مقال رأي
كان أحد معطلات التجربة الديمقراطية التونسية، بما يعني تحولها من تجربة تحوّل سياسي إلى تجربة تحوّل اقتصادي واجتماعي أيضًا وتفكيك نظام الريع، أي منظومة الاستبداد الاقتصادي، هو تركز الاستقطاب السياسي في مربع الاستقطاب الهووي المؤدلج، تحديدًا "إسلامي" ضد "حداثي"، وفي المقابل، تجاهل الهم الاجتماعي والاقتصادي لطيف واسع من حشود المواطنين، تحديدًا هم التحرر من استعباد منظومة اقتصادية لا تسمح بعدالة الفرص الاجتماعية وأيضًا عدالة الفرص الاستثمارية. يُضاف الآن للاستقطاب الهووي الديني استقطاب قبلي على "الأرض والعرض" يرتد بنا في سياق غياب تصور للدولة إلى مراحل غابرة في التاريخ.
هل ستبقى تونس رهينة "الاستقطاب الثنائي" أم هناك حاجة وإمكانية لاستقطاب جديد، ثلاثي، يكسر الاستقطاب الهووي نحو استقطاب على قاعدة الاقتصادي والاجتماعي؟
يُضاف الآن للاستقطاب الهووي الديني استقطاب قبلي على "الأرض والعرض" يرتد بنا في سياق غياب تصور للدولة إلى مراحل غابرة في التاريخ
المستبدون اقتصاديًا الذين ولدوا وتعايشوا مع منظومة الاستبداد السياسي، بل تحولوا إلى طابور خامس لها بالمصاهرة والشراكات الاقتصادية، استطاعوا أيضًا، وهو أمر دارج في التجارب شبه الليبرالية، التأقلم مع منظومة التداول السلمي بالانتخاب على السلطة. بمعنى آخر ورثت عائلات الريع المهيمنة نخبة سياسية جديدة ودعمت بأشكال مختلفة وضع "الاستقطاب الثنائي" الهووي، الذي يرسخ وضع تغييب الوعي الاقتصادي والاجتماعي، وجروا جزءًا من الناخبين إلى حالة الاحتراب على قاعدة الموضوع الديني الذي تم حسمه دستوريًا، وتم تحييد أو إبعاد جزء آخر من الناخبين النافرين من العملية السياسية برمتها. ليكونوا بشكل أو بآخر عرضة لحالات تحيّل "شعبوية" تبني خطابها على أساس "محاربة الفقر" في حين تمثل هي ذاتها مكونًا أساسيًا من مكونات نخبة الريع المهيمنة.
اقرأ/ي أيضًا: هل يسقط السقف على الجميع؟
في الاستقطاب الراهن لدينا ما يلي: مكوّن الفاشية النيو تجمعية ممثلة في عبير موسي، تعتبر الثورة مؤامرة و"ربيعًا عبريًا" رغم أنها لم تتكلم ولم تستطع الارتقاء سياسيًا والتحوّل إلى موقع "زعاماتي" إلا بفضل الثورة، في حين كانت مجرد مرددة أناشيد تزغرد في الاحتفالات المتخلّفة لمنظومة الاستبداد. لم تعتذر عن دورها كأمينة عامة مساعدة في الحزب المسؤول عن حالة التخلف الاجتماعي والسياسي التي أدت إلى الثورة، بل تمعن الآن في استعمال ذات الآداة الاستقطابية الايديولوجية التي تواصل بها وعلى أساسها حكم بن علي.
لم تعتذر عبير موسي عن دورها كأمينة عامة مساعدة في الحزب المسؤول عن حالة التخلف الاجتماعي والسياسي التي أدت إلى الثورة، بل تمعن الآن في استعمال ذات الآداة الاستقطابية الايديولوجية التي تواصل بها وعلى أساسها حكم بن علي
من جهة أخرى، لدينا طرف آخر هو "ائتلاف الكرامة" يلبس لبوس الثورة بمحاولة تصدر الصراع مع عبير موسي لكن بمضامين هووية أيضًا من نوع حقوق المرأة ومساءلة واضحة ومباشرة لتوافقات الدستور حول الهوية تحت عنوان حرية التعبير، مع أساليب مشابهة لعبير موسي في استعمال الشتيمة والصراخ وحتى العنف مؤخرًا مع من يختلف معه.
حركة النهضة، التي اشتغلت على صورة الطرف "الوسطيِ" طيلة سنوات تراها تدافع وتغطي "الائتلاف" لكونها مرتهنة في تصويت رئاسة المجلس، كرسي رئيس الحركة أي رئاسة البرلمان، في تحالف يضم "الائتلاف" مع "قلب تونس". الكواليس تشير إلى تقارب متزايد بين هذين الأخيرين وارتهان النهضة لهما، حتى أن نبيل القروي أصبح طرفًا أساسياً في معادلة القصبة ورغم حجمه البرلماني المتواضع فإن تأثيره في القصبة أكثر بكثير من النهضة نفسها. ما يمكن أن يعتبره البعض مسارًا "انتحاريًا" للنهضة من أجل بقاء الغنوشي رئيسًا للبرلمان، وأيضًا حظوظه الضعيفة جدًا للترشح للرئاسة، قد يؤدي كل ذلك تدريجيًا إلى "شفط" قاعدتها الانتخابية من قبل "حليفها" الظاهر أي "الائتلاف".
هناك مكان في الوسط يزداد فراغًا. يتمسك بالمكاسب الديمقراطية لكن أيضًا يطرح الحاجة لإصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة. تُحاول الكتلة الديمقراطية بدعم واضح من اتحاد الشغل وهيئات مهنية مؤثرة مثل هيئة المحامين ملئه. تبيّن ذلك خاصة في الاعتصام الذي حصل في البرلمان والذي لم يسع إلى تعطيل أعمال المجلس ونجح في تمرير مقترحات بيّنت التباين الواضح بين الائتلاف الداعم للحكومة والمعارضة. أقلق هذا الوضع بوضوح عبير موسي حيث افتك منها موقع الصدارة في المعارضة وفرض تصورًا مختلفًا، وهو ما تسبب في هجومها العنيف على اتحاد الشغل مؤخرًا.
أقلق اعتصام الكتلة الديمقراطية ودعم الاتحاد له بوضوح عبير موسي حيث افتك منها موقع الصدارة في المعارضة وفرض تصورًا مختلفًا، وهو ما تسبب في هجومها العنيف على اتحاد الشغل مؤخرًا
وهناك خطر حدوث انقسامات في هذه الجبهة على ضوء الضعف التنظيمي والحذر من الوقوع في الاستقطاب الهووي، وأيضًا التمييز بين الصراع في إطار منظومة ديمقراطية والانزلاق في مطبات التأسيس لتصور خارج المنظومة الديمقراطية، لكن يبقى واقعيًا هو الطريق الأقرب لإيجاد استقطاب "ثلاثي" يهمش "الاستقطاب الهووي" الثنائي المزمن.
ومثلما قلت مرارًا، ردًا على اتهام نائب من "ائتلاف الكرامة" بأن زملائه "ديوثين" لأنهم اختلفوا معه، الدياثة الحقيقية لا تتعلق بأوضاع جنسية بل بأوضاع اجتماعية وسياسية. ولا يوجد دياثة أوضح أو أخطر من الدياثة لمنظومة الريع، والاستقطاب الثنائي كان ولا يزال منذ الثورة الخادم الرئيسي لهذه المنظومة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: