تصدير:
"امنحيني كفّ يديك غيمة للبعاد..
امنحيني كل المساءات كي أرتّب لياليّ على مقاس أحزاني الجديدة..
امنحيني شرفة حب أخيرة لأكتب للطير مراسيل أسفاره القديمة..
امنحيني دروب الوردة علّي أتهجّى اسمك على ضوء الأقمار البعيدة"
(مقطع من قصيد كتبه "محمد" في طليقته يترجّاها الحبّ من جديد)
قد تُصاب العلاقات الزوجية بالأعطاب والأوهان فتُحدث شروخًا منها ما تزيله الأيام ومنها ما يبقى عنوانًا لألم لا يزول، وقد تًصاب أيضًا بالرّحيل والفّراق عبر الطلاق فيذهب كل زوج إلى السماء الواسعة حرًا طليقًا لا تحدّه سوى الذّكرى.
والطلاق حدث مجتمعي يوميّ قد يبدو بسيطًا إلى أبعد الحدود لتواتره لكنه يتّسم بالعمق أيضًا لأنه في صميم فلسفة التّواصل البشري، وهو من إنتاجات مدنيّة المجتمعات ومراكماتها الحضارية، وهو منتوج نفسي وعاطفي للإنسان في بيئته. وأحيانًا قد يذهب المنفصلون إلى ترميم انكساراتهم التي خلفها حدث الطلاق فيغامرون من جديد ببناء علاقات جديدة بحثًا عن سكينة أخرى وسكن آخر.
يدفع البعاد والإحساس بالخسران بعد الطلاق بأحد الزوجين المنفصلين إلى إعادة التشبث بقارب العلاقة والدفع به مجددًا لليمّ علّه يرسو سالمًا على مرفأ الحياة مجددًا
لكن للطلاق غرائبه وعجائبه، إذ يحاول بعض المطلّقين جاهدين البقاء في مطلق العلاقة التي انتهت قانونًا وظلت لها ترسّبات نفسيّة، يسعون للإقامة فيما بين الانفصال والاتصال وتجنّب الحسم النهائي في العلاقة القديمة والإصرار الغريب على عدم الانفصال النهائي.
يبقى الزوجان على اتصال بسبب الأطفال أو حتى دونهم، إذ يدفع البعاد والإحساس بالخسران بأحد الزوجين المنفصلين إلى إعادة التشبث بقارب العلاقة والدفع به مجددًا لليمّ علّه يرسو سالمًا على مرفأ الحياة مجددًا. وبعد الطلاق وما يخلفه من هتك في الذات، تتشكل علاقات من جديد ويعود الحبّ ليسرى في العروق، ويلخّص كل الحكاية المثل التونسي القديم "طلّقها وعشقها".
نتساءل هنا عن العشق بعد الطلاق، هل هو عشق عفوي مغمور بالحب أم عشق مرضي ينشأ مع معاناة المطلّق ليزيد من تأزم الذات؟
"ألترا تونس" رصد بعض حكايا الحب التي تشكلت ونشأت بعد الطلاق كمرج أخضر يانع في أرض كالح، قصص إنسانية إلى أبعد الحدود ربّما لا عنوان لها إلا واحدة من أرقى أغاني أم كلثوم "هو صحيح الهوى غلّاب؟".
"أنقذت نفسي بالعودة إلى كتابة الشعر"
بإحدى مقاهي باب الخضراء بالعاصمة، التقينا محمد العباسي، شاب على عتبات الكهولة، لكن لباسه الرياضي لا يشي بذلك إذ يرتدي دجينزًا أزرق وحذاءً رياضيًا أبيض اللون. دلفنا معًا إلى عمق المقهى، وضع قبعته الرياضية السوداء على كرسي حذو مجلسه أمّا علبة سجائره الفاخرة والولاّعة الفضية فوضعهما فوق الطاولة الخشبية للمقهى العتيق.
كانت رائحة "الشيشة" (النارجيلة) تملأ المكان لكن الحديث مع محمد عن الحب كان مرفوعًا على أعمدة فنّ الشعر. فبعد الرشفات الأولى للشاي المنعنع وأسئلة البدايات، تداعى الضيف للحديث عن طليقته الحبيبة قائلًا: "بعد ثلاث سنوات من الزواج تسببت خلافات عائلية بسيطة في الطلاق. لم أصدق في البداية ما حصل وفجأة وجدتني وحيدًا بلا رفيقة. أعيش في العراء العاطفي وتحفني الكآبة والوحدة".
