بعد 2011 رغم صعوبة تعريف أو تحديد معالم واضحة لهذه الصّورة في السّياق التونسيّ

اقرأ/ي أيضًا: "العتبة الباجية" أمام مرشحي رئاسيات 2019

لا ريب أنّ بعض هذا الالتفاف الشعبيّ منقطع النّظير حول "الزّعيم الرّاحل" يمثّل نتاجًا لعُرف شعبيّ في تونس وفي المنطقة فحواه "اذكروا موتاكم بخير" وما للموت من هيبة ورهبة، بيد أن وراء ذلك السّلوك الجماعيّ العاطفيّ ثمّة أيضًا معالم للمخيال الجماعيّ حول الزّعامة والدّولة.

ومن كلّ الأطياف السياسيّة كانت معاني الأبوّة والدّولة حاضرة في الخطابات والجمل التأبينيّة: يصفه خصمه السياسيّ الرئيسيّ في انتخابات 2014 المنصف المرزوقي بأب العائلة، ويؤبّنه الشيخ مورو رئيس البرلمان بالنيابة عن حركة النّهضة فيشهد "أنّه رجل دولة" ويقرّ بحيرته إذ يحاول عبثًا الإحاطة بشخصيّته... ويحدّث أحد معارضيه الرئيسيّين المرشّح للرئاسة محمّد عبو عن عاطفة يشعر بها معارضو السبسي تتجاوز "حدود ما هو عقلانيّ".

يمكن أن نفهم كلّ هذا باعتباره تعبيرًا فريدًا عن الانتماء المُشترك للتونسيّين رغم حدّة الاختلاف، ويمكن أن نفهمه كتعبير عن الالتفاف حول الدّولة مُمثّلة في رأسها ورمزها الأوّل، ويمكن أن نفسّره بشخصيّة السبسي الشيخ المُميّزة بظرف ونكتة وسرعة بديهة ومراوغة لطيفة تستهوي شرائح واسعة من التونسيّين. تلك إمكانيّات وهي لا تخلو من وجاهة.

أمّا الإمكانيّة الأخرى وهي ليست بالضرورة بديلًا لسابقاتها، فإنّها تتعلّق بحالة شخصنة الدّولة في السّياق التّونسيّ ومدى تطابقها مع الزعيم الأب والحارس. ولقد كان بورقيبة الزعيم – الدّولة، محرّك القوانين وصانعها ويغيّر بمقتضاها المجتمع ويحمي أفراده من توحّش مُفترض إن تُرك النّاس دون رسم وضبط. ولعلّ الرّاحل السبسي لم يكن متشبّثًا بثورة بورقيبة ومرجعيّته إلاّ لوعيه بمدى ارتباط الأمن من الخوف والرعاية من الحاجة الذي تمثّله الدّولة بالنّسبة للتونسيين بالزّعيم الرئيس.

لقد كانت صورة "رجل الدّولة" جوهريّة في حضور السبسي بعد 2011 رغم صعوبة تعريف أو تحديد معالم واضحة لهذه الصّورة في السّياق التونسيّ. فهي تبدأ ممّا يُطلق عليه التونسيّون في عامّيتهم "الوهرة"، وهو أيضًا مفهوم غامض قد يُعادل الهيبة أو الكاريزما، وتنطوي على اعتبارات منها التجربة السابقة في دواليب الدولة الإدارية أو المناصب السياسيّة والترفّع عن المآرب والاعتبارات الشخصيّة لصالح الدّولة وما هو جماعيّ.

هل يريد التونسيون (أو جزء مهمّ منهم) فعلًا لزعيمهم أن يكون ديمقراطيًا بالمعنى التام الدقيق للكلمة؟ أم تُرى في نفسهم إعجاب صريح أو مكبوت بمن يملي عليهم رأيًا أو يرافقهم في تبنّيه باللين حينًا وبالحزم أحيانًا؟

اقرأ/ي أيضًا: عن رحيل السبسي.. موت الاستفتاء واستفتاء الموت

بيد أنّ السبسي لم يُعرف عنه تشبّث بيروقراطيّ بحرفيّة وشكليّة القوانين، ولم يكن إداريًّا بالمعنى المعروف إذ كان محاميًا شأنه في ذلك شأن بورقيبة. ولم يكن للسبسي باع كبير في النّضال من أجل الديمقراطيّة قبل الثورة، رغم أنّه ساهم في الحفاظ على المؤسّسات والمسار الديمقراطيّ رئيسًا للحكومة ثمّ رئيسًا للجمهوريّة. لكن هل يريد التونسيون (أو جزء مهمّ منهم) فعلًا لزعيمهم أن يكون ديمقراطيا بالمعنى التام الدقيق للكلمة؟ أم تُرى في نفسهم إعجاب صريح أو مكبوت بمن يملي عليهم رأيًا أو يرافقهم في تبنّيه باللين حينًا وبالحزم أحيانًا؟ هل يكون في ذلك الحزم الليّن غير الديمقراطيّ بالضرورة ما يستجيب لتوجّس شائع بقدر غير هيّن ممّا يعتبره البعض فوضى الحرية؟

