تصدير: "وطفل يبربش في زبله.. وطفل يجري وراء سائح.. الروح نافذة والريق شائح.. ووقت كلب.. ودنيا كالبة وظروف متكالبة.. وأحوال كلبة.. (من قصيد "جنّة الأطفال" للشاعر التونسي الطاهر الهمّامي)
إنها بدايات الخريف أو ما يُطلق عليها "قوايل الرّمان" تونسيًا، تبدو العاصمة ضجرة والناس على قلق بين مصدّق ولا مصدّق لعودة انتشار فيروس كورونا، كان نهج إسبانيا المحاذي للسوق المركزية بالعاصمة تونس مزدحم بالمارة على غير العادة وباعة الرصيف و"النّصب" وما شابه لا يبالون بشيء سوى الاتجار ومراوغة الشرطة البلدية كلّما داهمتهم، هؤلاء الباعة يسكنهم التوجس والريبة والخوف من المجهول. كانت السلع المجهولة المصدر تغمر المكان وتغرقه لكن الطاغي عليها في هذه الفترة هي الأدوات المدرسية المهربة من الصين الشعبية ومن أماكن أخرى.
وقفت أمام أحد الباعة الصغار كان نحيلاً كقلم رصاص وببشرة قمحية وعينان شهلاوان وبلهجة غير مدينيّة لتدرك للوهلة الأولى أن هذا الطفل ذي التسع سنوات هو من قرى الوسط الغربي التونسي. كان يقف أمام "بسطة" من البلاستيك الأخضر فرشها بين الرصيف وحافة الطريق ورصّف فوقها كراسات وكنانيش وأقلام قزحية وأخرى لبدية وأدوات هندسية وفراشي ومماحي بيضاء وأدوات مدرسية أخرى.
عندما تلتفت إلى طول الشارع، تجد أن أحمد ليس الطفل الوحيد الذي يفترش بسطة وهو منشغل بالبيع والشراء في مشهد مخجل لمجتمع يملك مجلة لحقوق الطفل
كان هذا الفتى اليافع متعبًا جرّاء وقوفه لساعات طويلة تحت لفح شمس سبتمبر، وقد ذكر لـ"الترا تونس" أنه انقطع عن الدراسة منذ سنة ليلتحق بشقيقه الأكبر الذي يشتغل منذ سنوات مع أحد بارونات "الخربة" المهيمنين على أغلب الأرصفة المحاذية للسوق المركزية وقرب "ساحة الباساج".
"أحمد" وهو اسم مستعار كان يضع كيسًا صغيرًا به سندويتشات مباشرة على الرصيف غير مبال بالأوساخ والروائح المنبعثة من بوابة السوق القريبة من بسطته. وقد تحدث لـ"الترا تونس" بأن تلك الوجبة هي الوحيدة طيلة اليوم ويأكلها واقفًا تحت الشمس، أما عن بيت الراحة فذكر أحمد أنه يتسلل خلسة إلى بيت راحة أحد المقاهي المجاورة بعد أن منعت عنهم بيت راحة السوق المركزية.
اقرأ/ي أيضًا: عمالة الأطفال في تونس: تصاعد الظاهرة وقصور القوانين
عندما تلتفت إلى طول الشارع، تجد أن أحمد ليس الطفل الوحيد الذي يفترش بسطة وهو منشغل بالبيع والشراء في مشهد مخجل لمجتمع يملك مجلّة قانونية لحقوق الطفل بل هناك أطفال أخرون تتعالى أصواتهم الطفولية وهم يحثون المارة على اقتناء سلعهم وأن السوق ملأى بالأطفال القصّر الذين يمارسون أشغالاً لا تليق بأعمارهم وسط غياب تام لرقابة الدولة.
انعطفت نحو شارع "شارل ديغول" فوجدت نفس المشهد باعة و"نصب" وأطفال. اقتربت من أحد الأطفال وكان بصوته غنّة وهو ينادي على سلعته المتمثلة في أقلام جافة زرقاء وأغلفة كتب وكراريس بديعة الألوان. سألته: هل كنت تملك هذه الأغلفة وأنت تدرس بمدرستك؟
ابتسم ابتسامة تحمل آخر بقايا البراءة على وجهه وقال "أبدًا وأيضًا لا أحد من أبناء مدرستي كانت له هذه الأدوات وهذه الأغلفة الملونة، بل ثمة من يحمل أدواته في أكياس بلاستيكية".
