02-مارس-2022

يفتقد الاقتصاد التونسي لإكسير النشاط في الأنظمة المشابهة وهو المنافسة وذلك لوجود تكتلات لكبار المنتجين (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

لطالما كان الطريق نحو جهنم، مليئًا بالنوايا الحسنة.

 

"ليس للمجمّعات العائلية مصلحة في تمكن صغار الناشطين الاقتصاديين من حصة في السوق"، أشعلها السفير السابق للاتحاد الأوروبي بتونس باتريس برغاميني، ومضى، في حواره المثير للجدل مع جريدة لوموند ذات صائفة 2019، قبيل الانتخابات الأخيرة.

اعتمدت هذه الكلمات بعد ذلك، كدليل قاطع وإجابة شافية، للجماهير الحائرة الباحثة عن إجابة للسؤال التاريخي: لماذا فشلنا وتقدموا؟ اشتغلت بعد ذلك المخيلة المؤامراتية بأقصى سرعتها، والتي كان السياق الانتخابي آنذاك منعشًا لها، فأثرت الخطب المتشنجة حول ضرورة "تحرير" الاقتصاد و"محاربة الريع" المنابر الإعلامية والساحات، لتتلقاها أفئدة أرهقتها رحلة البحث عن الرفاه الضائع، فازدهرت تجارة صانعي القوالب الجاهزة والحلول سريعة التحضير، فحمّل "الريعيون"، أصحاب الريع والمنظومة الريعية، وزر الخطايا السبعة، لتتربع عبارة "إلغاء الرخص" على عرش الحلول السحرية للمرحلة الراهنة. 

اقرأ/ي أيضًا: بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح

  • الخلط المفاهيمي: جينيالوجيا الريع والإطار الإيديولوجي 

بالعودة إلى المعاجم الكلاسيكية، نجد أن الريع مرتبط أساسًا بالدخل الناتج عن مورد ما، عادة طبيعي (خلافًا للربح الذي يكون عادة نتيجة عملية إنتاج)، كالحال مع دول الخليج التي لها موارد نفطية، لهذا تُوصف اقتصاداتها بالريعية. كذلك يمكن أن يكون في شكل أراضي زراعية أو مناجم. أيضًا، قد تشكّل الملكية الفكرية أو حقوق النشر، ريعًا لأصحابه، نظرًا لأنها توفر مدخولًا ماديًا مقابل الاستفراد بملكية ما. 

تختلف القراءات التاريخية لجذور المنظومة الريعية التونسية، بين من يرى أنها تعود إلى فترة الموحدين، أو إلى الفترة الحسينية. لكن الثابت بين مختلف القراءات، أن المنظومة الريعية هي منظومة ممتدة في التاريخ الاقتصادي في تونس

إلا أن الريع في تونس، وبالخصوص الريع المتداول إعلاميًا، يخص نوعًا مختلفًا، يعرّفه الكاتب عزيز كريشان  كما يلي: "إنّ المكسب الذي يقوم عليه النظام الريعي في تونس هو المكسب السياسي، مكسب مرتبط بالسلطة السياسية والولاء لها".

تختلف القراءات التاريخية لجذور المنظومة الريعية التونسية، بصيغتها التي عرفناها سابقًا، بين من يرى أنها تعود إلى فترة الموحدين (الصغيّر الصالحي في مؤلفه الاستعمار الداخلي)، أو إلى الفترة الحسينية (خليفة شاطر في كتابه التبعية وتحولات ما قبل الاستعمار: مملكة تونس من 1815 إلى 1857). لكن الثابت بين مختلف القراءات، أن المنظومة الريعية هي منظومة ممتدة في التاريخ الاقتصادي في تونس، ما جعله، ونعني الاقتصاد التونسي، عالقًا في مرحلة بعد الإقطاعية ودون الرأسمالية. 

