هل حدث أن شعرت أنّك لا تريد الاستيقاظ من فراشك صباحًا للالتحاق بوظيفتك؟ أو وجدت نفسك في حالة من العزلة وسط زملائك تجنّبًا لأحاديثهم أو وصلت لمرحلة أنّك لم تعد تريد أن تواصل في نفس الوظيفة نظرًا لحالة من فقدان الشغف التي تحسّ بها؟
إذا عشت بعضًا من هذه المواقف أو جلّها، فلا تستهن بالأمر فأنت تمرّ بحالة مهنيّة خطيرة يمرّ بها الآلاف من العاملين دون أن يعرفوا لها تشخيصًا. يحاولون جاهدين مجاراتها خوفًا من فقدان أماكن عملهم أو هربًا من مواجهة أعباء تثقلهم.
الاحتراق الوظيفي حالة مهنيّة خطيرة يمرّ بها الآلاف من العاملين دون أن يعرفوا لها تشخيصًا وخاصّة خلال السنوات الأخيرة
وقد تعدّدت الدراسات التي تحدّثت عن هذه الحالة التي تسمّى "الاحتراق الوظيفي" وخاصّة خلال السنوات الأخيرة مع دخول العالم الرقمي ليوميّات الموظّف ممّا زاد الأمر تعقيدًا.
وللوقوف على هذه الظاهرة، تواصل "الترا تونس" مع أخصائيّة الصحّة الوقائيّة الجسديّة والنفسيّة والمختصّة أيضًا في الصحّة المهنيّة أحلام بلغاوية، حيث تناولنا معها كلّ الجوانب المتعلّقة بالاحتراق الوظيفي من أسباب وأعراض وطرق علاج وتجدون كلّ التفاصيل في هذا الحوار.
وللإشارة فإنّ بلغاوية مشرفة على أكثر من 2000 موظّف في أكبر مراكز البحث في أوروبا ولها من الخبرة الكثير في هذا المجال.
- ما معنى مصطلح الاحتراق الوظيفي ومتى ظهر؟
الاحتراق الوظيفي هو حالة من الإرهاق النفسي والجسدي والعقلي تصيب الموظفين نتيجة ضغوط العمل المستمرة، مثل طول ساعات العمل أو تحديات بيئة العمل. ويؤدي غياب التقدير للجهود المبذولة، إلى جانب عدم التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، إلى تفاقم هذه الحالة، مما يتسبب في تراجع الشغف والحماس للعمل ويؤثر سلبًا على الإنتاجية والتركيز.
أخصائية الصحة الوقائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": غياب التقدير للجهود المبذولة إلى جانب عدم التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، يؤدي إلى تفاقم حالة الاحتراق الوظيفي
في الحالات المتقدمة، قد يصبح الشخص غير قادر تمامًا على العمل، حيث يؤثر الاحتراق الوظيفي أيضًا على صحته الجسدية من خلال اضطرابات النوم، وضعف جهاز المناعة، وآلام جسدية مستمرة.
وقد ظهر هذا المصطلح لأوّل مرة في السبعينيات على يد الطبيب النفسي الألماني الأمريكي هربرت فرويدنبرجر (Herbert Freudenberger)، ونشر دراسة عام 1974 تناولت هذه الظاهرة بين العاملين في قطاع الرعاية الصحية، ووصف كيف يؤدي الإجهاد المستمر إلى الإنهاك النفسي والعاطفي. وتوسع لاحقًا مفهوم الاحتراق الوظيفي ليشمل العديد من المهن الأخرى، وأصبح محور اهتمام واسع لدى الباحثين، خاصةً في مجالات علم النفس والإدارة.
- ما الفرق بين الاحتراق النفسي والوظيفي؟
الاحتراق النفسي هو شعور بالتعب الجسدي والعاطفي ينتج عن ضغوط مستمرة، ويمكن أن يظهر في مجالات متعددة من الحياة، بينما الاحتراق الوظيفي يركز على الضغوط المرتبطة بالعمل بشكل خاص.
