26-نوفمبر-2020

الرئيس لا يمكن أن يواصل مشاهدة العرض الحالي المتعفن من بعيد

 

مقال رأي

 

لم يكن من العبقرية أن تنبأ بعضنا أن صيغة الإمضاء على اتفاق الكامور والطريقة التواصلية التي روج بها للاتفاق رئيس الحكومة ومستشاروه وأيضًا رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة، كل ذلك أن يؤدي إلى "تمدد الكامور". نحن إزاء شتاء ساخن اجتماعيًا، لكن ربما أسخن من العادة، خاصة أن الخوارزمية السياسية هذه المرة تفتقد عناصر أساسية تسمح بتشغيل منطق الحلول وتتجه أكثر فأكثر إلى تعطل العقل السياسي، ليس في قصبة الحكم و"وسادته" البرلمانية فحسب، بل في عموم المشهد السياسي. فهل يسقط السقف على الجميع خاصة مع تصاعد الصوت الفاشي المعادي للثورة والديمقراطية؟

نحن إزاء شتاء ساخن ربما أسخن من العادة، خاصة أن الخوارزمية السياسية هذه المرة تفتقد عناصر أساسية تسمح بتشغيل منطق الحلول وتتجه أكثر فأكثر إلى تعطل العقل السياسي

طبعًا ساندنا مثل غيرنا احتجاجات الكامور منذ انطلاقها منذ سنوات على أساس مساندة مبدأ الاحتجاج الاجتماعي، الأصل الأصيل للثورة، وعلى اعتبار العقود الطوال لاستبعاد الدولة المركزية الريعية لأجزاء واسعة من الوطن ومواطنيه من الثمرات الاجتماعية والتنموية، مقابل استهلاك ثرواتها الباطنية. هناك مظلمة تاريخية لا يمكن التقدم إلى الأمام دون الإقرار بها والاعتراف بها، وعلى هذا الأساس ساندنا إدراج مبدأ "التمييز الايجابي" في متن الدستور، وهو فصل تقدمي متميز يستدعي الفخر في التجربة التونسية.

غير أنه ليس من غير المسبوق أن تنفلت الاحتجاجات الاجتماعية لتتحول إلى عصبية جهوية، أو مناطقية تتجاهل المشروع الوطني. وهو ما حصل تدريجيًا في الكامور، إذ أصبح الأساسي استخلاص "حق الجهة" ويصبح "الوطن" هو المنطقة وليس مشروع الدولة الجامعة التي لم تتم وحدث أن أجهضت شروط قيامها دولة الاستبداد ما بعد الكولونيالية. ويتم كل ذلك تحت غطاء "اللامركزية"، ويصل تشويه الفكرة في خطاب رئيس البرلمان إلى استعمال مثل تونسي "ما تصحش الصدقة حتى تززي أماليها"، بما يعني أن "الأمالي" (الملاكين) ليس الوطن الجامع والمواطنة التونسية، بل سكان الجهة لا غير.

اقرأ/ي أيضًا: الكواليس ومطبات الميزانية.. المشيشي في مفترق طرق؟

كما أنه ليس من غير المسبوق أن يتم تدجين الاحتجاج الاجتماعي إلى "رشوة تشغيل"، بمعنى منح مواقع شغل وهمية وخاصة عبر نموذج شركات البستنة، التي لم يعد هناك حاجة للتدليل عليها. وأصبح هناك إصرار على التموقع فيها، بل هناك أحاديث متواترة على أن "مؤسسة الاعتصام"، والمشرفون عليها يتلقون قائمات مسبقة مع "أعطيات" مالية لضمان مقاعد في قائمات البستنة، لأنها تضمن الاجر دون شغل. وحدث أن تم رفض عروض في الصيف الماضي لعروض شغل حقيقية في مندوبيات مثلاً عوض عروض البستنة لأنها تعني مواقع شغل حقيقية.

انفلتت الاحتجاجات الاجتماعية لتتحول إلى عصبية جهوية أو مناطقية تتجاهل المشروع الوطني في بعض الجهات

اتفاق الكامور يحمل عددًا من المساوئ: يكرس منطق الخلاص الجهوي المعزول عن المشروع الجامع المؤسس في دستور الثورة، ويساهم في تقويض بناء دولة المواطنة، بذات ايديولوجيا المنطق الفردي الانتهازي الذي أسسته دولة الاستبداد. كما أنه يدجن المطلب الاجتماعي ويشوهه ويحرمه من أن يكون عاملاً محركًا لبديل تنموي جدي. وأخيرًا، ببساطة غير قابل للتنفيذ، حيث أعلنت تنسيقية الكامور منذ أيام أن المتوفر فقط عروض شغل البستنة التي تم نشرها، ولا يوجد ما يؤكد تفعيل بقية بنود الاتفاق وعلى رأسها حوالي 250 موقع في الشركات البترولية قبل نهاية العام. 

الحالة الغريبة بلا شك أنه إثر الإمضاء مباشرة انطلق رئيس الحكومة ومستشاريه وأيضًا حزامه البرلماني وعلى رأسه رئيس حركة النهضة بالتحريض على "تمدد الكامور". والحقيقة الأمر لم يكن يستحق تحريضًا، إذ أن الشباب المعطل والجائع والشاعر بالحرمان سيفكر فورًا في تكرار التجربة كل في جهته بشكل آلي. وهو ما حدث كبقعة زيت انتشرت بثبات ووضوح.

