14-ديسمبر-2020

"ألترا تونس" يكشف بعض خفايا خلاف تاريخي حول الملكية العقارية بالمنطقة

 

أحداث داميّة تطالعنا من عمق الصحراء التونسية، قتيل و أكثر من خمسين جريحًا و سيارات محروقة وأمنيون مصابيون بجروح. أحداث صادمة تلقاها الرأي العام في تونس مساء الأحد 13 ديسمبر/كانون الأول 2020 وكانت قد انطلقت بداية الاسبوع الفارط.

متساكنون توجهوا إلى الصحراء حاملين بنادق الصيد والأسلحة البيضاء، يلوحون لنا من خلال بعض الصور المتناقلة على منصات التواصل الاجتماعي ومظاهر العنف والنيران والدخان كانت تلوح في مشهد غير مألوف مما أثار تساؤلات حول هذه الأحداث غير المسبوقة بعد عقود من الاستقلال وإرساء الجمهورية.

"العين السخونة" منطقة صحراوية ترجع بالنظر إداريًا إلى ولاية قبلي وهي عبارة عن عين حارّة تم إنجازها سنة 2002 في الصحراء ضمن مشروع التنمية الرّعوية بالظاهر الذي ينجز بتمويل من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية قصد مقاومة الفقر والنهوض بصغار الفلاحين وبغاية رعي قطعان الإبل والأغنام.

"العين السخونة" منطقة صحراوية ترجع بالنظر إداريًا إلى ولاية قبلي وهي عبارة عن عين حارّة تم إنجازها سنة 2002 في الصحراء ضمن مشروع التنمية الرّعوية بالظاهر

إلا أن هذه البئر كانت ذات درجة ملوحة عالية تتجاوز 11 غ / ل مع احتوائها بنسبة كبيرة من الكبريت في مياهها وذات درجة حرارة مرتفعة مما اضطرّ مصالح المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية إلى غلقها، إلا أنه بفعل الزمن تسرّبت كميات من هذه المياه من البئر لتكوّن بركة بجانبها.

هذه العين المائية تخفي وراءها خلافًا تاريخيًا حول ملكية الأراضي الاشتراكية بالجهة، حاولنا في "ألترا تونس" كشف بعض جوانبه وخفاياه عبر روايات استقيناها من أبناء المنطقة، كشفت عن جوانب مظلمة تجاهلتها السُّلط منذ مدّة.

"العين السخونة" هي عبارة عن عين حارّة في الصحراء

العلاقة  بين سكان بني خداش ودوز قائمة عبر التاريخ باستثناء بعض المشاكل الهامشية التي كانت تغذيها الأنظمة الدكتاتورية  للتغطية على التقصير في ملفات التنمية بالجهة وقد تزامن الخلاف اليوم مع وضع سياسي دقيق تعيشه بلادنا مما بسط أرضًا خصبة لجهات عمدت إلى  تحريض المواطنين للتقاتل في حين كان من الممكن أن تكون الدولة الجهة الرسمية الوحيدة لفض الإشكال وإقرار القانون في الاستثمار حول هذه العين.

رئيس الجمهورية قيس سعيّد حلّ صبيحة الإثنين بمكان الحادثة  داعيًا إلى "تغليب صوت الحكمة وعدم الانجرار وراء زرع الفتنة بين أبناء الجهة الواحدة".

وشدد على أن "رئيس الجمهورية هو رمز الدولة والضامن لوحدتها"، مبينًا أن تونس تتسع للجميع ولا بد من الانتباه إلى كل المحاولات الخفية لضرب الدولة من الداخل"، حسب بلاغ صادر من رئاسة الجمهورية.

مصطفى عبد الكبير (رئيس مرصد حقوق الإنسان): الدولة التي تحترم نفسها لا بدّ من أن تتدخل بين طرفين متنازعين، لأن استمرار الخلاف يهدد السلم والاستقرار الاجتماعيين

وتسارعت ردود الأفعال بعد حادثة مقتل الشاب نوفل السعداوي أصيل بني خداش من جميع المنظمات الحقوقية والجهات السياسية التي أجمعت على ضرورة تهدئة الوضع والتمهيد لمبادرة تهدئة بين أهالي دوز وبني خداش وضرورة التعقل وضبط النفس لتجنب مزيد من العنف والفوضى.

