29-أبريل-2023
إيمانويل ماكرون وجورجيا ميلوني

فقدت تونس بريقها كمجال تنافس استراتيجي بين القوى الإقليمية وهو ما يدفع لربط أي دعم اقتصادي لها بضمان تحقق مصالح الطرف الداعم

 

تعدّ حاجة الحكومة التونسية إلى الاقتراض الخارجي حيوية في مخطّط مواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد: 14 مليار دينار (4.6 مليار دولار) هي قيمة موارد الاقتراض الخارجي في ميزانية عام 2023 للحفاظ على التوازنات المالية.

عدا الترفيع القياسي في الاقتراض الداخلي، رغم تداعياته على النظام النقدي، وتوسيع دائرة الموارد الضريبية، تعوّل السلطات التونسية، بدرجة أولى، على المانحين الدوليين، والبوابة الرئيسية هي صندوق النقد

وعدا الترفيع القياسي في الاقتراض الداخلي، رغم تداعياته على النظام النقدي، وتوسيع دائرة الموارد الضريبية، تعوّل الحكومة، بدرجة أولى، على المانحين الدوليين للإنجاد، والبوابة الرئيسية هي صندوق النقد الدولي، الذي تم الاتفاق معه، على مستوى الخبراء، في أكتوبر/تشرين الأول 2022 على برنامج اقتراض بقيمة 5.7 مليار دينار (1.9 مليار دولار) على مدى أربع سنوات.

لا يكفي القرض المنتظر مع صندوق النقد الدولي لتجاوز أزمة التوازنات المالية، وهو القرض المشترط ببرنامج "إصلاحات" توصف من معارضيها بأنها "إملاءات" لما يحمله من كلفة اجتماعية باهضة (مرتبطة أساسًا بتخفيض مخصّصات الدعم وتجميد الأجور)، ولكن القرض يظهر كشرط لفتح باب اقتراض تونس من شركائها الدوليين. تتمازج، في هذا الجانب، الحسابات الاقتصادية الفنية من جهة مع الحسابات السياسية من جهة أخرى.

 

 

  • قرض صندوق النقد.. هل حسمت تونس خيارها؟

رغم عقد اتفاق فني مع صندوق النقد في خريف 2022، لا يزال القرار السياسي للمضي في إبرام الاتفاق النهائي غير محسوم. إذ أعلن رئيس الدولة قيس سعيّد، في تصريح صحفي بتاريخ 6 أفريل/نيسان 2023، رفضه ما وصفها بـ"الإملاءات من الخارج" محذرًا من آثارها على السلم الأهلي.

رغم عقد اتفاق فني مع صندوق النقد في خريف 2022، لا يزال القرار السياسي للمضي في إبرام الاتفاق النهائي غير محسوم

هذه المباغتة تتعارض وتواصل حكومته للسعي لإبرام الاتفاق النهائي الذي مازال سعيّد يتردّد في التوقيع عليه، بل يقدّم أن البديل هو "التعويل على النفس". وفي وقت لاحق من التصريح الرئاسي، أكد الصندوق عدم تلقّيه أي مطلب رسمي من السلطات التونسية لمراجعة برنامج "الإصلاحات" الذي تصفه بأنه "تونسي بحت".

يحمل بذلك تصريح سعيّد احتمالين: إما هو انعكاس لحالة ارتباك حول مبدأ عقد اتفاق قرض مشروطًا ببرنامج "الإصلاحات"، وإما محاولة أخيرة للضغط على إدارة الصندوق للتقليص من حدّة بعض الإجراءات، على الأقل على مستوى الجدول الزمني لتنفيذها، بغاية التخفيض من الآثار الاجتماعية، خاصة في ظل الرفض القاطع للمنظمة الشغيلة لحزمة الإجراءات.

تأخر إمضاء الاتفاق زاد المخاوف من التفاقم غير المسبوق للأزمة الاقتصادية مع التخفيض المستمر للتصنيف الائتماني. رغم أن قيمة القرض لا تكاد تكفي لغلق فجوة اختلال التوازنات للسنة المالية الحالية، فإن أهمية القرض تكمن فيما يمثلّه من ورقة إجازة تضعها حكومات لإقراض تونس، باعتبار أن برنامج "الإصلاحات"، بالنسبة لديها، ضمانة على قدرة تعافي الاقتصاد التونسي.

تأخر إمضاء الاتفاق مع الصندوق زاد المخاوف من التفاقم غير المسبوق للأزمة الاقتصادية مع التخفيض المستمر للتصنيف الائتماني رغم أن قيمة القرض لا تكاد تكفي لغلق فجوة اختلال التوازنات للسنة المالية الحالية

وقد أدى عدم تنفيذ برامج الاتفاق المبرم بين السلطات التونسية وصندوق النقد عام 2015 لإثارة مناخ من الحذر، باعتبار أن المحاذير الفنية البحتة تبقى هي العنصر الجوهري، بغض النظر عن الإرادة السياسية للدول المؤثرة في مجلس إدارة الصندوق في تقديم الدعم.

 

 

  • أوروبا والولايات المتحدة.. شرط الاتفاق مع صندوق النقد وحسابات السياسة

ألقت التغييرات العميقة للمشهد السياسي في تونس منذ 25 جويلية/يوليو 2021 وما بيّنته من تحول "نموذج الربيع العربي" في المنطقة إلى بلد يجنح نحو السلطوية والتخلي عن المكاسب الديمقراطية، بثقلها في ميزان حسابات الدعم الاقتصادي خلال السنتين الأخيريتين.

ألقت التغييرات العميقة للمشهد السياسي في تونس منذ 25 جويلية 2021 وما بيّنته من تحول "نموذج الربيع العربي" في المنطقة إلى بلد يجنح نحو السلطوية والتخلي عن المكاسب الديمقراطية، بثقلها في ميزان حسابات الدعم الاقتصادي

الولايات المتحدة الأمريكية، في هذا الجانب، تقدم خطابًا واضحًا عكسه تقرير وزارة الخارجية في الكونغرس حول الوضع التونسي خلال شهر أفريل/نيسان 2023، تضمّن إقرارًا بإعادة تكييف برامج المساعدات الأمريكية مع المستجدات السياسية، ومن ذلك تأكيد تخفيض هذه المساعدات بنسبة 65 في المائة في الميزانية الأولية لعام 2024، وذلك مع تأكيد استمرار الدعم العيني المباشر ودعم منظمات المجتمع المدني، والتشديد على أهمية التعاون مع الجيش التونسي في مكافحة شبكات الإرهاب، بشرط إبقاء الجيش "مهنيًا وغير سياسي".

تقرير الخارجية الأمريكية، المنشور للعموم، يعكس توجهًا واضحًا في ربط الدعم الاقتصادي بتطورات المشهد السياسي الذي جعل البلد بيئة تجنح نحو مسار غير ديمقراطي. وتصدّر واشنطن بالخصوص لزوم عقد اتفاق مع صندوق النقد لضمان عدم التفكك الاقتصادي للبلاد مع التأكيد على مواجهة توسع نفوذ الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة في شمال إفريقيا (الصين وروسيا) كأحد موجهات العمل الدبلوماسي في تونس.

تقرير الخارجية الأمريكية يعكس توجهًا واضحًا في ربط الدعم الاقتصادي بتطورات المشهد السياسي الذي جعل البلد بيئة تجنح نحو مسار غير ديمقراطي

أوروبيًا أيضًا، المفوّض الأوروبي للاقتصاد باولو جنتيلوني، خلال زيارة لتونس في مارس/آذار 2023، أكد على شرط الاتفاق مع صندوق النقد لتقديم مساعدات أوروبية إضافية، وفي هذا الجانب، لم يخصّص مجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، في أفريل/نيسان 2023، أي مخصّصات لتونس رغم التداول في الملف في جدول الأعمال.

تتقدّم إيطاليا، في الأثناء، الجهود لتقديم مساعدات أوروبية دون ربطها بقرض صندوق النقد على الأقل على مستوى الشريحة الأولى، وذلك بعنوان منع تونس من "الانهيار" وما يعنيه ذلك من تدفق المهاجرين إلى سواحل جنوب أوروبا، دونًا عن التحذير المستمرّ من مخاطر "سقوط تونس في أيدي الصين وروسيا"، فيما يعكس الحرص الإيطالي المنقطع النظير على توفير المطلوب للسلطات التونسية التي ظهرت متعاونة جدًا مع السلطات الإيطالية في ملف الهجرة غير النظامية.

فرنسا وألمانيا، القوتان الرئيسيتان في المنتظم الأوروبي، وإن قدمتا قروضًا في العام الفارط (200 و100 مليون يورو على التوالي)، في إطار الدعم الدوري للاقتصاد التونسي، فهما بدورها يضغطان، على خلاف روما، للدفع نحو إمضاء اتفاق صندوق النقد.

لا تبدو باريس، على خلاف واشنطن، معنية بالنزوع السلطوي في تونس، إذ تضاءلت التصريحات العلنية حول الوضع السياسي مقابل تصاعد تأكيد حتمية الدعم الاقتصادي، وذلك انعكاسًا للأولوية الاستراتيجية وهي تأمين المصالح الفرنسية

ففرنسا، الشريك الاقتصادي الاستراتيجي مع تونس، تعتبر أن اتفاق الصندوق هو شرط لا مفرّ منه لجعل المقرضين الدوليين يوفّرون حاجيات التمويل المطلوبة. لا تبدو باريس، على خلاف واشنطن، معنية بالنزوع السلطوي في تونس، إذ تضاءلت التصريحات العلنية حول الوضع السياسي مقابل تصاعد تأكيد حتمية الدعم الاقتصادي، وذلك انعكاسًا للأولوية الاستراتيجية وهي تأمين المصالح الفرنسية ومنع أي فرص تهديدها. برلين، في الأثناء، ذكّرت أن القرض المُسند (100 مليون يورو عام 2022) متفق عليه منذ عام 2020 وأن غايته هو إسناد العودة للنظام الدستوري في تونس.

إجمالًا، بقدر تفاوت مواقف الشركاء الاستراتيجيين لتونس بشأن موضع المستجدات السياسية والحقوقية في حسابات الدعم الاقتصادي، بين منعدمة تمامًا إجرائيًا (أوروبا) ومؤثرة (الولايات المتحدة)، يبقى، في كل الأحوال، التأكيد الجماعي على حتمية اتفاق مع صندوق النقد الدولي كبوّابة للدعم الثنائي، وهو ما يجعل الخيارات التونسية محدودة جدًا في هذا الجانب.

بقدر تفاوت مواقف الشركاء الاستراتيجيين لتونس بشأن موضع المستجدات السياسية والحقوقية في حسابات الدعم الاقتصادي، يبقى، في كل الأحوال، التأكيد الجماعي على حتمية اتفاق مع صندوق النقد الدولي كبوّابة للدعم الثنائي

في هذا الموضع، وبعد إعلان سعيّد عدم المضي في الاتفاق مع صندوق النقد، راجت أنباء على سعي تونس للانضمام إلى مجموعة "بريكس"، وهو ما أثار موجة سخرية في مواقع التواصل ودفع خبراء اقتصاديين لتقديم توضيحات، باعتبار أن الاقتصاد التونسي لا يتوفّر على شروط الانضمام لهذه المجموعة، التي تعدّ المقابل الاقتصادي الاستراتيجي للأمريكيين والأوروبيين، ولكن أيضًا باعتبار أن التلويح بهكذا توجّه يتعارض مع أسس الاقتصاد التونسي القائم على ارتباط هيكلي بالاقتصادات الغربية.

  • الدعم الخليجي.. تونس خارج المدار

عوّل أنصار قيس سعيّد على إقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي كمفتاح لدعم مالي منقطع النظر من عواصم خليجية، وتحديدًا الرياض وأبو ظبي، بيد أن الآمال خابت باعتبار أن "الرز الخليجي"، والعبارة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ليس دون ثمن.

وقد حلّ الحديث، في هذا الجانب وارتباطًا باتفاق صندوق النقد، أن العاصمتين الخليجيتين المذكورتين وعدتا بتوفير 1.5 مليار دولار لتونس بمجرّد عقد الاتفاق الفني في خريف 2022، بيد أنهما لم يؤمنا الموعود، وذلك بحسب ما يذكره الجامعي طارق الكحلاوي عن مصدر له في مقال نشره بـ"ألترا تونس".

إن غياب الدعم السخيّ المنتظر من الرياض وأبوظبي يعكس عدم توفر شروط الاستثمار السياسي مع سعيّد الذي أبدى عدم احترافية في إدارة عديد الملفات الخارجية وعدم وضوح خياراته الاستراتيجية

إن غياب الدعم السخيّ المنتظر يعكس عدم توفر شروط الاستثمار السياسي مع سعيّد الذي أبدى عدم احترافية في إدارة عديد الملفات الخارجية من جهة وعدم وضوح خياراته الاستراتيجية من جهة أخرى، بما يجعله من قبيل الاستثمار غير المؤمن.

في هذا الجانب بالخصوص، تلوح الجزائر كطرف مؤثر في الأزمة التونسية باعتبارها تعدّ الظهير الاستراتيجي لجارتها الشرقية، والخشية هو تمدّد قوى إقليمية للتأثير على التوجهات الدبلوماسية التونسية في ملفات حيوية منها الملف الليبي، وذلك بما يتعارض مع المصالح الجزائرية.

لم يكن حديث الرئيس الجزائري مؤخرًا، على أن "بعض الضغوطات الخارجية على تونس بها كثير من الخبث" بخارج عن سياق ربط عروض الدعم الاقتصادي بخدمات استراتيجية في المنطقة

لم يكن حديث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مؤخرًا، على أن "بعض الضغوطات الخارجية على تونس بها كثير من الخبث" بخارج عن سياق ربط عروض الدعم الاقتصادي بخدمات استراتيجية في المنطقة.

وإجمالًا، إن اللحظة الإقليمية في المنطقة حاليًا تختلف عن سابقتها في ذروة الربيع العربي، مع تراجع انقسام المحاور الإقليمية وتداخل حساباتها ومصالحها الاستراتيجية في عديد الملفات بما عكسته المصالحات المبرمة في الفترة الأخيرة. فقدت تونس بذلك بريقها كمجال تنافس استراتيجي بين القوى الإقليمية، وهو ما يدفع، في المقابل، لربط أي دعم اقتصادي لها بضمان تحقق مصالح الطرف الداعم دون أي سخاء مفرط.