وهكذا انتقلنا إلى "تأثير الدومينو" حيث يتمدد ليس فقط الاحتجاج بل حالة معقدة لأزمات تتوالد من بعضها البعض. وهكذا مثلاً في قابس إثر محاصرة المنطقة الصناعية، بما في ذلك معمل "ساغاز" المعنية بتعبئة قوارير الغاز، حوصرت كل ولايات الجنوب بما في ذلك "العاصمة الاقتصادية" للبلاد، وفقدت القدرة على توفير القوارير الحيوية في أساسيات الحياة ومن ذلك الطبخ. ومن المفارقات احتجاج أهل تطاوين على "طريقة احتجاج" معتصمي قابس لأنهم تضرروا من فقدان قوارير الغاز.

يدجن اتفاق الكامور المطلب الاجتماعي ويشوهه ويحرمه من أن يكون عاملاً محركًا لبديل تنموي جدي

مساندو المشيشي بصدد الابتعاد، والعودة إلى حصونهم. اتحاد الشغل ساند الحكومة وله فيها ممثلين وتحصل على كل ما أراد من زيادات في الأجور وتسوية وضع عمال الحضائر، بسهولة متناهية حيث كان منهج المشيشي القبول بكل مراكز الضغط والمهم أن يبقى في القصبة، علمًا أن الحكومة السابقة لم تكن مستعدة لذلك قياسًا للتوازنات المالية. لكن تحت ضغط الاتحادات الجهوية والمحلية التي أصبحت في صلب الاحتجاج، بل تتنافس وتحرص على تحصين الحدود بين مناطق الاحتجاج، لا يمكن أن يقبل الاتحاد، لظروفه الداخلية وبصمته الجينية، أن تفتك تنسيقيات عفوية دوره الأساسي في الاحتجاج الاجتماعي.

النهضة منهكة بمعاركها الداخلية وضغوط أجنبية للملمة صفوفها ومتخوفة من أن "تلبس" بشكل مباشر وحصري أي أزمة اجتماعية كبيرة. ولهذا خصصت أغلب بياناتها الأخيرة للشأن الاقتصادي والاجتماعي، وتبنت مبادرات الحوار، وغيرت من لهجتها تجاه رئيس الجمهورية وتحاول وضع المكابح على طيش نبيل القروي الذي يضغط بلا هوادة للاستفادة من الوقت واستدراج المشيشي لأكثر ما أمكن من التنازلات.

اقرأ/ي أيضًا: المشيشي ينفق بلا حساب ويرتمي في أحضان القروي

في الكواليس، يتم الحديث عن تأجيل النهضة أي خطة لتغيير الحكومة إلى ما بعد نهاية العام، وترتيب وضع يسمح بأن يلبس الجميع مآلات الأزمة الاجتماعية بما في ذلك الرئيس. من الواضح للجميع أن المشيشي لا يمكن أن يكون رجل المرحلة، هش وغير كفؤ في تسيير وضع عادي فما بالك وضع أزمة. طبعًا الاسم البديل الجاهز دائماً منذ أكثر من عام هو فاضل عبد الكافي، لكن إن لم يتم إقناع الرئيس به مرة أخرى هناك على الأرجح "خطة ب". ويتم الحديث عن خطة يتم فيها إقناع المشيشي لطرح الثقة في البرلمان في وقت لاحق ومن ثمة إسقاطه مع استعادة المبادرة من الرئيس قيس سعيّد في تسمية رئيس الحكومة، مقابل ضمان موقع في الحكومة القادمة للمشيشي. يبدو السيناريو سيرياليًا، لكن بالنسبة للمشيشي القابل لأي ضغط، يمكن أن يمر.

الأطراف الدولية المتداخلة في الشأن الاقتصادي بدت قلقة بشكل غير مسبوق منذ الثورة حول قدرة الدولة على ضمان سيرها العادي

الوضع سيء. والأطراف الدولية المتداخلة في الشأن الاقتصادي بدت قلقة بشكل غير مسبوق منذ الثورة حول قدرة الدولة على ضمان السير العادي للشأن المالي والاقتصادي، وهناك حديث متواتر عن إمكانية اضطرار وزارة المالية إلى خطط تقشف تقلص من الأجور وتطرد الموظفين لكي تحافظ على التوازنات المالية، وهو ما يعني صب الزيت على نار الاحتجاج الاجتماعي.

الأمر يستدعي وقفة. والرئيس لا يمكن أن يواصل مشاهدة العرض الحالي المتعفن من بعيد خوفًا من الاتساخ بوحل المشهد الحزبي وأزماته. هناك حاجة لمبادرة في اتجاه ما، إما تحافظ على الحكومة وتضغط عليها للتصرف كطرف ماسك بزمام الأمور ويفتح النار على مراكز الضغط الفاسدة، أو فتح القصر للجميع، حتى من يعتقد الرئيس أن "مكانهم في السجن وليس في القصر"، وإيجاد وصفة توافقية شاملة لحكومة أزمة. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

كارتيلات اقتصاديّة ومافيات احتكارية.. أين الدولة؟

المساهمة الاجتماعية.. إلى متى الاستنزاف الإجباري؟