14-فبراير-2021

تحتفظ الذاكرة الشعبية في الجنوب الشرقي خاصة بقصص "الهرابة" (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

في ربوع الجنوب التونسي وعلى امتداد أوديته وجباله الجرداء وصحرائه القاحلة كان الحب ينبض هناك ولا يزالون إلى اليوم يرددون قصص مجانين العشق في تلك القرى المتناثرة هنا وهناك.

في تلك التخوم تروي الجدات قصصهن وقصص عماتهن وخالاتهن ممن دفعن الغالي والرخيص من أجل تحدي العشيرة والهروب مع من سكن القلب والروح. إنهم "الهرابة"، عشاق حقيقيون وليسوا من صناعة أفلام ومسلسلات، وليسوا أيضًا أبطالاً خرافيين من أساطير الغابرين.

تحتفظ الذاكرة الشعبية في الجنوب الشرقي خاصة بقصص "الهرابة"، وتروي هذه القصص جرأة المحبوب وتحديه المخاطر وذكاء المحبوبة وجسارتها وهروبها مع حبيبها متحدية كل نواميس القبيلة

"الهرابة".. عشاق الماضي، تحتفظ الذاكرة الشعبية في الجنوب الشرقي خاصة بقصصهم، وتروي هذه القصص جرأة المحبوب وتحديه المخاطر وذكاء المحبوبة وجسارتها وهروبها مع حبيبها متحدية كل نواميس القبيلة ومواجهة المصاعب في سبيل أن تكون له ومعه وحده.

"خلافًا لما يصوّر، لقد كانت المرأة كالدرة التي لا يصلها إلا أشجع الرجال وأكثرهم مغامرة وأشدهم عزيمة، مقدام لا يخشى شيئًا في سبيلها، وكانت المرأة مستعدة لمواجهة الموت في سبيل حبها وعشقها"، هكذا يقول عماد بن صولة، أستاذ محاضر في الأنتروبولوجيا الثقافية، لـ"الترا تونس".

ويضيف "تلك المجتمعات المحافظة كانت تقوم على جملة من النواميس، ومن فسحات الحرية التي تكون في إطار محدد يشهد ولادة الحب وفرصة بين الرجل والمرأة للتلاقي والتعارف، كانت السوق أو عين الماء أو الزاوية، وهي غالبًا أماكن التعارف على الطرف الآخر".

اقرأ/ي أيضًا: رسائل الحب بين الأمس واليوم.. من سهاد المحبوب إلى السهر على فيسبوك

ويذكر الأستاذ بن صولة إحدى العادات القديمة وهي "الاحتطاب"، ففي فترة معيّنة من السنة يجمع شيخ وقور من القرية عددًا من الفتيات ويذهب بهن لجمع الحطب وهناك يحاول شباب القرية التقرب من البنات وإذا ما حدث انجذاب فإن الحطب الذي جمعته الفتاة يحمله الشاب كإشارة أن قلبه قد تعلق بها.

ويرى محدثنا أن "المجتمعات التقليدية كانت تؤمن بالحب وتحاول فتح الباب له وإن كان بشكل موارب"، مؤكدًا أن "هذه المجتمعات كانت دائمًا مليئة بالمشاعر الفياضة الصادقة".

أستاذ في الأنتروبولوجيا الثقافية: يجمع شيخ عددًا من الفتيات ويذهب بهن لجمع الحطب وهناك يحاول الشباب التقرب من البنات وإذا ما حدث انجذاب فإن الحطب الذي جمعته الفتاة يحمله الشاب كإشارة أن قلبه قد تعلق بها

يتابع حديثه لـ"الترا تونس" "العشق متجذر فينا ولم يكن سريعًا ولا ماديًا ولا مصلحيًا ومنفعيًا بل كان صادقًا جياشًا ولم يكن ينتظر أعيادًا صنعتها الرأسمالية من أجل الاستهلاك والتسويق، بل كان قويًا وفيًا لا يهاب الموت في سبيل ذلك الحب".

اقرأ/ي أيضًا: بائعو الورد: نبيع الورد ولكن لا نهديه إلى زوجاتنا!

من جانبه، يؤكد المختص في التراث محمد مرابط لـ"الترا تونس" أن "الهرابة" لم يكونوا من العشاق "العزّاب" فقط بل حتى المرأة المتزوجة كانت تتبع قلبها وتترك زوجها الذي لم تختره مثلًا وتهرب مع حبيبها، مشيراً إلى أن "هناك عادات وتقاليد تشيد بالمرأة التي تترك عشيرتها وتتحداها وتذهب مع حبيبها وحال وصولها على  فرس عشيقها تطلق الأعيرة النارية في السماء لاستقبالها وتذبح الشاة تحت قدميها وتعجن الحناء وتطلق الزغاريد وتتزوج من عشيقها".

ورغم معارضة العائلة وغضبها فإنها مع مرور الوقت تغفر لها، وفق المختص في التراث محمد مرابط. ويذكر مرابط أن "عمته تركت ابنها بعد أن ربطته في الرحى وذهبت إلى حبيبها فقد تزوجت غصبا عنها ولكنها ظلت وفية لحبيبها وهربت معه رغم رفض العائلة، التي اقتنعت في النهاية وأنجبت المرأة البنين والبنات وباتت رمز فخر في كل القرية".

فأن يتحدى العشاق نواميس وعادات القرية من أجل العشق فإن ذلك لم يكن عارًا بل مصدر فخر واعتزاز ومن رحم تلك الحكايات كُتبت قصائد الشعر الشعبي والأمثال الشعبية والأغاني التي ترددها الذاكرة التراثية إلى اليوم في صور رائعة، كما يحدثنا المرابط.

مختص في التراث: "الهرابة" لم يكونوا من العشاق "العزّاب" فقط بل حتى المرأة المتزوجة كانت تتبع قلبها وتترك زوجها الذي لم تختره مثلًا وتهرب مع حبيبها

ويضيف "كانت المرأة توجه رسائلها عبر نوع من الغناء يسمى في الجنوب الشرقي "البراش" ويتضمن رسائل مشفرة للحبيب، أما موعده فإنه يكون ليلاً في سكون الصحراء إذ تجتمع النسوة وتبدأ كل واحدة في "هزان الصوت" والطريف أن الحبيب تصله الرسالة ويرد بلحن المجيب".

ويقول محمد مرابط، أستاذ الموسيقى والمتخصص في التراث، إن من بين أشهر ما قيل "يا خال يا مولى الجمل أهدر هاي نركبوا الاثنين وإلا حدر"، والخال تعني الخليل والعشيق ولا يقصد بها الخال أخ الأم كما يعتقد البعض.

في الحقيقة، لسنا في حاجة لأن يعلمنا الآخر الحب ويذكرنا بأن نحتفل به، فقد كان العرب على مدى التاريخ عشاقًا ومجانينًا، تحفل بقصصهم كتب التاريخ ولم يكن الحب مقتصرًا على الرجال فقط بل إن النساء انتصرن لقلوبهن وهربن في اتجاه بوصلة الحبيب متحديات كل النواميس والقيود حتى في مجتمعات الجنوب التونسي.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الحب المرضي.. حينما يتحوّل الحب إلى أداة للتحكم في الشريك

الحب بعد الخمسين.. اختبار خطير للّياقة العاطفيّة (قصص حقيقية)