11-يوليو-2019

بات لفظ "خوانجي" توصيفًا يثير الدهشة والسخط والسخرية أحيانًا (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

لم تعد كلمة "خوانجي" مجرّد نعت يطلق على المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب التي تحاكيها خطابًا وفكرًا وتنظيمًا، إنّما تحوّلت إلى تهمة وشتيمة تطال العديد من الأفراد والجماعات بأسلوب يفتقر في الغالب إلى الدقّة. إذ فقدَ مصطلح "خوانجي" وظيفة التحديد والإيضاح والتفسير، فبات فضفاضًا موغلًا في الاشتباه والالتباس، وأضاعت هذه الصفة ثوابتها التاريخيّة والمرجعيّة والوصفيّة والعلميّة، فشحنت بمعان وإيحاءات متجدّدة ومتغيّرة تغيّر السياقات والمقامات والاستعمالات والتوظيفات.

هذا الشحن الدلالي بلغ ذروته في تونس بعد الثورة حتّى أصابت كلمة "خوانجي" حالة من التعميم المُعمي والتمييع الذي يفرغ المفردة من جوهرها ويفقدها مفهمومها الأصليّ، فقد كانت في العهد البورقيبيّ تطلق في تونس على المنتمين إلى حركة النهضة والتّيّارات السلفيّة، غير أنّ دائرتها اتّسعت في حكم بن علي خاصّة في فترة "تجفيف المنابع" لتطال أو تكاد كلّ المتديّنين ما عدا المنتمين إلى الحزب الحاكم.

لم تعد كلمة "خوانجي" مجرّد نعت يطلق على المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب التي تحاكيها خطابًا وفكرًا وتنظيمًا، إنّما تحوّلت إلى تهمة وشتيمة تطال العديد من الأفراد والجماعات

خلال السنوات الأخيرة، أفلتت كلمة "خوانجي" نهائيًا من قيود الضبط المعنويّ والتحديد الدلالي، فأصبح بعض المحلّلين والمدوّنين وعدد من السياسيين والإعلاميين وكثير من العامّة يلقون هذه الكلمة على نحو عشوائيّ عند كلّ معركة سجاليّة ذات أبعاد دينيّة أو حزبيّة أو أمنيّة أو انتخابيّة.

والرأي عندي أنّ المسألة لا ترجع فقط إلى تلك المعارك، إنّما تعود إلى ضعف وعينا، شأننا شأن جلّ الشعوب الثرثارة الكَلومة، بخطر استعمال اللغة والمفردات والتشبيهات سواء كانت أخلاقيّة أو سياسيّة أو جماليّة أو غيرها، ذلك أنّ الخطأ في التوصيف والتكنية مقصودًا كان أو عفويًا من شأنه أن يساهم  في زعزعة هويّة بعض الأشخاص "المنعوتين" والتأثير في منزلتهم بين الناس وتوجيه أشكال التواصل معهم.

الحزام الناسف والتهمة الناسفة

من أخطر الأسلحة التي يعتمدها الإرهابيّون التفجير والعمليّات الانتحاريّة والأحزمة الناسفة، وقد اكتوت جلّ الدول العربيّة والغربيّة بهذا الضرب من الإجرام المدمّر المرعب، لذلك تحوّلت الحرب على الإرهاب إلى معركة كونيّة، بل أصبحت البرنامج الانتخابيّ الذي لا غنى عنه للسياسيّ الذي يروم النجاح في أيّ محطّة انتخابيّة.

يعدّ العمل الإرهابيّ الجريمة الأخطر قياسًا إلى القتل والاغتصاب والتعذيب وغيرها من الجنايات التي تطال الأفراد والمجموعات، لذلك تحرص جلّ الدول على التصدّي له بتشريعات صارمة استثنائيّة ومعالجات أمنيّة حازمة.

هذه الخطورة الفائقة أباحت توسيع دوائع المتابعة والمراقبة والاتهام لتشمل المتعاطفين مع الإرهابيين والمتسامحين معهم وكلّ من تشدّه إليهم صلة رحم دمويّة أو فكريّة أومذهبيّة أو سلوكيّة. ولأنّ الإرهاب قد اقترن نمطيًا بالتشدّد الدينيّ، فقد ظلّ "الخوانجيّة" والإسلاميّون عامّة والمنتمون إلى حركة النهضة خاصّة موضوع اتّهام دائم متواتر منذ عقود، فرغم ما أظهره هذا الحزب من تنازلات وما كشف عنه من مراجعات ورغم مشاركته في الحكم منذ 2011، لم تكفّ فئة من خصومهم عن نبزه واتّهامه عند كلّ عمليّة إرهابيّة وقصفه بألوان من التأثيم والإدانة الصريحة والضمنيّة.

