27-يوليو-2019

كان السبسي أحد السياسيين الحريصين على المصالحة والتوافق (أمين الأندلسي/وكالة الأناضول)

 

مقال رأي

 

مثابرات واجتهادات ومغامرات وانتصارات، هذه بعض المناقب السياسيّة التي يمكن أن يوصف بها محمّد الباجي قائد السّبسي رئيس الجمهوريّة التونسيّة الذي وافته المنيّة يوم 25 جويليّة/يوليو 2019، وقد أجمع جلّ التونسيين على تعديد خصال هذا الرجل وذكر محامده في مقام التأبين أو الإعجاب أو الاعتراف بالجميل، أو من باب الاحتكام إلى قاعدة "اذكروا موتاكم بخير".

كلّ تلك المواقف التمجيديّة بصرف النظر عن دوافعها ومفرداتها تعدّ لائقة مقبولة في هذا المقام الجليل، بل هي في ظنيّ نبيلة محمودة خاصّة حينما تصدر عن خصوم السّبسي ومناوئيه، فتلك آية على أنّ الديمقراطيّة في تونس قد أثمرت منافسات وخلافات مباحة بين الأحزاب والفرقاء، لكنّها في نفس الوقت بدأت تشقّ طريقها شيًئا فشيئًا نحو الإعراض عن نزعات الثأر والإقصاء والتّشفي.

مثابرات واجتهادات ومغامرات وانتصارات، هذه بعض المناقب السياسيّة التي يمكن أن يوصف بها محمّد الباجي قائد السّبسي

ومن العبارات التي تقوم شاهدًا على هذا التحوّل، قول الرئيس السابق المنصف المرزوقي في حسابه الخاصّ بموقع التواصل الاجتماعيّ فيسبوك ناعيًا غريمه السياسيّ: "أصدق التعازي لعائلته وأصدقائه وللشعب التونسي الذي فقد اليوم رئيسه، ثمة لحظات في حياة الأفراد والشعوب يجب فيها أن نرتقي بأنفسنا إلى مستوى أعلى ممّا اعتدنا عليه في سائر الأيّام، وفي هذه الظروف الدقيقة في حياة شعبنا المطلوب منا جميعًا التهيّب أمام مشيئة الله وتناسي كل ما يفرقنا، فالموت يلغي كل الخصومات".

محنة اليوم الأخير

مسيرة السّبسي مجيدة ونهايته بطوليّة، غير أنّ تجاربه الشخصيّة والسياسيّة لم تخل من محن ظلّت ترافقه في مشهد ملحميّ إلى آخر أيّامه إنّها محنة  "اليوم الأخير" على حدّ تعبير ميخائيل نعيمة. ومن أخطر أنواع المحن وأشدّها جسامة وقوع المرء في حرج الاختيار، تنطبق هذه المعادلة على سائر المجالات العاطفيّة والاجتماعيّة والعسكريّة والسياسيّة، ويعظم هذا الحرج كلّما عظمت المسؤوليّة، فخطأ المواطن البسيط  في الترجيح والاصطفاء مخلّفاته محدودة يمكن أن تُعالج وتُجبر أمّا خطأ القائد فقد لا تبقي ولا تذر.

في هذا السياق/ يتنزّل الحرج الذي واجهه السّبسي آخر أيام حياته لمّا دُعِي إلى ختم القانون الأساسيّ المتّصل بإتمام وتنقيح قانون الانتخابات الذي صادق عليه مجلس النّواب يوم الثلاثاء 18 جوان/يونيو 2019.

مسيرة السّبسي مجيدة ونهايته بطوليّة، غير أنّ تجاربه الشخصيّة والسياسيّة لم تخل من محن ظلّت ترافقه في مشهد ملحميّ إلى آخر أيّامه إنّها محنة  "اليوم الأخير" على حدّ تعبير ميخائيل نعيمة

تحوّل هذا الحرج إلى محنة حينما تضافرت ثلاثة عناصر تقضّ المضجع، هي ضيق الوقت ووهن الجسد وصعوبة الموقف، فقد كان السبسي مطالبًا بدراسة القانون الصادر عن السلطة التشريعيّة وختمه ونشره في أجل مضبوط، وكلّما اقتربت ساعة الحسم زاد التوتّر الحزبيّ، وتزاحمت الأسئلة وتدافعت الفرضيّات، فغدت أيام الآجال الدستورية في سرعة انقضائها كالساعات، وتزامن ذلك مع الوعكة الصحيّة الخطيرة لرئيس الجمهوريّة وإقامته بالمستشفى العسكريّ خمسة ليال (من 27 جوان/يونيو إلى 1 جويلية/ يوليو 2019).

اقرأ/ي أيضًا: ماذا كتب الرئيس الراحل عن نفسه وعن عائلته في مذكراته؟

 اقتربت ساعة الفصل أي يوم 19 جويلية/يوليو، ولم يتّخذ الرئيس أيّ إجراء، لا نستطيع أن نجزم إن كان قد رفض التوقيع أو غلبه التردّد أو منعه المرض، أو عطّلته أطراف أخرى عن أداء واجبه، ذلك أنّ تصريح نور الدين بن تيشة المستشار الأوّل لدى رئيس الجمهوريّة قد تمّ تكذيبه والتشكيك في مصداقيّته، فقد أعلن أنّ الباجي لم يختم القانون المثير للجدل، وعلّل ذلك بأنّ الرئيس يرفض أن يمضي على تعديلات قُدّت على المقاس لجهات معيّنة.