محمّد العباسي لـ"الترا تونس": زاد تعلقي بها عندما تناهى إليّ خبر مفاده أنها سترتبط من جديد. شعرت أنّني سأفقد جزءًا من كياني وأن وحدتي ستزداد قسوتها
يضيف محمد: "قضّيت ليال بأكملها أتأمّل ما حدث علّي أستوعب الحكاية لكن ما خلصت إليه هو أنّني بتّ أبحث عن طريق للعودة لقلب زوجتي. لقد أحسست بحب جارف نحوها لم يكن موجودًا في السابق، نبت هذا الحب على حواف روحي الشريدة الوحيدة، فبتّ أتصل بها عبر كل الوسائل لأعبّر لها عن خوالجي الجديدة، عن عشقي وعن حبي الوليد".
ويقول عن طليقته إنها "كانت حذرة وغير مصدّقة لمشاعري. وقد زاد تعلّقي بها عندما تناهى إليّ خبر مفاده أنها سترتبط من جديد. شعرت أنّني سأفقد جزءًا من كياني وأن وحدتي ستزداد قسوتها".
لمعت عينا محمد وتاهت نظرته بين دخان سجائره التي لم تفارق شفتيه مذ جلسنا، وواصل حديثه بكل هدوء: "كنت مسهودًا وقلقا لأيّام متتالية لكن الكتابة كانت هي الظل الذي تفيّأت كي أرتاح. لقد عدت إلى كتابة الشعر بعد سنوات من الانشغال باليومي، عدت إلى تشقيق اللغة والسهر مع الكلمات ومن معانيها أداوي جراحي وأسقي حبّي".
فتح محمد هاتفه النقال وبصوت منخفض قرأ، على مسامعنا، قصيدته الأولى ومطلعها:
"امنحيني كف يديك غيمة للبعاد..
امنحيني كل المساءات كي أرتب لياليّ، على مقاس أحزاني الجديدة..
امنحيني شرفة حب أخيرة، لأكتب للطير مراسيل اسفاره القديمة..
امنحيني دروب الوردة علّي أتهجى اسمك على ضوء الاقمار البعيدة..
امنحيني لغة النجوى فالحب سهر وتسهيد..
امنحيني أنّات الموج وقلق الكمنجات وظل الأنجم السعيدة..".
عن تقبل طليقته لقصائده العديدة، يقول محدثّنا المطلّق عاشق طليقته "هي في قرارة نفسها تتمتع بما أكتب بل وأدرك أنها تقرأ أشعاري وتحتفظ بها رغم عدم تصريحها بذلك"، ويضيف أنه أقنعها، في الآونة الأخيرة، بضرورة التلاقي ولو خلسة حتى يقنعها بجدوى الحب الجديد ويبدو أنها لانت لذلك، كما يقول، وهو ما حدا به لكتابة قصيدة جديدة عنوانها "بوح آنية الزهر".
وعلى وقع الأمل بلقاء طليقته أو حبيبته، ختم محدثنا بأن طلاقه كان حافزًا للكتابة، وحافزًا للحب النقي الصافي، وحافزا أيضًا لنشر قصائده، إذ أخبرنا أنه تواصل مع دار نشر من أجل إصدار عمله الشعري الأوّل.
"لن ألين عن حبّ طليقتي"
أنيس المتهمّم، الذي التقيناه صدفة في أحد مجالس الأصدقاء بإحدى مقاهي "لافيات" بالعاصمة، حدثنا بدوره ومن دون ترددّ: "نعم طلّقتها وعشقتها" وأردف قائلًا: "شاءت الأقدار أن نفترق بالتراضي وذهب كل واحد منا الى حال سبيله. لكنني ومن دون أن أجد تفسيرًا لذلك وجدتني بعد أشهر قليلة أشتاق إليها فبتّ أترصدها من بعيد وأنتظر عودتها من العمل وأراقب كل خطواتها. لقد تعمق تعلّقي بها حتى صار حبًا جارفا وأصبحت فاتنتي من جديد".
يضيف محدثنا: "عندما كنا في زمن الخطوبة لم يكن حبي لها بهذا الحجم أما الآن فإني عاشق إياها وقد أعلمتها بذلك لكنها لم تعرني أي اهتمام بل وأصبحت تمعن في لامبالاتها معي لكن لن ألين عن حبّي وسأواصل".
لافتة أمام مقرّ عمل الطليقة: أنا أحبّك!
أحمد السعيداني، كان يشتغل ممرضًا بإحدى قرى الشمال الغربي وهو الآن مفصول عن العمل جرّاء قصة حبه لطليقته التي تعمل معه في نفس وحدة الصحة الأساسية بالقرية. وقد غادر نحو العاصمة ليشتغل حاليًا بإحدى المصحات الخاصة.