وفضلاً عن ذلك نجد الاحتراق العائلي الذي يظهر عندما يواجه الأفراد مسؤوليات كبيرة في رعاية الأسرة، مثل تربية الأطفال أو الاعتناء بالمسنين، مما يزيد من الشعور بالتعب.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": الاحتراق النفسي يمكن أن يظهر في مجالات متعددة من الحياة منها الاجتماعي والعاطفي
والاحتراق العاطفي الذي يحدث نتيجة الضغوط المستمرة في العلاقات الشخصية، سواء كانت عائلية أو رومانسية. هذا النوع يمكن أن يؤدي إلى مشاعر الإحباط وفقدان الدافع.
هناك أيضًا الاحتراق الاجتماعي المرتبط بالتوتر الناجم عن التفاعلات الاجتماعية والعلاقات الشخصية. ويمكن أن يؤدي الضغط الاجتماعي إلى شعور بالإجهاد.
أمّا الاحتراق الدراسي فيعاني منه الطلاب بسبب الضغط الأكاديمي والمهام المتزايدة، مما يؤدي إلى شعور بالإرهاق العقلي والعاطفي.
وظهر اليوم مصطلح الاحتراق الرقمي وهو نوع حديث من الاحتراق يحدث نتيجة الاستخدام المفرط للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن أن يؤدي التعرض المستمر للمعلومات والضغط للتواصل بشكل دائم إلى شعور بالاستنزاف العقلي وفقدان التركيز.
- ما هي مراحل الاحتراق الوظيفي؟
وفقًا لمعيار "Maslach Burnout Inventory" الذي وضعته عالمة النفس كريستينا ماسلاك، والذي يُعتبر من الأدوات الأكثر استخدامًا في قياس مستويات الاحتراق الوظيفي، يتضمن الاحتراق الوظيفي عدة مراحل متدرجة:
أوّلها مرحلة الحماس المفرط الذي يظهر فيه الفرد حماسًا غير متوازن تجاه عمله. حيث يعمل بشغف كبير ويضع معايير عالية لنفسه، مما يزيد الأعباء الملقاة على عاتقه فيصبح مفرطًا في سعيه لتحقيق الإنجازات. كما يميل الشخص إلى عدم الانتباه للعلامات التي تشير إلى حاجته للراحة أو الاسترخاء.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": يتضمن الاحتراق الوظيفي عدة مراحل متدرجة تمر من الحماس المفرط إلى الشعور بالتعب والإرهاق وصولاً إلى الانعزال والاحتراق الكامل
مع مرور الوقت، يبدأ الشعور بالتعب والإرهاق في الظهور، حيث يجد الفرد نفسه غير قادر على الحفاظ على مستوى الطاقة والحماس كالسابق. وتتزايد مستويات القلق والتوتر، مما يؤثر على جودة العمل، وهنا نتحدث عن الإرهاق التدريجي.
أما في مرحلة الإحباط والتشاؤم، تبدأ مشاعر الإحباط في الظهور نتيجة عدم تحقيق الأهداف المرجوة وتراجع مستوى الإنجاز في العمل، مما يؤدي إلى انخفاض كبير في الدافعية والرغبة في أداء المهام. يشعر الفرد باليأس ويفقد الثقة في قدرته على تحقيق النجاح، مما يعزز نظرته السلبية تجاه العمل ويزيد من استعداده للانسحاب.
تليها مرحلة الانعزال حيث يميل الفرد في هذه المرحلة إلى الانعزال عن زملائه وتجنب التفاعل الاجتماعي. تتزايد مشاعر العزلة، وينخفض مستوى التعاون والمشاركة في بيئة العمل.
وأخيرًا مرحلة الاحتراق الكامل التي يصل الفرد خلالها إلى حالة من الإنهاك الشديد، حيث يشعر بالعجز عن مواصلة العمل. وقد تظهر عليه أعراض جسدية ونفسية مثل الاكتئاب والقلق، مما يجعل من الصعب استعادة الحماس أو الأداء الجيد في العمل.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": أسباب الاحتراق الوظيفي عديدة وتشمل ضغط العمل المفرط وغياب التقدير والاعتراف
- ما هي أسباب الاحتراق الوظيفي؟
تُعَد ظاهرة الاحتراق الوظيفي نتيجةً لتفاعل عدة عوامل تتعلق بالبيئة العملية والنفسية للفرد. وفيما يلي أهم الأسباب التي تسهم في ظهور هذه الحالة:
ضغط العمل المفرط وطول ساعات العمل: يُعتبر ضغط العمل المفرط وطول ساعات العمل دون فترات كافية للراحة من الأسباب الرئيسية التي تسهم في ظاهرة الاحتراق الوظيفي. فالعمل تحت ضغط مستمر يُعزز مستويات القلق والتوتر، مما ينعكس سلبًا على الصحة النفسية والجسدية ويؤدّي إلى استنزاف الطاقة.
عدم التوازن بين العمل والحياة الشخصية: يواجه الكثير من الأفراد صعوبة في تحقيق التوازن بين متطلبات العمل والتزامات الحياة الشخصية. عدم القدرة على الفصل بين العمل والحياة الشخصية يؤدي إلى استنزاف الطاقة النفسية ويزيد من مشاعر الإرهاق. هذا الاختلال يؤثر سلبًا على جودة العلاقات الاجتماعية، حيث يقلل من فرص التفاعل مع الأصدقاء والعائلة، مما يُسبب شعورًا بالعزلة ويفقد الفرد الدعم الاجتماعي الذي يحتاجه.
غياب التقدير والاعتراف: يُعتبر التقدير والاعتراف بالجهود المبذولة من العناصر الأساسية التي تُسهم في تعزيز الدافع والإنتاجية لدى الموظفين. إن عدم الاعتراف بالإنجازات يُعمق مشاعر الإحباط والقلق بشأن القيمة الشخصية للموظف في بيئة العمل، ويُضعف ثقته بنفسه، مما يؤثر سلبًا على أدائه، ويزرع فيه شعورًا بانعدام القيمة. وهو ما ينعكس بدوره سلبًا على أدائه وإنتاجيته. ومع مرور الوقت، تُفاقم هذه المشاعر الاحتراق الوظيفي، حيث يتحول الموظف من شخص متحمس يسعى للإنجاز إلى فرد مُستنزف عاطفيًا.
نقص الدعم الاجتماعي: تُعتبر البيئة الاجتماعية في العمل عنصرًا مهمًا للحفاظ على الصحة النفسية. عدم توفر الدعم من الزملاء أو المديرين يمكن أن يزيد من مشاعر العزلة والضغط النفسي. عندما يفتقر الأفراد إلى شبكات الدعم، يصبح من الصعب عليهم التعامل مع الضغوطات اليومية، مما يُسهم في تفاقم الاحتراق الوظيفي.
سوء إدارة الموارد: إذا كانت الموارد البشرية تُدار بشكل غير فعال، قد يُواجه الموظفون أعباءً غير متناسبة مع إمكانياتهم. الإدارة السيئة للمهام وتوزيع العمل بشكل غير عادل تؤدي إلى شعور الموظف بالتوتر والإرهاق.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": علامات الاحتراق الوظيفي عديدة وتظهر بشكل تدريجي ومن أبرزها التراجع في مستوى الأداء والإنتاجية
نقص فرص التطوير المهني: يُعتبر غياب فرص التطوير والنمو الوظيفي من العوامل الرئيسية للاحتراق الوظيفي. فعندما يشعر الموظفون بعدم توفر مسارات واضحة للنمو، يتولد لديهم إحساس بالركود. ويُسهم نقص البرامج التدريبية وغياب الفرص للارتقاء في تعزيز مشاعر الاستياء واللامبالاة، مما يؤدي في النهاية إلى انخفاض الحماس والالتزام بالأهداف المؤسسية.
- ما هي علامات الاحتراق الوظيفي؟
تظهر علامات الاحتراق الوظيفي بشكل تدريجي، وتؤثر على الجوانب النفسية والجسدية للفرد. وتشمل هذه العلامات ما يلي:
انخفاض الأداء: يُلاحظ تراجع في مستوى الأداء والإنتاجية، حيث يصبح الأفراد أقل كفاءة في إنجاز مهامهم.
انخفاض التركيز: يعاني الموظفون من صعوبات في التركيز، مما يؤدي إلى تزايد الأخطاء وصعوبة في اتخاذ القرارات.
انفعالات مفرطة: تظهر الانفعالات بشكل مفرط، حيث يصبح الأفراد أكثر عرضة للتوتر والغضب، مما يؤثر سلبًا على علاقاتهم بالزملاء.
مشاكل في الذاكرة: يعاني بعض الأفراد من مشاكل في الذاكرة، حيث يجدون صعوبة في تذكر المعلومات أو المهام، مما يزيد من شعورهم بالإحباط.
التأثير الجسدي: يمكن أن يؤدي الاحتراق الوظيفي إلى مجموعة من المشكلات الجسدية، مثل: الاكتئاب واضطرابات النوم واضطرابات الجهاز الهضمي وتغيرات في الوزن.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": الاحتراق الوظيفي قد يؤدي إلى جملة من المشكلات الجسدية وقد يتسبب في ظهور الاكتئاب
- كيف نحمي أنفسنا من الاحتراق الوظيفي؟
لحماية الموظف نفسه من الاحتراق الوظيفي، يجب اتباع مجموعة من الاستراتيجيات الوقائية التي تساعده في تعزيز صحته النفسية والجسدية لمواجهة الضغوط قبل أن تتراكم.
الاهتمام بالصحة الجسدية: حيث يُنصح الموظف بممارسة الرياضة بانتظام، مثل المشي أو الركض لمدة 30 دقيقة ثلاث مرات أسبوعيًا. إذ تساعد هذه التمارين على تحسين المزاج وزيادة مستوى الطاقة، مما يرفع من قدرة الموظف على التعامل مع ضغوط العمل.
الغذاء المتوازن والمكملات الغذائية: من المهم أن يحرص الموظف على نظام غذائي متوازن. فالتقصير في بعض العناصر الغذائية، مثل فيتامين D، والمغنيسيوم، وفيتامين B12، يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالإرهاق وضعف التركيز، مما يؤثر سلبًا على الأداء الوظيفي.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": يجب اتباع مجموعة من الخطوات للوقاية من خطر الاحتراق الوظيفي منها العناية بالصحة الجسدية والنفسية
العناية بالصحة النفسية من خلال التأمل وتمارين اليقظة الذهنية: يُعتبر التأمل أداة فعّالة في تقليل التوتر وزيادة التركيز. يمكن للموظف الاستفادة من تطبيقات مجانية مثل Headspace وCalm التي تقدم جلسات تأمل مناسبة لجميع المستويات. أما تمارين اليقظة الذهنية، فتساعد على تعزيز الوعي والتركيز في اللحظة الحالية، ويمكن تطبيقها من خلال أنشطة بسيطة مثل التدوين، والرسم، أو كتابة المشاعر، مما يسهم في تخفيف الضغوط النفسية. يُنصح بالتفريغ النفسي من خلال الكتابة اليومية أو التحدث مع أشخاص إيجابيين، وذلك للتخلص من الأفكار المتراكمة. كما أن ممارسة الامتنان وتقدير الإنجازات يعزز من الثقة بالنفس ويبعث على الرضا.
إدارة الوقت وتحديد الأولويات: تساعد مهارات إدارة الوقت الموظف على ترتيب المهام وتركيز الجهود على الأولويات، مما يقلل من الشعور بالإرهاق الناتج عن العمل المتواصل. تقسيم المهام الكبيرة إلى خطوات صغيرة يسهم في تحسين التركيز ويخفف من التوتر.
فصل العمل عن الحياة الشخصية: من المهم أن يضع الموظف حدوداً واضحة بين الحياة المهنية والشخصية لضمان التوازن المطلوب. يمكن تخصيص أوقات محددة للراحة والابتعاد عن العمل، إضافةً إلى نشاطات شخصية واجتماعية تعيد إليه الحيوية.
- هل هناك علاج فعّال عند الوصول لهذه المرحلة من الاستنزاف؟
إذا بدأت أعراض الاحتراق الوظيفي في الظهور، فمن الضروري اتخاذ خطوات علاجية سريعة:
التقليل من الأعباء: يمكن للموظف طلب تعديل المسؤوليات أو تخفيفها، وإعادة ترتيب أولوياته أو تقليص ساعات العمل إذا لزم الأمر لتقليل التوتر واستعادة التوازن.
التواصل مع الإدارة: عندما يظهر الإرهاق، من المفيد أن يتحدث الموظف مع مديره لطلب دعم أو تعديل المهام، هذا التواصل المباشر قد يُسهم في إيجاد حلول تخفف من الأعباء.
أخذ إجازة للتعافي: في بعض الحالات، قد يكون من الضروري أن يحصل الموظف على إجازة مؤقتة ليمنح نفسه الوقت للتعافي، مما يمكنه من العودة إلى العمل بحيوية وتوازن أفضل.
اللجوء إلى مختص نفسي: في الحالات المتقدمة من الاحتراق الوظيفي، يُنصح باللجوء إلى دعم المختصين النفسيين. يمكن للمختصين تقديم المشورة والدعم اللازمين لمساعدة الموظف على التعامل مع الضغوط النفسية واستعادة التوازن في حياته العملية.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": الاحتراق الوظيفي يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية بنسبة تصل إلى 25% كما يزداد معدل التغيب لدى الموظفين بنسبة 50%
- ما هو أثر الاحتراق الوظيفي على المؤسسة وإنتاجيّتها؟
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، فإن الاحتراق الوظيفي يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية بنسبة تصل إلى 25%، إذ يعاني الموظفون المتأثرون من تراجع القدرة على التركيز، مما ينعكس سلبًا على جودة العمل وأدائه.
ويظهر ذلك أساسًا من خلال زيادة التغيب عن العمل، فحسب دراسة أجرتها جمعية علم النفس الأميركية (APA) نجد أن الموظفين الذين يعانون من الاحتراق الوظيفي يكونون أكثر عرضة للتغيب عن العمل، إذ يزداد معدل التغيب لديهم بنسبة 50% مقارنة بالموظفين غير المتأثرين. وهذا الأمر يؤدي إلى تكاليف إضافية على المؤسسات نتيجة الحاجة لتوظيف بدلاء أو دفع تعويضات للموظفين الذين يغطون غيابات زملائهم.
كما يظهر أيضًا من خلال انخفاض الروح المعنوية والتي تحدّثت عنها دراسة نُشرت في المجلة الأكاديمية "Journal of Organizational Behavior"، حيث يشعر حوالي 60% منهم بتراجع في الدافعية والانخراط في العمل. وهذا الانخفاض يؤثر سلبًا على التعاون والإبداع داخل المؤسسات.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": خسائر مالية كبيرة للمؤسسات بسبب تداعيات الاحتراق الوظيفي
بالإضافة إلى ارتفاع نسب الانتقال الوظيفي، فوفقًا لدراسة نشرت في المجلة العلمية الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة "International Journal of Environmental Research and Public Health"، فإن الاحتراق الوظيفي يسهم في مغادرة 25% من الموظفين لوظائفهم خلال عام واحد، مما يتسبب في خسائر مالية كبيرة للمؤسسات نتيجة تكاليف التوظيف والتدريب.
