29-ديسمبر-2018

" مأزق تشايكوفسكي" لم تكن رواية شديدة الأحداث وكثيرة الشخصيات

 

ثمة شبه إجماع بأن "فنّ الرواية" هو أقرب فنون الكتابة إلى الإنسان لأنه فنّ يحاول محاكاته والخوض فيما كان يعتقد هذا الإنسان أنه مقدسات خاصة وأفنية خلفية ونزاقات لا يمكن أن تطالها الفنون. والرواية فن يلاعب الزمن جيدًا فهو يعود بنا إلى الماضي والذاكرة ويحملنا في بعض الأحيان إلى اختراق جميل للزمن نحو الآتي ونحو المستقبل وأحيانًا نحو المجهول.

" مأزق تشايكوفسكي" لم تكن رواية شديدة الأحداث وكثيرة الشخصيات، رحلة قطار عادية يقوم بها مروان من محطة برشلونة بالعاصمة إلى محطة سوسة

اقرأ/ي أيضًا:  "أجمل الذّنوب".. جدل حول جنس المؤلف وتغريبة للطلبة التونسيين

هذا الفنّ الذي تسكنه روح التمرّد يحاول جاهدًا التقاط الواقع بزحمته وزخمه وتفاصيله اللامتناهية واللامرئية وإعادة ترتيب حيثياته وصوغه صياغة إبداعية تداعب حواسّنا فتمتعنا وتلذذنا بتفاوتات تحكمها الثقافة والحضارة ومنظومة القيم التي نشأنا فيها. تبادرت لذهني هذه المقاربات المفهومية لفنّ الرواية وأنا أمسك برواية "مأزق تشايكوفسكي" للكاتب والمترجم التونسي شوقي برنوصي الصادرة لتوّها عن "منشورات سوتيميديا".

وشوقي برنوصي هو مهندس تونسي وخبير في الأدواتية والتعديل الصناعي ومكوّن في الصيانة الصناعية وشغوف بمجالات الأدب والثقافة منذ سنوات فهو عضو مؤسس "لصالون الناس الدّيكامرون للآداب والفنون" ومن مؤلفاته مجموعة شعرية صدرت سنة 2013 تحت عنوان " كسرت المرآة بأجنحتي "، وترجم في 2017 رواية  "بذلة الغوص والفراشة " للروائي "جون دومنيك".

هذه الرواية ذات الإخراج الأنيق برسمة بديعة للغلاف عنوانها " فيس تونسي" أهدتها للكاتب الرسامة التونسية نجاة الذهبي، ولوحة الغلاف هذه كنت أعود إليها كلما أنهيت فصلًا من فصول الرواية لأقف في النهاية على بعض التطابق بين تركيبة شخصيات الرواية وشخصيات لوحة "الذهبي" المركّبة بتقنية "الكولاّج".

" مأزق تشايكوفسكي" لم تكن رواية شديدة الأحداث وكثيرة الشخصيات، رحلة قطار عادية  يقوم بها مروان من محطة برشلونة بالعاصمة تونس إلى محطة مدينة سوسة للقاء صديق طفولته زهير، والذي لم يلتق به منذ سنوات عديدة. وخلال هذه المدة القصيرة يلاعب الكاتب جملة من الأزمة الماضية التي تمتد إلى طفولته كما يجعنا نفكر معه في المستقبل خاصة عندما تتزاحم الأحداث. ويستحضر شخصيات  تقيم في محيطه وذاكرته و منها زوجته فاطمة.

عمل شوقي برنوصي يتحرّك ضمن إطار عام هو " التركيبات النفسية المخصوصة" في مواجهة المجتمع أو ما يسمّيه "البسيكاناليست" سيجموند فرويد بـ"الأنا الأعلى"

رواية شوقي برنوصي تفترش أرض اللغة البسيطة والسهلة بعيدًا عن التكلف والتخشب، وهي معمار يقوم على نحت الجمل القصيرة لتبني عالمًا بسيطًا كالعشب ومتناسقًا في الوصف والتشبيه. أوصاف وتشابيه من الآن وهنا، من تونس.

" مأزق تشايكوفسكي" تحتوي على 34 فصلًا معنونًا تضمّهم 180 صفحة وهي فصول لا تتجاوز الثلاث أو الأربع صفحات في أغلبها، يبدو أن الكاتب قد توخى هذه التقنية حتى يشدّ إليه المتلقي ولا يستكين لسير الأحداث فيشعر بذاك الاسترسال المقيت، وفي نفس الوقت حافظ على النسق السردي الطبيعي للرواية.