اتصل "ألترا تونس" بالناشط الحقوقي ورئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان مصطفى عبد الكبير الذي صرح لنا قائلًا: "لابدّ من  مواصلة خطة العمل نفسها التي كنّا قد بدأناها يوم الجمعة الفارط قبل تأجج الأوضاع مع كل مكونات المجتمع المدني والسلط الجهوية ولجان التصرف وعقلاء الجهة، ودعوة كافة الأطراف المتسببة في التوتر، وتوجيه نداء إلى السُّلط بنشر الأمن والجيش للحيلولة دون صدام يمكن أن يحصل".

و أضاف مصطفى عبد الكبير: "نحاول بقدر الإمكان انتزاع ردود الأفعال وعقلية المنطق القبلي والجهوي".

اشتباكات بين سكان بني خداش ودوز

كما انتقد، في سياق متصل، زيارة رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى "العين السخونة" شكلًا، معتبرًا أن الحلول كانت تطرح بمجرد مكالمة هاتفية للأمر بانتشار الجيش والأمن بالمنطقة  وليس بزيارة منطقة قاحلة جرداء"، على حد تقديره.

كما حمّل الناشط الحقوقي سلطة الإشراف مسؤولية ما اعتبره"سياسة المماطلة في البت في مسألة الأراضي الاشتراكية"، معتبرًا أن ذلك "يدل على ضعف السلطة والدولة، فالدولة التي تحترم نفسها لا بدّ من أن تتدخل بين طرفين متنازعين، لأن استمرار الخلاف يهدد السلم والاستقرار الاجتماعيين، ولابد من خطة عمل عاجلة لإيقاف كل المتسببين في هذا العنف".

من جهته، قال صالح التومي، الناشط في المجتمع المدني ضمن ائتلاف الجمعيات  ببني خداش، إن "الخلل إداري وعقاري"، مشيرًا إلى أن "المشاكل العقارية قد تراكمت في جهته، فكان الصراع بالأساس على الملكية  وليس "عروشيًا" أو قبليًا"، وأن "المسائل العالقة لاتزال قائمة و لم تحسم إلى اليوم خاصة في مجال الأملاك العقارية الاشتراكية التي تعاني منها عدة جهات في البلاد"، حسب قوله.

وأضاف صالح التومي أن "المسألة العقارية تحت أنظار القضاء، وقد أنشئ مجلس توافقات منذ 2009، لكن لم تحسم المسائل إلى اليوم".

اقرأ/ي أيضًا:  "التهيليم".. سجع رعاة الإبل في الصحراء التونسية

يبدو أن بوادر الأزمة قد تصاعدت في الأسابيع الأخيرة وانتهت بهذا الصدام الدامي والمآلات الأمنية المؤسفة، مستغلة تشييد بعض الأكشاك في محيط البركة.

فقد دوّن محدّثنا صالح التومي في وقت سابق في علاقة بالنزاع العقاري بين أهالي دوز وبني خداش قائلًا: "لما شرعت إحدى الشركات البترولية المنتصبة بالجهة  في التفاوض حول مسار أنبوب نفط حقل نوارة عبر أرض الظاهر كان هناك خلاف حاد حول الملكية بين دوز وبني خداش، إذ أن الإشكال يكمن في كون الأنبوب  يمر من أرض دوزالكائنة بالمجال الترابي التابع لولاية قبلي، لذلك لمّا كانت المفاوضات مع الممثل الإداري، اعترضت لجان تصرف بني خداش على نتائج المفاوضات التي منحت مبلغ ملياريْن ونصف للجهة الإدارية".

وتابع: "تمسكت الشركة بالخلاص والبراءة، وتمسكت لجان تصرف دوز بالاعتراض غير أن المصالح الإدارية بولاية مدنين ارتكبت خطأً في توقيت إرسال الاعتراض، مما جعل الشركة تتمسك بعدم التفاوض من جديد متعللة بأن حق دوز لا يتجاوز 7 كم الموجودة في المجال الترابي لولاية مدنين".

صالح التومي (ناشط بالمجتمع المدني ببني خداش) لـ"ألترا تونس": المشكل عقاري وإداري بالأساس وليس "عروشيًا" أو قبليًا"

وأضاف صالح التومي:  "في تفاعل بين لجان التصرف والمجتمع المدني، تحرك هذا الأخير. وفي يوم مشهود، احتجز المواطنون كل معدات الشركة البترولية الموجودة بأرض الظاهر وكان يومًا صداميًا كاد يكون مأساويًا لولا حكمة رجال الأمن والجيش، وتم تأمين المعدات بمركز الحرس الوطني وبضمان المجتمع المدني لعدة أشهر وبتنسيق مع أهالي بني خداش الذين كانت معداتهم محجوزة بما أنها مكتراة من طرف الشركة ضغطوا بدورهم لتسلم معداتهم من الشركة الكارية".