- كيف يمكن أن تساهم المؤسسة في حماية الموظفين من الاحتراق الوظيفي؟
تُعتبر المؤسسات جزءًا أساسيًا في حماية صحة موظفيها، حيث تلعب دورًا أساسيًا في الوقاية من الاحتراق الوظيفي، مما يتطلب من المؤسسات تبني استراتيجيات فعّالة تشمل التدريب والتوعية، مثل:
التوعية بمخاطر الاحتراق الوظيفي: من الضروري تنظيم ورشات عمل وحملات توعية دورية لتثقيف الموظفين بشأن مخاطر الاحتراق الوظيفي وأعراضه. هذا يساعدهم في التعرف على العلامات المبكرة للاحتراق، مما يمكنهم من اتخاذ خطوات وقائية.
تدريب الموظفين على مهارات جديدة: يجب أن تقدم المؤسسات برامج تدريبية تركز على تطوير المهارات الصحية والمهنية والشخصية. يشمل ذلك تعليم الموظفين تقنيات إدارة الوقت، والتواصل الفعّال، والقدرة على اتخاذ القرارات، مما يعزز من ثقتهم في التعامل مع التحديات اليومية.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": المؤسسات تلعب دورًا أساسيًا في الوقاية من الاحتراق الوظيفي وحماية صحة موظفيها
تطوير المهارات الصحية: يجب أن تشمل البرامج التدريبية أيضًا تعزيز المهارات الصحية، مثل تقنيات التعامل مع الضغوط النفسية والتوازن بين الحياة والعمل. تعليم الموظفين أساليب الاسترخاء مثل التأمل واليوغا يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير على صحتهم النفسية.
توفير بيئة عمل مرنة: يعتمد نجاح استراتيجيات مكافحة الاحتراق الوظيفي بشكل كبير على توفير بيئة عمل مرنة. يُمكن للمؤسسات تطبيق نظام عمل مرن، مما يسهل على الموظفين إدارة التزاماتهم الشخصية والمهنية بشكل أفضل.
إنشاء نظام لتقييم دوري للجهود مع منح مكافآت أو الاعتراف بالمجهود: من الضروري أن تعتمد المؤسسات نظامًا منهجيًا لتقييم أداء الموظفين والاعتراف بمجهوداتهم. يجب أن يتضمن هذا النظام تقييمًا دوريًا يُبرز الإنجازات الفردية والجماعية، مما يساهم في تعزيز الدافع والتحفيز لدى الموظفين. من المهم أن يكون التقييم شفافًا ويستند إلى معايير موضوعية، مع تقديم ملاحظات بناءة حول الأداء.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تضمين آليات للاعتراف بالمجهودات من خلال تقديم مكافآت معنوية ومادية، مثل الشهادات التقديرية أو المكافآت المالية عند تحقيق الأهداف المحددة. يسهم هذا النوع من الاعتراف في تعزيز الروح المعنوية ويشجع الموظفين على بذل المزيد من الجهد والابتكار في العمل.
تطوير التواصل بين المؤسسة والموظف: يجب أن تُتاح للموظفين الفرصة للتعبير عن مخاوفهم واحتياجاتهم بحرية، مما يعزز شعورهم بالدعم والانتماء.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": هناك فجوة كبيرة بين بيئة العمل في تونس وبيئة العمل في دول غربية على غرار السويد وألمانيا
- كيف تقيّمين بيئات العمل في تونس مقارنة بالدول الغربية؟
رغم التطورات الملحوظة في بيئة العمل في تونس، إلا أن هناك فجوة كبيرة مقارنةً بالدول الغربية، مثل ألمانيا والسويد، حيث تُخصص هذه الدول ميزانيات ضخمة لدعم الصحة النفسية والجسدية للموظفين.