التقينا أحمد بكافيتيريا مجاورة للمصحة التي يعمل بها، وعلى إيقاع قهوة سريعة حكى ضيفي قصته، وقد كان متوترًا بعض الشيء وهو يقول "الله يهدي من كان السبب" مسترسلًا: "كانت حياتي عادية وكنت متميزًا في عملي وأستعد للهجرة أنا وزوجتي إلى إحدى دول الخليج العربي، لكن هناك من تدخل في حياتي الزوجية فنسفها نسفًا فجنحت للطلاق كحل ظرفي".
أحمد السعيداني لـ"الترا تونس": تلك المرأة قدري وحبي ولن أتخلى عن ذلك أبدًا. وأنا الآن بصدد وضع "تكتيك" جديد لاستعادتها من جديد
يتحدث عن طلاقه: "شعرت وقتها بغربة وألم شديدين. كنت أرى طليقتي في العمل ولا أكلّمها ولا أقربها إلى حين حاول أحدهم اقتحام حياتها قصد الارتباط، وعندها تفجرت براكين الحب والعشق بداخلي فأعلنت بصوت مرتفع عن حبّي الشديد لها عبر لافتة كبيرة ثبّتها أمام مقر العمل فكان الأمر بمثابة الحدث الذي هز القرية بأكملها بين مستحسن ومستهجن. ونشبت خصومة بيني وبينها داخل مقر العمل أدت إلى إحالتي على مجلس التأديب ثم رفتي".
ويضيف أحمد: "كنت لا أبالي لتتالي هذه الأحداث فهمّي الوحيد هو كسب قلبها مجددًا ونيل رضا ودها وألا يفوز بها رجل آخر" ويختمه حديثه قائلًا "تلك المرأة قدري وحبي ولن أتخلى عن ذلك أبدًا. وأنا الآن بصدد وضع –تكتيك- جديد لاستعادتها من جديد".
مختصة في علم النفس: هو حبّ مرضي ينشأ بعد الطلاق
ذهبنا بقصص وحكايا "طلّقها وعشقها" إلى المختصة في علم النفس والباحثة بالجامعة التونسية سوسن درين التي أفادت أن هذه الظاهرة تُسمّى في علم نفس الزواج بحالة "انفصام الزوج"، وتُفسّر بخوف المطلق من الفقد وعادة ما يكون هؤلاء الرجال قد تعرضوا إلى حوادث فقد قاسية في طفولتهم يظل ألمها النفسي مرافقا لهم طيلة حياتهم.
وتبيّن أن الحبّ الذي ينشأ بعد الطلاق هو "حب اعتلالي مرضي بل هو ردة فعل تجاه حدث الطلاق. هو عشق في ظاهره جميل ومشبع بالفنّ وفيه بذل من الذات تجاه الآخر، لكن في حقيقة الأمر صادر عن شخصية سايكوباثية عصابية تحاول إشباع الذات التي تشعر بالألم والانهزامية من خلال سعيها إلى التظاهر بالكفاءة والتوازن".
سوسن درين، مختصة في علم النفس لـ"الترا تونس": الحبّ الذي ينشأ بعد الطلاق هو حب اعتلالي مرضي بل هو ردة فعل تجاه حدث الطلاق
وأضافت درين، في حديثها لـ"ألترا تونس"، أن الزواج هو "اتحاد طبيعي لا يقوم على القوانين فقط بل يقوم أيضًا على العواطف السليمة المتأصلة، فإذا تلاشت تلك العواطف فلن تستطيع القوانين وعادات المجتمع حماية الزواج من الاندثار لذلك يكون الطلاق بمثابة الإنهاء لحالة عدم التكيّف والاتساق بين السمات النفسية لشخصية كلا الشريكين ولذلك وجب الحذر والتوقي" وفق قولها.
وعن الدراسات النفسية لوضعيات "طلّقها وعشقها" في تونس، أوضحت المختصة في علم النفس أنها منعدمة تمامًا ومرد ذلك هو انشغال علم النفس في تونس بوضعيات اجتماعية وفردية شائكة ومتلبسة بالمجتمع مثل إنتحار المراهقين والتسرب المدرسي والانحراف والاغتصاب، وذلك بصفة أساسية.
خلاصة، إن الحبّ الجارف من المطلّق تجاه مطلّقته بعد الزواج، والذي عبّر عنه أجدادنا منذ القدم بمثل "طلّقها وعشقها"، يبقى، مبدئيًا، من الظواهر النفسية المعزولة التي يبدو ظاهرها طريفًا وجميلًا وربما غريبًا، ولكن باطنها يتطلّب نظر وتحقيق. ولكن كم من متطلّقين عادا إلى عش الزّوجية مجددًا، وانتصر حبّهما على كل المطبّات في نهاية المطاف.