رغم ما أظهره حزب النهضة من تنازلات وما كشف عنه من مراجعات ورغم مشاركته في الحكم منذ 2011، لم تكفّ فئة من خصومهم عن نبزه واتّهامه عند كلّ عمليّة إرهابيّة وقصفه بألوان من التأثيم والإدانة

اقرأ/ي أيضًا: عفوًا انتهى رصيدكم النضاليّ

فـ"الخوانجيّة" بالنسبة إلى مناوئيهم الحاضنة الحزبيّة والفكريّة والتنظيميّة للمتشدّدين، وكلّما كانت الضربات الإجرامية دمويّة موجعة أباح غرماء الإسلاميين لأنفسهم مجالًا أوسع للدعوة إلى إقصائهم والتضييق عليهم.

هذه الوضعيّة المتكرّرة منذ أحداث باب سويقة في 17 فيفري/ شباط 1991، من شأنها أن تورث في المتديّنين شعورًا بالضيق والاختناق والتوجّس الدّائم من المداهمة والإيقاف والسجن والمطاردة ، فيغدو الانتماء إلى هذه الفئة تهمة معطلة لكلّ أمل في الانتظام السياسيّ أو المدني أو الفكريّ بل تتحوّل إلى ادّعاء من شأنه أن يحدّ من سبل التفاعل الإيجابيّ مع الآخر اجتماعيًا وعاطفيًا ومهنيًا. وبهذا صارت كلمة "خوانجي" تهمة ناسفة تهدّد وجود صاحبها ومستقبله وتوازنه النفسيّ والذهني والسلوكيّ ممّا يوقعه في الخوف العُصابيّ أي الخوف المرضي المزمن الذي تشتدّ أعراضه كلما وقعت حادثة إرهابيّة.    

الخوانجي المتشظّي

لمّا أصبح مفهوم "خوانجي" مفتقرًا إلى الصرامة المعجميّة والاصطلاحيّة باتت الصفة المتّصلة به مَثلها كمثل الشظايا المتناثرة عند كلّ انفجار، فإذا بها كالموت تخبط خبط عشواء، فتصيب المتديّنين، وتطال الحقوقيين و المفكّرين واليساريين وبعض الإعلاميين والمدوّنين ولم يسلم منها العديد من الفنّانين والرياضيين. ويكفي أن يدلي الواحد من هؤلاء برأي يتماثل فيه مع الإسلاميين حتّى يوسم بكونه "خوانجيًا"، ولم يكن تنسيب المواقف وتليينُها بمراهمِ الاسترداك والاستثناء ليغفر لأصحابها شبهة "التخونيج".

الثابت أنّ النظام القديم من رأسه إلى سائر مكوّناته وأعضائه كان منخرطًا في هذا الخطاب التصنيفي بوصم المعارضين غالبًا بأنهم "خوانجية"

لا يمكن تحديد المصادر التي تتزعّم البحث في الجينات الحزبيّة والإيديولوجيّة، ويصعب حصر الأطراف المكلفة بإصدار هذه الأحكام ذات الطابع الاستخباراتي، لكنّ الثابت أنّ النظام القديم من رأسه إلى سائر مكوّناته وأعضائه كان منخرطًا في هذا الخطاب التصنيفي.

 في هذا السياق يقول محمّد كريشان، الصحفي التونسيّ، في شهادة بدت أقرب إلى السّيرة الذاتيّة نشرها بجريدة "القدس العربي" في جانفي/يناير 2015: "حدّثني ديبلوماسيّ عربيّ صديق عائد من تونس عن جلسة جمعته هناك بوزير تونسيّ قال له: "إنّ كريشان خوانجي يسعى لتشويه النظام خدمة لجماعته في المعارضة"، فأجابه الديبلوماسيّ معترضًا مصحّحًا: " لكنّ كريشان ليس إخوانيًا، أنا أعرفه منذ أكثر من عشرين عامًا، قُل فيه ما تشاء، ولكنّه بالتأكيد ليس كذلك" فأصرّ الوزير على موقفه التقييميّ قائلًا: " لا لا هو إخوانيّ، نحن متأكّدون تمامًا من ذلك وحتّى السيّد الرئيس شخصياً مقتنع تمامًا بهذا".