فمثلاً تخصص الحكومات في الدول الغربية، مثل ألمانيا، ميزانيات كبيرة لدعم صحة العمال، حيث تُقدر هذه الميزانيات بمئات الملايين من اليوروهات سنويًا. وتستثمر الحكومات الغربية في برامج صحية شاملة تشمل الوقاية والعلاج والدعم النفسي.
في المقابل، تظل البرامج الصحية الشاملة في تونس أقل تطورًا، مما يستدعي ضرورة تحسين هذا الجانب لضمان صحة الموظفين. ومع ذلك، حتى في ظل الميزانيات المحدودة، يمكن لتونس تحقيق تحسن ملحوظ في بيئة العمل من خلال الإرادة القوية والتصميم.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": الحكومات في الدول الغربية، تخصص ميزانيات كبيرة لدعم صحة العمال كما يتمتع المواطن الغربي بوعي عالٍ بحقوقه وواجباته
- ما هي الآليّات التي تعتمدها الدول الغربيّة من أجل خلق بيئة عمل متوازنة لموظفيها؟
من خلالي تجربتي الشخصيّة في المؤسسات الألمانية مثلاً، تحترم هذه الشركات خصوصية موظفيها بشكل كبير، مما يسمح لهم بالتحدث بحرية عن مشكلاتهم النفسية دون خوف من التعرض للانتقادات. توفر هذه الشركات خدمات الدعم النفسي من خلال شركاء متخصصين، مما يضمن أن معالجة المشكلات النفسية مثل الاكتئاب أو الاحتراق الوظيفي تتم بسرية تامة. الموظف يستطيع الوصول إلى الدعم دون الحاجة إلى الكشف عن هويته، مما يمنحه شعورًا بالأمان ويشجعه على طلب المساعدة. هذا النظام يعزز من قدرة الموظف على معالجة مشاكله النفسية دون أن يشعر بأنه أقل شأنًا من زملائه.
كما يتمتع المواطن الغربي بوعي عالٍ بحقوقه وواجباته، ويحرص على التحديث المستمر بمعرفة حقوقه العملية والقانونية، مما يعزز من مشاركته الفعّالة في بيئة العمل. في المقابل، يعتمد العديد من الموظفين في تونس على ما تلقوه من تعليم أساسي فقط، ما قد يؤدي إلى نقص في المعرفة الكافية بحقوقهم وواجباتهم الوظيفية.
إضافة إلى ذلك، تبرز أحيانًا "ثقافة الأخذ دون عطاء" لدى بعض الموظفين، حيث يميل البعض إلى التركيز على المكاسب الفردية دون النظر إلى أهمية التعاون والعمل الجماعي. هذا النقص في التعاون يمكن أن يخلق طاقة سلبية في بيئة العمل، ما يؤثر بشكل مباشر على الصحة النفسية للموظفين. لذلك، فإن تعزيز ثقافة العطاء المتبادل والتعاون يمكن أن يسهم في تحسين الإنتاجية ويخلق بيئة عمل إيجابية وداعمة نفسيًا، مما يقلل من التوتر ويساعد في مواجهة الاحتراق الوظيفي ويدعم رفاهية الجميع.
- في علاقة بساعات العمل، نتابع عديد المشاريع في دول غربيّة تدعو للتقليص من ساعات العمل، مقابل معدّل 8 ساعات عمل للتونسي، كيف تقيّمين ذلك؟
يعاني بعض الموظفين في تونس من ظروف عمل مرهقة، حيث تُفرض عليهم ساعات عمل إضافية تتجاوز 48 ساعة أسبوعيًا، وغالبًا دون تعويض كافٍ أو مراعاة للراحة الشخصية. وقد يُطلب منهم الحضور خلال عطلات نهاية الأسبوع أو بعد ساعات العمل الرسمية دون أي مقابل أو اعتراف رسمي، مما ينعكس سلبًا على صحتهم النفسية والجسدية.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": يعاني بعض الموظفين في تونس من ظروف عمل مرهقة حيث تُفرض عليهم ساعات عمل إضافية تتجاوز 48 ساعة أسبوعيًا
في المقابل، فإن لنهاية الأسبوع أهمية كبيرة في الدول الغربية، حيث تعتبر عطلات السبت والأحد مقدسة وتُخصص للراحة الشخصية والعائلية. في ألمانيا، على سبيل المثال، تغلق العديد من المتاجر والمؤسسات أبوابها يوم الأحد، ما يكرس ثقافة احترام الراحة. ويلتزم الموظفون عادة بساعات العمل المحددة، وأي عمل إضافي يتطلب موافقة مسبقة من الموظف ويُدفع كتعويض مادي إضافي. هذا الالتزام يعكس احترامًا أكبر لحقوق الموظفين ويعزز صحتهم النفسية، مما يساعدهم على تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة الشخصية ويقلل من الإجهاد الناجم عن العمل المفرط.