وأردف الناشط بالمجتمع المدني، في ذات الصدد: "فعلًا تحرك في الغرض النائب لخضر بالهوشات لدى وزارة الطاقة وزار منطقة الصراع عدة مرات مع مسؤولين واشتد الضغط على الشركة فبرز بعض الخلاف بين لجان التصرف المعنية وتحركت العروشية والجهوية وكاد يفسد كل شيء بحكم الحسابات الضيقة، وكاد يقع تسليم المعدات ببعض الخيانات، وكانت دعوتنا للتصدي للمفاوضين خلسة ذات يوم وطردهم من بني خداش وأفسد المجتمع المدني كل الألاعيب تحت الطاولة وأبطلت المفاوضات على الأسس الضيقة...".

وواصل قوله: "بدأت تحركات أخرى لبعث مفاوضات جديدة واتفقت لجان التصرف الأربعة على أهداف واضحة، وكانوا بارعين وأكفّاء في المسائل القانونية ويتمتعون بدراية كبيرة بحقوق الملكية... وانطلقت المفاوضات من جديد في مكتب أحد المحامين في قابس وتوصل المتفاوضون إلى مخرجات كان الطريق إليها صعبًا، وكان المجتمع المدني يتابع ويعلن رفضه القاطع لتسليم المعدات قبل التوصل إلى نتائج واضحة تضمن حقنا".

 بوادر الأزمة قد تصاعدت في الأسابيع الأخيرة وانتهت بصدامٍ دامٍ

وتابع التومي حديثه: "بما أن هناك اختلاف قضائي حول من له حق الملكية، بالتالي هناك خلاف حول حق الانتفاع بجزء من المبلغ، وهذا الخلاف لايمكن أن يحسم قبل مئات السنين كما هو معروف في القضايا العقارية أي بعد اهتراء الأنبوب أصلًا"،  مشيرًا إلى أن المجتمع المدني اقترح، في هذا الصدد، أن يصرف المبلغ في شكل مشاريع تنموية على أرض الظاهر فمن كان له حق فقد انتفع بذلك ومن لم يكن له حق كفيناه أكل الحرام"، وفق تعبيره.

وتابع: "لجان التصرف وافقت على المقترح، وبذلك يكون هذا المبلغ لتنمية الظاهر فقط وليس كل بني خداش، كما أنه مرفوض أن يُدمَج المبلغ في أي حساب غير الظاهر فقط حتى نضمن حقوق الناس".

ولمّا لم تتفق لجان التصرف على حساب توضع فيه الوديعة، اقترح المجتمع  المدني أن يؤمن المبلغ في خزينة المجلس الجهوي إلى حين صرفه، وفق التومي.

وواصل حديثه : ''إثر التصعيد الحاصل حول وضعية العين السخونة وما قد يؤدي إليه ذلك من توتير العلاقة بين سكان بني خداش وسكان دوز، تحرك بعض عقلاء الجهة والعارفين بخبايا الموضوع ووالي مدنين ومعتمد بني خداش، وكانت مخرجات هذا التواصل على النحو التالي :

  • إسقاط حق التتبع من طرف الشركة البترولية في حق أبناء بني خداش بخصوص قضية حجز المعدات السابق والعمل على تسوية الحق العام
  • إصدار والي ڨبلي قرار بإيقاف أي نشاط تجاري حول المكان قبل تسوية الوضعية العقارية
  • دعوة والي مدنين أصحاب الدعوى المرفوعة من طرف سكان بني خداش (لجان التصرف) إلى رفع قضية استعجالية لدى المحكمة العقارية لاستعجال البت في النزاع العقاري المرفوعة والحرص على متابعتها من طرف ثلاثة محامين أكفاء.

يتفق جميع الأطراف الحقوقية ومكونات المجتمع المدني على أن النزاع الإداري والعقاري في المنطقة إنما هو صراع على الملكية وأن إثارة النعرات القبلية والعروشية إنما هي مطيّة استغلّها "الصائدون في الماء العكر"، وذلك اعتبارًا من أن سكان دوز وبني خداش أهل جمعتهما الملاحم والنضال المستمر ضد المستعمر فكانت الأرض شاهدة على شهامة الرجال، وعلى الدولة تحمل مسؤوليتها التاريخية والفصل في النزاع المذكور والعيش المشترك كما عاش  الأسلاف حرّ الشمس في الظهيرة والتحفوا بالنجوم في الليلة الظلماء...

 

اقرأ/ي أيضًا:

خريطة النجاح في تونس تفضح عقود التهميش والإقصاء

هل قوّضت الانتخابات التشريعية والرئاسية نظرية "العروشية"؟