إبراهيم (طفل بائع على أحد الأرصفة) لـ"الترا تونس": "بابا يحبّني نولّي راجل ولباس عليّ كيف أولاد عمومتي"
إبراهيم، وهو اسم مستعار، انقطع حديثًا عن المدرسة بعد أن رسب في مستوى السابعة أساسي وقد حثّه والده على الالتحاق بالعمل بالعاصمة مع أحد أبناء العمومة الذين كانوا يعودون إلى القرية المتاخمة لمدينة جلمة بسيدي بوزيد أنيقين بأزياء رياضية وتبدو عليهم أمارات "الثروة" وقد عبر إبراهيم عن ذلك بقولة بسيطة "بابا يحبّني نولّي راجل ولباس عليّ كيف أولاد عمومتي".
ذكر إبراهيم أن "عرفه" يدير عشرات النصب والبسطات بالعاصمة فهو بعد أن يوزع على الصنّاع كميات السلع وينتشرون منذ الصباح لحجز الأماكن على أرصفة الأنهج والشوارع، يجلس في مقهى قريب يعرفه الجميع لينطلق منه للمراقبة والتدخل عند الطوارئ وله علاقات وطيدة مع الأمن البلدي وفي المساء يعودون إلى نقطة الانطلاق فيقبضون أجرة زهيدة مرتبطة أساسًا بحجم السلع التي بيعت "انت وجهدك..".
اقرأ/ي أيضًا: الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس
في إحدى زوايا هذا الشارع الطويل، يقف الطفل سمير (وهو أيضًا اسم مستعار) مرتديًا قبعة رياضية تحمل شعار أحد أشهر الأندية الرياضية التونسية وهو الترجي الرياضي التونسي، كان يقف أمام "نصبة" صغيرة من كرتون ويضع فوقها علب ألوان مائية وفراشي فقط.
سألته: "هل رسمت يومًا بالألوان المائية؟" وأجاب: "كنت أرسم بستان والدي والطريق المؤدي إلى بيت جدي وأبقار عمتي". الطفل سمير انقطع هو الآخر عن الدراسة في سن مبكرة ونزح مع عائلته من ريف سيدي عمر بوحجلة من ولاية القيروان وهو يشتغل نصابًا مع أحد الباعة الكبار بنهج الجزيرة، يبيع كل شيء مع تغير المواسم و المناسبات والأعياد.
هؤلاء الأطفال وغيرهم كثر بأنهج العاصمة وأزقتها ومنعطفاتها، هم عيّنة من ظاهرة آخذة في الاستشراء والتمدد اجتماعيًا والأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء ووزارة التربية ووزارة المرأة والأسرة والمسنين تعتبر مخيفة، فأكثر من 100 ألف تلميذ تونسي يتسرّبون سنويًا من مختلف مراحل التعليم، كما أن منظمة العمل الدولية تعتبر أن حوالي 215 ألف طفل تونسي يمارسون أعمالاً بمقابل ومنهم ما يقارب 180 ألف طفل مجبر على العمل، وأن حوالي 137 ألف طفل يشتغلون بأعمال تصنف خطيرة منها الأعمال التجارية.
منظمة العمل الدولية: حوالي 215 ألف طفل تونسي يمارسون أعمالاً بمقابل ومنهم ما يقارب 180 ألف طفل مجبر على العمل وحوالي 137 ألف طفل يشتغلون بأعمال تصنف خطيرة
مختص في علم الاجتماع: ترسانة القوانين لا تكفي لوحدها من أجل حماية الطفولة
بخصوص ظاهرة عمل الأطفال، اتصل "الترا تونس" بالمختص في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية الأستاذ سفيان الفراحتي، الذي أكد أن الطفل التونسي وعلى المستوى النظري هو محمي وله مجلة قانونية ضامنة لحقوقه وهي في فصلها الثالث تعتبر الطفل من لم يبلغ 18 عامًا، وأضاف أن الفصل 20 من مجلة حماية الطفل ينص صراحة على عدم استغلال الأطفال اقتصاديًا ويعتبر أن في ذلك تهديدًا لصحة الطفل وسلامته البدنية والمعنوية، كما أن الفصل 58 من مجلة الشغل يعتبر أن السن الأدنى للقبول في العمل هي 18 سنة وهو ما يؤكد أن الأطفال الذين نراهم يعملون في الشوارع وفي الورشات والمصانع الصغيرة في الضواحي هي مخالفات قانونية يقوم بها المشغّل ويعاقب عليها القانون لكنها تحدث في واضحة النهار وتتحول إلى ظاهرة متمددة في جسد المجتمع.