يُبرز هذا التفاوت أهمية تطوير قوانين عمل واضحة في تونس تحمي حقوق الموظفين وتلزم أرباب العمل بالالتزام بساعات عمل معقولة، بالإضافة إلى ضرورة منح الموظفين وقتًا كافيًا للراحة، سواء خلال عطلات نهاية الأسبوع أو ضمن نظام الساعات الإضافية المدفوعة، بهدف خلق بيئة عمل صحية ومستدامة للجميع.
- ما هي كلمة الختام التي توجّهينها للمهتمين بالصحّة النفسيّة للموظّف التونسي؟
إن تعزيز الصحة النفسية للموظفين يتطلب تكاملًا وتعاونًا فعّالًا بين المؤسسات، الموظفين، والدولة، حيث يلعب كل طرف دورًا حيويًا في خلق بيئة عمل صحية ومستدامة.
الأخصائية أحلام بلغاوية لـ"الترا تونس": تطوير قوانين عمل واضحة في تونس مهم لحماية حقوق الموظفين ومنحهم وقتًا كافيًا للراحة
إذ يتعين على الشركات الاستثمار في برامج التدريب والتطوير، وتعزيز ثقافة تقدير المجهودات، مما يساعد على تحسين الروح المعنوية للموظفين. كما أن تبني استراتيجيات مرنة، مثل ساعات العمل المرنة وتوفير استراحات منتظمة، يُعزز من توازن الحياة العملية والشخصية.
من جهة أخرى، يُعتبر الموظف جزءًا أساسيًا في هذه المعادلة. يجب على كل فرد أن يتحمل مسؤولية صحته النفسية، من خلال السعي للحصول على الدعم عند الحاجة، والمشاركة في البرامج التدريبية المتاحة. كما ينبغي على الموظف أن يدرك أهمية الاعتناء بصحته النفسية وطلب المساعدة عند الحاجة. إن الوعي بالمشكلات النفسية مثل الاحتراق الوظيفي والاكتئاب أمر بالغ الأهمية، ويجب على الموظف أن يتعلم كيفية التعرف على هذه العلامات والبحث عن الدعم اللازم.
أما الدولة، فتقوم بدور الرقابة والتشريع، فيجب عليها وضع القوانين التي تحمي حقوق الموظفين وتفرض معايير لضمان صحة العامل وسلامته. ومن الضروري أن تدعم الدولة برامج وطنية تهدف إلى تعزيز الصحة النفسية، وتوفير الموارد اللازمة لمؤسسات العمل، مما يسهم في خلق بيئة عمل آمنة ومشجعة.
المصادر:
• World Health Organization. (2019). Burn-out an "occupational phenomenon": International Classification of Diseases.
• American Psychological Association. (2020). Stress and Burnout in the Workplace.
• Bakker, A. B., & Demerouti, E. (2017). Job Demands-Resources Theory: Taking Stock and Looking Forward. Journal of Occupational Health Psychology.
• Gallup. (2019). The Cost of Employee Burnout.
• Hakanen, J. J., & Schaufeli, W. B. (2012). Burnout and Work Engagement Among Teachers. Journal of Educational Psychology.