27-يوليو-2019

توفّق إلى درب التوافق الذي جنب تونس مآلات خطيرة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

لم يكن يوم احتفال تونس بالذكرى 62 لانبعاث الجمهورية في 25 جويلية/يويو 2019 يومًا عاديًا، إذ فقدنا أحد مؤسسي هذه الجمهورية وبناتها رئيس الجمهورية محمد الباجي قائد السبسي، وهو آخر مناضل من صفوف الحركة الوطنية التونسية ومعارك التحرير ضد الاستعمار الفرنسي ممن ظلّ ينشط في الحياة السياسية إلى آخر يوم في حياته.

وهو أول رئيس تونسي منتخب انتخابًا حرًا ومباشرًا من الشعب بطريقة تنافسية وديمقراطية لم يشهد لها الوطن العربي مثيلًا من قبل ليجسّر بذلك هوة كبيرة بين الجمهوريتين.

الراحل محمد الباجي قائد السبسي عارض الزعيم الحبيب بورقيبة إبان الجمهورية الأولى وانشق عنه ليسهم في تأسيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين من أجل إرساء مناخ من الحرية والديمقراطية، مناخ كان يرى بورقيبة أنه لم يحن وقته بعد وأن على التونسيين الانشغال ببناء أركان الدولة المدنية الفتية.

لكن وبعيدًا عن منطقية اللغة والتاريخ، تشاء الأقدار أن يسهم الرئيس الراحل السبسي في بناء السارية الأولى في الجمهورية الثانية في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي انطلقت في تونس منذ ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 14 جانفي/كانون الثاني.

رئيس الجمهورية محمد الباجي قائد السبسي هو آخر مناضل من صفوف الحركة الوطنية التونسية ومعارك التحرير ضد الاستعمار الفرنسي ممن ظلّ ينشط في الحياة السياسية إلى آخر يوم في حياته

 وشاءت الأقدار أن يحقق السبسي حلمه ومشروعه القديم الذي يبدو أن ناره لم تخب يومًا بل هو حلم جيل من السياسيين التونسيين الوطنيين اللأحرار الذين لم ينصفهم التاريخ وكانت نهايتهم السياسية تراجيدية على أسوار الجمهورية الاولى، وقد منحت سرديات الثورة هذا الجيل المتشبع بقيم الدولة نياشين ردّ الاعتبار تحت سماء الحرية.

دخل الراحل محمد الباجي قائد السبسي قصر بقرطاج عام 2014 وجلس على نفس كرسي المكتب الرئاسي الذي أدار منه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة شؤون حكم دولة الاستقلال لقرابة الثلاثة عقود من الزمن، وقد استبد به مجدداً شعار بورقيبة الذي يرفعه ويردده أمامه دومًا وهو "أن تكون سياسيًا ناجحًا يعني أن تعيش لغيرك". وهو شعار مأخوذ من قولة "عش لغيرك" للفيلسوف الفرنسي أوغست كونت والمنقوشة أسفل تمثاله بباريس.

اقرأ/ي أيضًا: عن رحيل السبسي.. موت الاستفتاء واستفتاء الموت

وقد أثار وقتها سنّ الرئيس الجديد جدلًا سياسيًا في فترة ترشحه للانتخابات الرئاسية لكن لم تكن سنّه عائقًا أمام الدافعية السياسية التي تسكنه من الداخل والتي رفعت الشعار البورقيبي "عش لغيرك"، وهو ما تجلّى ذلك في شجاعته النادرة في التخفيف من القطائع التي أصابت الوطن. فتوفق إلى درب التوافق الذي جنب تونس مآلات خطيرة كادت تنجرف إليها، وأعاد للتونسيين رشدهم ورشّد ثورتهم التي كادت في لحظة ما أن تلتهم الدولة بل الثورة نفسها.

وكان يجلس مع قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعتبره شريكًا اجتماعيًا لا يمكن تغييبه في أخذ القرارات المصيرية التي تهم الوطن. كما سعى الرئيس الباجي مستثمرًا رصيده وحنكته الدبلوماسية إلى رسم سياسة خارجية تونسية تليق بالجمهورية الثانية أساسها السيادة الوطنية وحماية مصالح تونس والتحالف مع الأقوياء، وقوام ذلك هو الحياد التام وعدم الانخراط في المحاور السياسية الاقليمية أو الدولية.

توفّق إلى درب التوافق الذي جنب تونس مآلات خطيرة كادت تنجرف إليها، وأعاد للتونسيين رشدهم ورشّد ثورتهم التي كادت في لحظة ما أن تلتهم الدولة بل الثورة نفسها

كما تميّز أسلوب حكمه بتلك الأبوية التي تشبه ما كان رائجًا في القرن العشرين إبان موجات استقلال الشعوب عن الاستعمار. فالرئيس التونسي الراحل كان قريبًا من قلوب عامة الناس بمختلف فئاتهم وشرائحهم، وهو تقريبًا نفس أسلوب بورقيبة عدا "هووية" الزعامة التي أدت الى الحكم مدى الحياة، وقد أدار الباجي هذه الأبوية بأدوات جديدة وفي سياق سياسي ديمقراطي.

ومن سمات شخصية الباجي قائد السبسي التي ساعدته على الحضور السياسي الطاغي هي ثقافته الواسعة في الأدب والتاريخ والدين والفلسفة والفنون والقانون، فهو سريع البديهة في استحضار الآيات القرآنية والأبيات الشعرية والفصول القانونية والمواقف من السير والتاريخ.

إن الرئيس الراحل محمد الباجي قائد السبسي ميله إلى الدولة دون سواها، وهو الذي تشبع بقيمها دارسًا للقانون بجامعة السربون وممارسًا للحكم لمدة تقارب النصف قرن من الزمن، لا تشوبه شائبة، وهو الذي عُرف أيضًا بدفاعه باستماتة عن الشعب التونسي بمختلف أطيافه وحساسياته وجهاته. وكل ذلك يجعل من صورته بالضرورة محرارًا ومقياسًا من قبل عامة الناس الذين سيذهبون لاختيار رئيس جديد في انتخابات رئاسية سابقة لأوانها يوم 15 سبتمبر/أيلول المقبل، وبالتالي سيجد المترشحين لهذا الموعد أمامهم "عتبة باجية" في رمزية صعبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا كتب الرئيس الراحل عن نفسه وعن عائلته في مذكراته؟

الباجي قائد السبسي: مسيرة أول رئيس منتخب ديمقراطيًا في تونس