في تحليله لمفهوم رجل الدّولة من منظور نقدي للنظريّات الكلاسيكيّة، يعود الباحث الأمريكي "Ruderman" إلى مغزى استعادة تقليد قديم في فنّ الحكم على إشكاليّته من زاوية النظريّة الديمقراطيّة الحديثة، فيعرّف ملكة رجل الدّولة التي شغلت فلاسفة السياسة منذ أفلاطون على النّحو التّالي: "إنّ ملكة رجل الدّولة هي الموازنة بين المحافظة والابتكار، وبين الإذعان إلى المشاعر العامة ومحاولة تثقيف الشّعب، وربما الأهم من ذلك، بين الأخذ بجدية لعُلويّة الأخلاق مع الاعتراف بمحدوديّتها في مواقف سياسية معينة، ومَلكة رجل الدّولة تبقـى على أهمّيتها عصيّة على التحديد أو الوصف".

فالسبسي هو من يُعابُ عليه تسهيل تدخّل أجنبيّ في ليبيا، وهو من يُمدَح باعتباره سليل حركة التحرر الوطني في تونس وصديق الرعيل الأول للتحرّر الوطنيّ المغاربيّ. والسبسي هو رئيس حزب ضمّ بين صفوفه بعض من يُتّهمون بالتطبيع، وهو وزير الخارجيّة التونسيّ الذي افتكّ لبلده إدانة من مجلس الأمن لقصف إسرائيل لحمام الشطّ. والسبسي هو أب قانون حول المساواة في الميراث لا يزال محلّ جدل، وهو السياسيّ دائم التأثيث لخطاباته بآيات القرآن الكريم ودرر الشعر العربيّ..

كأنّ الغنّوشي لا يودّع صديقه الرئيس إلا بقدر ما يودّع معه الزّعامة الكائنة والممكنة كما أراد الدّستور من قبل أن يحدّها حدًّا من مُنطلق تأمين الديمقراطيّة

هل لامس السبسي في مسيرته السياسيّة القريبة البعيدة ذلك التعريف غير المثاليّ من زاوية ديمقراطيّة لمَلكات رجل الدّولة كما يبدو أنّ بورقيبة قد لامسه من قبل؟ يبقى ذلك سؤالًا مفتوحًا ومحرجًا شديد الإحراج على من يعتقدون في ديمقراطيّة لا سقف فوقها. وهو ليس سؤالًا عن الشخص أو حوله، وإنّما عن عاطفة وموقف شعبيّين نرصدهما قبل وفاة السبسي وبعدها، فحواهما شكّ في مغزى الديمقراطيّة وجدارتها دون سقف يتجاوز "حدود ما هو عقلانيّ " إن نحن استعرنا ما جاء في تدوينة السيّد محمّد عبّو في تأبين السبسي. هل يكون ذلك السقف شخصًا زعيمًا أم غير ذلك، هذا أيضًا سؤال آخر..

في الأيّام التي تلت تشييع الرّاحل الشيخ السبسي، أطلّ صديقه الشّيخ الغنّوشي ليعلن ترشّحه نائبًا في البرلمان وهو ما يُتوقّع أن ينتهي بتولّيه لرئاسة مجلس نواب الشّعب، وجاء في تصريحه ما يُفهم بناء لسرديّة جديدة حول النّظام السياسيّ باعتباره برلمانيًّا أولًا ورئاسيًّا ثانيًا، وهو ما يستوجب أن "ينزل كبار الحومة" للمعترك البرلماني.. وكأنّ الغنّوشي لا يودّع صديقه الرئيس إلا بقدر ما يودّع معه الزّعامة الكائنة والممكنة كما أراد الدّستور من قبل أن يحدّها حدًّا من مُنطلق تأمين الديمقراطيّة.

هل تكفي الديمقراطيّة المؤسّساتيّة لتلبية ما يبدو أنّها حاجة جماعيّة ملحّة لسقف يتجاوز "حدود ما هو عقلانيّ"؟ وحده الزمن كفيل بتقديم الإجابة الشافية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ألا يشعر حكامنا بالغيرة؟

"خوانجي".. تهمة في مهبّ المزايدات الانتخابيّة