الهمّامي والانتخابات ومواسم المغالطات

السقطات والتناقضات التي وقع فيها نظام بن علي وأبواقه في توجيه تهمة "خوانجي" إلى الخصوم يمكن استساغتها نسبيًا، فثمّة حدّ أدنى من التناسب في المثال المذكور، كأن يتمّ التعلّل على سبيل التّعسف التأويلي بانتماء محمّد كريشان مهنيًا إلى قناة "الجزيرة" التي بدت قبل الثورة وبعدها منبرًا متميّزًا للإسلاميين. وقد كان بن علي آخر أيّامه في قرطاج حريصًا على حماية هذه التهمة من الانفلات حتّى تظلّ فاعلة، فلا تفقد ملمحها الموضوعيّ، لذلك رفض مقترحًا دعاه فيه بعض المستشارين إلى اتّهام المنتفضين في سيدي بوزيد والقصرين بـ"الخوانجيّة" والإرهابيين، فالملمح الاجتماعيّ التحرّري للتحركات الاحتجاجيّة آنذاك كان واضحا بيّنا يعزّ إخفاؤه أو تشويهه.

بعد الثورة، فقدت شبهة "خوانجي" عناصرها الجوهريّة كالتديّن والتعاطف مع الإسلاميين والتطلّع إلى تطبيق الشريعة، فأصبحت تلقى على عواهنها، وباتت في الغالب سطحيّة مفتقرة إلى الوجاهة والمصداقيّة. وفي هذا المقام يمكن أن نسوق ثلاثة أمثلة مدهشة كشفت عن التناقض الصارخ المفضوح بين الصفة والموصوف.

أمّا المثال الأوّل فمداره على نعت الناشط السياسي عمر صحابو بكونه خوانجيًا، وقد كان ذلك سنة 2014 بمجرد اعتراضه على ترشّح الباجي قائد السبسي للرئاسة، وقد اعتبرته صفحات مقربة من نداء تونس خطّ الدفاع الأوّل لحركة النهضة، وكذّبت انتماءه إلى الدساترة.

نُعت المناضل اليساري والحقوقي العياشي الهمامي بأنه "خوانجي" لتشويهه وتقليص حظوظه في الصعود إلى تركيبة المحكمة الدستورية

اقرأ/ي أيضًا: بنت "السبعطاش" أصابتها حجرة سقراط

المثال الثاني يرتبط بسمير الوافي الإعلامي والمنشّط التلفزي، فقد وجهت له نفس التهمة، فتصدّى لها قائلًا في إحدى تدويناته في أكتوبر/تشرين الأول 2014: "  كل من ينقد السبسي، وينال من ذاته المقدسة التي تفرضها علينا بعض حاشيته المتمعشة والمتمسحة والمتذللة له… توجه نحوه تهمة جاهزة وركيكة وسخيفة هي أنه خوانجي ونهضاوي ويعمل لحساب الاسلاميين…كأنه ليس في تونس خيارات أخرى عدى هذين الحزبين المتغولين والمغرورين".

المثال الثالث يتّصل بالعيّاشي الهمّامي المناضل اليساريّ الذي نُعت في جويلية/ تمّوز 2019 بـ"الخوانجي"، وقد اعتبرت عدّة منظّمات وجمعيّات وطنيّة هذا التوصيف إضافة إلى بعض الحملات الأخرى الموجّهة ضدّه ضربًا من الكذب والتشويه سعيًا إلى تقليص حظوظ مناضل حقوقيّ معروف في الصعود إلى تركيبة المحكمة الدستوريّة.

يتّضح من خلال هذه العيّنات أنّ حمّى الاتهامات تشتدّ عند كلّ انتخابات، وتتّخذ في الغالب أسلوب الإيهام والمغالطة، فمطلقوها يعلمون علم اليقين أنّ ما يبوحون به أبعد ما يكون عن الصواب، غير أنّهم لا يستبعدون أن تُؤتيَ بعض الإشاعات أكلها، فيصدّقها البسطاء والسذّج وعامّة المتابعين للشأن السياسي.

بعض من الهذيان ...الطبوبي مرشّح النهضة

تأكيدًا للصلة الوثيقة بين مواسم الانتخابات واتّساع رقعة المغالطات يمكن التذكير بإحدى الاّتهامات التي طالت الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي، فقد عدّه عدد قليل من خصومه حسب بعض التسريبات مرشّح حركة النهضة، فتمّ الإيهام بأنّ أكبر منظمة عمّاليّة باتت مهدّدة بـ"الأخونة"، وذلك بمناسبة المؤتمر الثالث والعشرين في جانفي/ يناير 2017، وكان الطبوبي قد ترأس آنذاك قائمة "الوحدة النقابيّة".

هذا الاتهام الذي التقطته إحدى وسائل الإعلام الأجنبيّة، فنشرته، وتساءلت عن مدى صحّته لم يكن مجرّد مغالطة، إنّما كان بمثابة الهذيان. فهل ثمّة عاقل يمكن أن يصدّق أنّ الطبوبي "خوانجي" أو "تخونج"، وهو الذي ترأس منذ سنة 1990 النقابة الأساسيّة لشركة اللحوم بالورديّة، ثمّ تدرّج في سلّم المسؤوليّات النقابيّة إلى أن أصبح سنة 2009 كاتبًا عامًا للاتحاد الجهوي بتونس ثمّ عضو المكتب التنفيذي سنة 2011 قبل أن يتوج بمنصب الأمين العام للاتحاد خلفًا لحسين العباسي. هذه المسؤوليّات النقابيّة العليا كانت وما تزال منذ عقود حكرًا على اليساريين، فاتهامه بكونه "خوانجيًا" يفتقر إلى أوكد شرط من شروط المنطق كما أسس له أرسطو، وهو شرط عدم التناقض، لكن يجوز قبول هذه الخرافات في إطار كوميديّ أو سرياليّ يبيح سائر أشكال الفوضى والمبالغة والغلو.

يتّضح أنّ تهمة "خوانجي" قد تحوّلت عند العديد من المتابعين من تهمة تُحدث الفزع في النفوس إلى توصيف يثير الدهشة والسخط والسخرية خاصّة إذا قام على التناقض والتعسّف والتهافت

في هذا المعنى، يقول أحمد الغيلوفي أستاذ الفلسفة بأسلوب ساخر في فقرة من إحدى تدويناته على موقع فيسبوك: "كيف تكون خوانجيًا على المذاهب الأربعة؟... هناك وباء اجتاحهم ولا دواء له، أنت تُشكك في الأكاذيب إذًا أنت خوانجي، أنت تنقد الاتحاد إذًا تريد تدمير الخيمة وما تكون كان خوانجي، أنت مع الثورة إذًا مع قطر وتركيا إذًا خوانجي، أنت ضد الروز بالفاكية إذًا خوانجي، ترى أن المرزوقي أفضل بكثير من الباجي إذا خوانجي... ماذا نفعل مع هؤلاء المرضى؟ لم يستطيعوا استيعاب المناخ الجديد، ولم يتخلصوا من معادلة بن علي "ماكش معايا إذا أنت مع الآخرين".

هكذا يتّضح أنّ تهمة "خوانجي" قد تحوّلت عند العديد من المتابعين من تهمة تُحدث الفزع في النفوس إلى توصيف يثير الدهشة والسخط والسخرية خاصّة إذا قام على التناقض والتعسّف والتهافت.

في النهاية يحقّ لنا نقد الإسلاميين وفضح بعض أطروحاتهم كما يجوز التصدّي لمختلف أشكال التوظيف السياسي للدين، ومن واجبنا اليقظة تجاه كلّ وجوه التشدّد المفضي إلى الإرهاب، لكن لا يليق بنا بأي حال من الأحوال المتاجرة بتهمة "خوانجي" واعتمادها أحيانًا سلاحًا لإرباك من ينزع نزعة عقليّة علميّة موضوعيّة تنسيبيّة في تقييم الشأن السياسي أو الأمني أو الحقوقي أو النقابي أو الأخلاقي أو الذوقي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صهوة بورقيبة في المزاد الانتخابي..

عيش تونسي.. عنوان جديد للتحيّل السياسي