ويرى الفراحتي أن ذلك يعود أساسًا إلى تخلي الدولة عن أدوارها الأساسية في حماية المجتمع والبحث عن معالجات وحلول جذرية وهو ما جعل من عدة ظواهر في علاقة بتشغيل الأطفال آخذة في الانتشار في السنوات الأخيرة على غرار ظاهرة التهريب والاتجار بالممنوع وغياب التحفيز التنموي في القرى والجهات مما يدفع إلى النزوح لضواحي المدن الكبرى والانقطاع المبكر عن الدراسة والعنف والإرهاب والطلاق و"الحرقة".
سفيان الفراحتي، مختص في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": إقرار وإنشاء المزيد من القوانين لوحدها لا تكفي من أجل إنقاذ الطفولة التي تتهددها مخاطر جمة
وبيّن الأستاذ سفيان الفراحتي لـ"الترا تونس" أن إقرار وإنشاء المزيد من القوانين لوحدها لا تكفي من أجل إنقاذ الطفولة التي تتهددها مخاطر جمة وعلى رأسها التشغيل الإجباري.
وأشار المختص في علم الاجتماع إلى أن المجتمع التونسي مطالب الآن وقبل أي وقت آخر بأن يجلس إلى نفسه من أجل إنقاذ مؤسساته الرمزية الاعتبارية على غرار "مؤسسة المدرسة" التي تنتج القيم المجتمعية و"مؤسسة العائلة" التي تحافظ على الهوية والتمايز الحضاري والثقافي و"مؤسسة القانون" التي تحافظ على العدالة والإنصاف ونبذ العنف بأنواعه.
مختص في علم النفس: الطفل التونسي لا يحلم
اتصل "ألترا تونس" بالأستاذ نوفل بوصرة، المختص في علم النفس والباحث بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، الذي بيّن أن "الطفولة في تونس مهملة تمامًا ويتجلى ذلك في عدم تطبيق ترسانة القوانين التي تتحوّزها تونس وعلى رأسها مجلة حماية الطفل وقانون الاتجار بالبشر الصادر في أوت/ أغسطس 2016 والذي يقر بوضوح منع الاستغلال الاقتصادي والجنسي للأطفال، كما تغير مفهوم العائلة في اتجاه "العائلة النّواة" وأصبح دور المدرسة مقتصرًا على المعارف والعلوم وهو ما يؤدي إلى انعدام الحلم لدى الطفل التونسي"، وفقه، مشيرًا إلى أن طفلا لا يحلم هو طفل معطوب وينمو بشخصية عرجاء تقد تنتج أناسًا عنيفين.
وأشار الأستاذ بوصرة إلى أن "المدرسة التونسية تتحمل مسؤولية قصوى فيما يحدث للطفولة وذلك لغياب المختصين في علم النفس عن المؤسسات التربوية لأن الرعاية النفسية الميدانية واللصيقة للأطفال باتت أكثر من ضرورية داخل المدرسة التونسية".
نوفل بوصرة، مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": تغير مفهوم العائلة في اتجاه "العائلة النّواة" وأصبح دور المدرسة مقتصرًا على المعارف والعلوم وهو ما يؤدي إلى انعدام الحلم لدى الطفل
وأضاف المختص في علم النفس أن غياب الحياة الثقافية الحقيقية عن المنظومة التربوية يؤدي إلى أورام في شخصية الطفل وشدد على أنّ الثقافة تحدث توازنات خفية تشبه الاكسيجين بالنسبة لنمو الشخصية، وفق تقديره.
إن ظاهرة عمل الأطفال عندما تتفشى داخل المجتمع فإن ذلك يعتبر علامة شديدة الدلالة على أن حوادث حصلت في مفاصل جسد المجتمع ولا بد من حلول جذرية حتى ننقذ ما يجب إنقاذه.
اقرأ/ي أيضًا: