28-أكتوبر-2020

"ألم تعرِّ كورونا فعلًا قبح الإنسان الكامن فينا؟" (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

مقال رأي

 

"العمى".. عالم من الخيال والفانتازيا، أتقن الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو حياكته ليقودنا إلى تجربة إنسانية قاسية ومفزعة، لا نستطيع ونحن نتصفح أحداثها التخلص من عالمها الدّيستوبي المرير.

وأنت تتابع تفاصيل الرواية بالكاد تستطيع التنفّس. تغوص  مع تفاصيلها ووجعها لتستبطن خبايا النّفس البشريّة فتقف متأملًا ذاتك. وإن لم تنتبك قشعريرة غريبة ولم يهزّ إنسانيتك عمق أحداثها ومرارتها فلم تلامس روحك عمق الرواية بعد.

تخيّلوا معي، في مدينة غامضة، لم يحدد الكاتب فيها لا الزمان ولا المكان ولا أسماء سكانها. يصاب عدد من الأشخاص بوباء العمى الأبيض فجأة. تنتقل العدوى من شخص إلى آخر حتى يتفشّى بين الناس ولا يبقى من مُبصر سوى زوجة الطبيب الوحيدة التي أبصرت كل المآسي والقيم الإنسانية المنهارة. تعجز الدولة عن احتواء المصابين فتضعهم في مشفى مهجور للأمراض العقلية، تنعدم فيه كل مرافق الحياة الصحية وبالكاد يسعهم جميعًا، ثم تفرض عليهم الحجر الصحي.

تظل الدولة تتقاعس في أداء واجباتها حتى تسود الفوضى ويتغوّل الإنسان ويختل النظام الاجتماعي. تنعدم المبادئ الإنسانيّة والأخلاقية ويتجرد الكل من إنسانيته إلا البعض. تعمّ الفوضى ويستحوذ القوي على الضعيف.

تظل الدولة تتقاعس في أداء واجباتها حتى تسود الفوضى ويتغوّل الإنسان ويختل النظام الاجتماعي. تنعدم المبادئ الإنسانيّة والأخلاقية ويتجرد الكل من إنسانيته إلا البعض. يكثر عدد العميان يومًا بعد يوم. تعمّ الفوضى وتنتشر رائحة الأوساخ والجثث النتنة في كل مكان. يستحوذ القوي على الضعيف وتطغى سلطة المال والسلاح. ولضمان العيش والبقاء تحلّ المقايضة بالمال وأجساد النساء فيتعرّى الإنسان حينها من وضاعته وتوحشه الذي يظهر في الأزمات. ولكم أن تتخيّلوا قبح ذلك...

كل هذه الأحداث تبدو مجرد فانتازيا صاغها خيال ساراماغو. لنعد إلى واقعنا الآن. وإن اختلف المكان والزّمان والأشخاص وبعض التفاصيل والأحداث، ألا يبدو أنّ ساراماغو قد استبق الزمان والمكان وحاكى جزءًا من واقعنا؟ أيبدو واقعنا اليوم أقل بذاءة ومرارة من أحداث الرواية؟

اقرأ/ي أيضًا: مدارس سوسة تحت وطأة كورونا

ألم تعرِّ الكورونا فعلًا قبح الإنسان الكامن فينا؟ ألم نر منذ بداية الوباء الدول الكبرى تستقوي على الدول الضعيفة عندما ظهر للعيان عجزها عن التصدّي لهذا الفيروس؟ لا يهم. لنكن أكثر قربًا. لنلقي نظرة ثاقبة على واقعنا في تونس. ألم تعرّي الكورونا مساوئ الإنسان الكامن فينا منذ انتشارها؟

ألم تعرِّ الكورونا فعلًا قبح الإنسان الكامن فينا؟ ألم نر منذ بداية الوباء الدول الكبرى تستقوي على الدول الضعيفة عندما ظهر للعيان عجزها عن التصدّي لهذا الفيروس؟

ألم تلمحوا تدافع الناس في المحلاّت التجارية والمخابز والصيدليات وغيرها... عند فرض الحجر الصحي؟ ألم تشاهدوا على وجوههم الخوف والهلع وهم يكدّسون مؤونتهم ليضمنوا بقاءهم على هذه البسيطة غير آبهين بمن سيأتي بعدهم؟ ألم تلاحظوا تلك النزعة الذاتيّة والأنانيّة المفرطة التي أظهرت الجانب القبيح فينا وإن وُجد الخير داخل كلٍّ منا؟ ألم تشاهدوا كل ذلك؟ بلى. أنا شاهدت. وتلك صورة منّا أيضًا. لايمكن إنكارها.

ففي مقابل كلّ الأحداث والآلام النفسيّة التّي نعيشها كلّ يوم بسبب الوباء تكثر "البراكاجات'' والجرائم البشعة ومن المؤكد أنكم تذكرون جريمة ''رحمة'' التي شغلت الرأي العام التونسي منذ فترة، والتي هزّت كياننا من شدّة وجعها.

أمام ضعف التجهيزات الصحية وهذه الحرب النفسية يتجرّد البعض من آدميته ويحاول أن يستغل هذا الظرف الوبائي  ليحقّق أرباحًا ويتنعّم بأموال الفقراء مستغلين النقص في تحاليل كورونا وهذا الظرف الحرج. أصبحوا يُساومون على إنسانيتنا لنبقى على قيد الحياة وكأننا كنا أحياء ما قبل الوباء

حقوق بشرية أصبحت تُنتهك في وضح النهار جعلتنا نعيش دوامة من الرعب والهلع النفسي اليومي. طفولة بائسة تُحتضر في مجاري الصرف الصحي. تصنع الأخبار ضوضاء وضجة ثم تموت وتدفن كما دُفنت حقيقة الأبرياء والمستضعفين من قبلها دون أن تحظى بمتابعة أو حلول، ودون أن يتحرّك للسلطات ساكن. إصابات يوميّة تتسارع يوما بعد يوم دون وجود إجراءات فعليّة ناجعة لمجابهتها. أشخاص يموتون كلّ يوم أمام المستشفيات بسبب النّقائص الّتي تشهدها الهياكل الصحيّة. صور مُوجعة نشاهدها للمرضى في المراكز الصحية التي تغيب فيها أبسط الإجراءات الوقائية. بنية صحية مهترئة ونسق متسارع للمصابين. في المقابل تقف الدولة عاجزة أمام توغّل وانتشار هذا الفيروس الذي امتدّ على أوسع نطاق في كل الجهات.

وأمام ضعف التجهيزات الصحية وهذه الحرب النفسية يتجرّد البعض من آدميته ويحاول أن يستغل هذا الظرف الوبائي  ليحقّق أرباحًا خاصة ويتنعّم بأموال الفقراء والمستضعفين مستغلين النقص في تحاليل كورونا وهذا الظرف الحرج. أصبحوا يُساومون على إنسانيتنا لنبقى على قيد الحياة وكأننا كنا أحياء ما قبل الوباء. فبربكم أيّ حياة تلك التي تستحق المقايضة؟

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

مدرّسات واجهن كورونا بمفردهن.. عندما تختلط مشاعر اليأس والتنكّر والخذلان

مجندات ضد كورونا.. شهادة ممرّضة داخل مركز الإيواء بالمنستير