إنّ عمل شوقي برنوصي يتحرّك ضمن إطار عام هو " التركيبات النفسية المخصوصة" في مواجهة المجتمع أو ما يسمّيه "البسيكاناليست" سيجموند فرويد بـ"الأنا الأعلى" ومدى قدرتها على الاحتمال والمواجهة أو الانصهار.

اقرأ/ي أيضًا: جيلبار نقّاش يقدّم "كريستال" في حلتها العربية: أقف وحيدًا على أرض الحرية

فالبطل مروان وضمن تداعياته وهو داخل القطار في طريقه إلى سوسة يطرح بين يدي القارئ جملة من القضايا والإشكاليات الحارقة التي لم تحسم بعد داخل المجتمع التونسي وحتى في مجتمعات أخرى كما لم تحسمها الفلسفة وحلقات الفكر ومنها بالأساس قضيّة "المثلية " في مستوييها البيولوجي والاجتماعي. فهذه المسألة القديمة الجديدة مازالت محل معالجة في مستوى القوانين والتشريعات. وعادة ما يطرحها المثقف والمفكر طرحًا حقوقيًا يرتبط أساسا بالمفهوم الواسع للحرية وكأني بالكاتب هنا ينحى هذا المنحى.

كما تطرح الرواية طرحا نفسيًا لتلك القوادح الغريبة والمختلفة لمسألة "الشهوة الجنسية ". فالحالات الشعورية الجنسية الغريبة المستبدة بالبطل مروان تجعلنا نتوقف عند تفسيرات علم النفس التحليلي بكل تفريعاته لنناقش المسالة من جديد ونصدق المقولات الفلسفية القائلة إن الإنسان غريب الأطوار ولم نمسك به بعد.

 يبدو أنّ رواية "مأزق تشايكوفسكي" عمل إبداعي مفتوح على العديد من التأويلات والقراءات النقدية وذلك لخوضه في قضايا الذات والمجتمع من زوايا علم النفس وعلم الاجتماع

الرواية تخوض أيضًا في بنية العلاقة "رجل/ امرأة"  وكيف أنها مكبّلة اجتماعيًا ومحكومة بالنوازع الذاتية والعقد النفسية المتباينة. وهي حسب البطل مروان مكبلات تعوق تلك علاقة الإنسانية على الانسجام والتواصل بكل حرية بعيدًا عن الأطر الضيقة التي يرسمها المجتمع.

كما تناقش الرواية مسألة "إدارة العلاقة الزوجية " وتعتبرها علاقة إدارية وقانونية تسيطر عليها الهوامش والتفاصيل الاجتماعية من قبيل العادات والتقاليد والأعراف السائدة. ولكأننا نستخلص مع الكاتب أن الزواج هو حالة اجتماعية تقوم على استيلاب الذات وعبودية الفرد، وحتى مسألة الإنجاب التي يرى البعض أنها من أسباب انسجام الحياة الزوجية فإن علم اجتماع العائلة لم يتوصل إلى حسم واضح في هذه النقطة بالذات وبالتالي فإن ما أراده الكاتب هنا في روايته "مأزق تشايكوفسكي" هو أن العلاقات الزوجية تقوم على التعسف على حرية الفرد ويشير إلى أنها علاقة غير حرّة تمامًا.

إن رواية " مأزق تشايكوفسكي" يبدو عنوانها مثيرًا وغريبًا بعض الشيء لكننا نتلمس بعض الفهم لهذه العنونة عند انتهائنا من قراءة الرواية، فالبطل مروان وطيلة رحلته عبر القطار كان يستمع لسمفونية بحيرة البجع للموسيقي الروسي الكبير"تشايكوفسكي " في  نوع من الهروب من خوالجه ومن واقعه ومن الأسئلة الفلسفية التي تخامره بكل عفوية دون نية التفلسف.

 يبدو أنّ رواية "مأزق تشايكوفسكي" عمل إبداعي مفتوح على العديد من التأويلات والقراءات النقدية وذلك لخوضه في قضايا الذات والمجتمع من زوايا علم النفس وعلم الاجتماع، والكاتب شوقي برنوصي حملنا بسلاسة وبلغة تشبه باقات الأزهار البرية إلى مناخات أخرى لم تتعود عليها بعد الرواية التونسية.      

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الحميد الجلاصي.. حصاد السجن التونسي

ندوة "دون كيشوت في المدينة".. أحلام على أجنحة الكيخوتة