ما  يمكن التّحقّق منه أنّ الموقف كان في غاية الدقّة، المتحزّبون فقط كانوا مطمئنّين منجرفين نحو هذا التأويل أو ذاك، فِعلا لقد بدا تنقيح قانون الانتخابات محرجًا متشابهًا حمّال أوجه يدفع إلى الحيرة والتردّد. ولقد خاض المختصون في جميع نقاطه وملابساته وسياقات طرحه، فانتهى بعضهم إلى أنّه إقصائيّ، وانتهت فئة أخرى إلى وجاهته في حماية الناخب والمسار الديمقراطيّ من المتحيّلين ومن أعداء التداول السلميّ على الحكم، لا نستبعد في هذا السياق أن يكون هذا الحرج التشريعيّ قد ساهم في مزيد تعكير الحالة الصحيّة للرئيس "فالتردّد إذا طال كان مضيعة للوقت وغُلّا للإرادة وسقما للروح والجسد".

الرّئيس الأبديّ

كان السبسي أحد السياسيين الحريصين على المصالحة والتوافق إلى درجة مخيّبة للتّوقّعات أحيانًا، لم يكن ميّالًا إلى اللغة القطعيّة الحادّة، فالقراءة الأسلوبيّة لخطاباته تكشف بأنّها حافلة بالتّنسيب والاستدراك. لعلّ هذه البنية الذهنيّة التي ليّنتها التجارب وعدّلتها المحن هي التي جعلت الرجل يحسم في دعوة الناخبين إلى التّصويت في الانتخابات التشريعيّة المزمع إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019، وكذا الانتخابات الرئاسية التي دفعت وفاته الآن في تقديم موعدها، وذلك لأنّ الأمر بيِّن محكم لا يحتمل مزيد النظر والتقليب.

في المقابل، دفعت التنقيحات المذكورة نفس الرجل إلى التردّد في المصادقة عليها والحسم فيها، لأنّ المسألة تقتضي مزيد النظر والتقليب رغم علويّة مصدرها، بل إنّ ما حصل للباجي أيّامًا قليلة قبل وفاته بدا أشبه بحالة تأمّل تفضي إلى ما يسميه بعض الفلاسفة تعليق الحكم (suspension du jugement) " وهو العدول عن الحكم بالإيجاب أو السلب والامتناع عن كلّ جدل وملازمة الصّمت مادام اليقين ميؤوسًا منه في التحقّق من رجاحة هذا الموقف أو ذاك" ( جلال الدين سعيد، المعجم الفلسفيّ، الجزء الأوّل، ص115، دار الجنوب للنشر، تونس).

كان السبسي أحد السياسيين الحريصين على المصالحة والتوافق إلى درجة مخيّبة للتّوقّعات أحيانًا، لم يكن ميّالًا إلى اللغة القطعيّة الحادّة، فالقراءة الأسلوبيّة لخطاباته تكشف بأنّها حافلة بالتّنسيب والاستدراك

في خضمّ هذا المشهد المثير للحيرة، تعالت أصوات تحرّض الرئيس على رفع سلاح الاستفتاء، وهي خطوة تبدو خطيرة، لأنها تعلن عن التباين الشديد بين السلطة التشريعيّة ورأس من رأسي السلطة التنفيذيّة، وتؤكّد تصدّع العلاقة بين السبسي من جهة والنهضة والشاهد من جهة أخرى، لكنّ هذه المبادرة التي كانت مستبعدة لم يكتب لها التحقّق بموت السبسي، ذلك أنّ محمّد الناصر القائم بمهامّ رئيس الجمهوريّة سلطته محدودة، إذ لا يحقّ له اللجوء إلى الاستفتاء، فماتت خطّة التعويل على الاستفتاء بموت السبسي، لكن حلّ محلّها استفتاء حول السبسي نفسه، إنّه استفتاء الموت.

راودت السبسي نيّة الترشّح لمدّة رئاسيّة ثانية، لكنه عدل عن هذه الرغبة، وأعلن عن ذلك يوم 6 أفريل/ نيسان 2019 بمناسبة افتتاح المؤتمر الانتخابيّ لحركة نداء تونس بالمنستير. وحينما اقترب موعد الانتخابات الرئاسيّة، وبدأ تسجيل المترشّحين توفّاه الأجل، فتحوّل موته إلى ضرب من الاستفتاء على منزلته في نفوس التونسيين، لقد أنصفته المنيّة، فحوّلته إلى أيقونة سياسيّة ورمزًا للجمهوريّة والمدنيّة، فشهدت دموع النّساء والصبايا أنّ "البجبوج" حبيبهنّ وأنيسهنّ، وأبانت صدمة الفتيان والكهول أنّ الباجي إمامهم وقدوتهم، وأفصحت بيانات الأحزاب أنّ السبسي جامعهم والمؤلّف بين قلوبهم، وأظهرت مواقف الرؤساء والملوك أنّ هذا الزعيم منزلته رفيعة شامخة بينهم.

هكذا أعلن الباجي قبل نهاية مدّته الرئاسيّة عدم ترشّحه لدورة ثانية، وكان منذ حوالي نصف قرن قد رفض التعديل التي تمّ إدخاله على  دستور 1959 القاضي بتمكين بورقيبة من الرئاسة مدى الحياة، (ديسمبر/ كانون الأوّل 1974)، ، فكانت النتيجة عند مماته بلوغه مرتبة أعلى من الرئاسة مدى الحياة، إنّها محلّ الرئاسة الأبديّة المشيّد في نفوس التونسيين وأذهانهم وذاكرتهم، رحم الله محمّد الباجي قائد السبسي، لقد خبر الحياة فأهدانا من تجربته بعضًا من سبل التّفوّق والنجاة.   

 

اقرأ/ي أيضًا:

الباجي قائد السبسي: مسيرة أول رئيس منتخب ديمقراطيًا في تونس

صهوة بورقيبة في المزاد الانتخابي..