اقرأ/ي أيضًا: عائلات الريع.. المستفيد الأول من الاستقطاب الثنائي

تطرح قضية الريع في تونس من خارج إطارها الإيديولوجي. يفتقد الاقتصاد التونسي لإكسير النشاط في الأنظمة المشابهة: المنافسة. وذلك لوجود تكتلات لكبار المنتجين، أين يقع تقاسم السوق والحفاظ على هامش أرباح مستقر من خلال التوافق حول الأسعار، والجودة ولو بشكل نسبي. بل يتم تنظيم هذه العملية عبر وجود هياكل قانونية، المجامع المهنية، بعد تحويل وجهتها التي أحدثت لأجلها. من المفترض أن يحول مجلس المنافسة، كونه جسمًا رقابيًا ذا صبغة قضائية واستشارية، دون هذه التوافقات بين المنتجين والتجار، إلا أنه يبدو عاجزًا عن القيام بدوره. 

يفتقد الاقتصاد التونسي لإكسير النشاط في الأنظمة المشابهة: المنافسة، وذلك لوجود تكتلات لكبار المنتجين، أين يقع تقاسم السوق والحفاظ على هامش أرباح مستقر من خلال التوافق حول الأسعار والجودة ولو بشكل نسبي

فبالإضافة إلى محدودية موارده، تحظى المنظومة الريعية برعاية السلطة السياسية وتنظمها ترسانة تشريعية، وبالتالي يعجز مجلس المنافسة عن الاضطلاع بكامل مهامه. الأهم، هو أن الريع في جوهره هو مفهوم ليبرالي، يعبر عن تشوه في عملية الإنتاج الرأسمالية. وليس أدلّ على ليبرالية هذا المفهوم أو هذه العلة، من كون الدواء المفترض لها ليبراليا أيضًا: تحرير السوق وإلغاء الرخص.

اقرأ/ي أيضًا: تغوّل السوق السوداء في تونس: أي دور لمجلس المنافسة؟

  • الاختزال التسطيحي وحلول "الفاست فود": 

من المهم تحديد الإطار الإيديولوجي حتى يستقيم التشخيص والعلاج. أبعد من ذلك، تشتد ضرورة التأصيل الإيديولوجي، عندما نرى التهافت الذي يحيط بموضوع الرأي والتكالب عليه من مكونات مختلفة، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، بشكل يوحي بتطابق الجنتين: السماوية والأرضية. ولسنا في موضع للدفاع، ولا للهجوم، لكن من منطلق السوابق التونسية في تجزئة القضايا وتمييعها: كمحاربة الفساد، القضية النسوية والهوية الوطنية... تنبع الضرورة لتحديد مواطن العلة في الخطاب السائد. 

إن اختزال المنظومة الريعية في قضية الرخص التي واصلت عديد الأنظمة اعتمادها لمواجهة المد الرأسمالي خصوصًا بعد أزمة ديون دول الجنوب أواخر الستينات، نتيجة الأزمة البترولية آنذاك، يوحي بأننا إزاء برجوازية ناشئة تبحث لها عن موطئ قدم في النظام القائم عبر التلحّف بشعارات من قبل خلق الثروة وإتاحة الفرصة للجميع.

 تحظى المنظومة الريعية برعاية السلطة السياسية وتنظمها ترسانة تشريعية، وبالتالي يعجز مجلس المنافسة عن الاضطلاع بكامل مهامه، ناهيك عن محدودية موارده

والحال أن المنادين بهذه الشعارات، لا يتعرّضون إلى اتفاقيات الشراكة المبرمة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 مثلًا، التي عمقت الهوة بين ضفتي المتوسط من خلال تثبيت دور تونس كحقل لليد العاملة الرخيصة من جهة، وتحويلها إلى سوق لعدة منتجات أوروبية، خاصة بعد إقصاء تونس من اتفاقية الألياف المتعددة سنة 2005، الاتفاقية التي كانت تضمن لتونس اعتدالًا نسبيًا في ميزان الصادرات والواردات. 

هذا دون ذكر التجاهل التام لاتفاقية الأليكا، التبادل الحر والمعمق، التي يسعى الاتحاد الأوروبي لفرضها على تونس، والتي تمثل الرخص حاجزًا أمام نفوذ المواد الأوروبية إلى الأسواق التونسية. كذلك لا يتعرض محاربو الريع إلى موضوع الضرائب بالتوازي مع تحرير السوق. إذ لا يطالب المنددون بالكارتيلات مثلًا إلى فرض ضرائب أكثر على القطاعات "المغلقة" قصد الحد من الاستثمار فيها وتوجيه "الريعيين" نحو قطاعات نامية وأكثر إنتاجية من تلك "المحتكرَة" كالمالية والتوريد والتجارة.

اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: "الأليكا".. وجهات نظر متباينة

أي أننا وبكل بساطة، إزاء محاولة قفز بهلوانية من اقتصاد ما دون رأسمالي، إلى اقتصاد مُعَوْلم نيو-رأسمالي، دون أي مراعاة للظروف والشروط البنيوية المجتمعية التي تؤهل المجتمع بطبقاته لخوض هكذا مغامرة. 

في إنكار تام للسياق الخارجي وتسونامي العولمة الذي يضرب العالم والمخاضات التي نشهدها من اقتصادات صاعدة وصراع على الأسواق، يطرح دعاة إلغاء الرخص مجموعة من القوالب الجاهزة لإسقاطها على الواقع. مثال بسيط: ما وقع عند تخفيف شروط إدراج الفرنشيز زمن حكومة يوسف الشاهد، وما تلاها من انتشار لمحلات الملابس الجاهزة لماركات أجنبية في أغلب التجمعات السكانية الكبرى، ما أجهز على ما تبقى من صناعة الملابس المحلية.

نحن إزاء محاولة قفز بهلوانية من اقتصاد ما دون رأسمالي، إلى اقتصاد مُعَوْلم نيو-رأسمالي، دون أي مراعاة للظروف والشروط البنيوية المجتمعية التي تؤهل المجتمع بطبقاته لخوض هكذا مغامرة 

الملاحظ أيضًا على التركيز على قطاعات دون غيرها، ذات الصبغة التجارية تحديدًا أو الخدماتية، وغض النظر عن المجامع المهنية التي من المفترض أن تلعب دورًا تعديليًا، وأين يمكن للدولة أن تتدخل عبر ممثليها في مجالس هذه المجامع. عرضًا نتساءل لماذا لا يطرح التشجيع على الإنتاج والاستثمار في قطاعات مفتوحة أصلًا، كقطاعات إنتاج قطع غيار السيارات، من خلال الدعوة إلى تخفيض الضرائب على توريد ماكينات التصنيع والمواد الأولية؟ 

أما المثير للتندر هو تبني مثل هذا الخطاب من قبل محسوبين على اليسار، بمختلف فصائله من اللينيني إلى الماوي مرورًا بالستاليني والخوجي ربما (نسبة إلى أنور خوجة). هل طالت العولمة أيضًا القوى التي من المفترض أن تواجهها؟ ربما. على غرار ما سبق من خطابات سياسية، تم تحويل الصراع الطبقي ضد الأوليغارشية الريعية إلى حرب دونكيشوتية هلامية، دالة دون مدلول، أفرغت من محتواها واختزلت في إجابة إجرائية مناسباتية لسؤال سببية التأخر التي تعيشه المجتمعات العربية، وأسيلت في غيابه عديد الأطروحات، في حين ربما كان من الأجدى البحث عن سؤال: "كيف نتقدم؟".

 


 

اقرأ/ي أيضًا:

كارتيلات اقتصاديّة ومافيات احتكارية.. أين الدولة؟

50 عامًا من الليبرالية المتونسة انتهت إلى تقييد كلّي للاقتصاد التونسي