18-مارس-2021

كانت تونس من الأوائل في محيطها الإقليمي في وضع سياسة منافسة في إطار الإصلاحات الكبرى التي اعتمدتها الدولة أواخر الثمانينات (صورة توضيحية/ Getty)

 

في التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي، الصادر بتاريخ 26 فيفري/شباط 2021، أوصى محرّرو التّقرير، أو المراقبون، بضرورة تنفيذ الشّروط المتفق عليها سابقًا والتي تندرج ضمن مضلّة "الإصلاحات الهيكليّة الكبرى"، أو كما يسمّيها تكنوقراطيو ما بعد الثورة "الإكراهات/الإجراءات الموجعة/إملاءات صندوق النّقد...". تتمثّل هذه الشّروط في خفض كتلة الأجور، توجيه الدعم إلى مستحقّيه، حوكمة المؤسّسات الحكوميّة، إلى جانب تركيز جهود الإصلاح على إلغاء الاحتكار، إزالة العقبات التنظيميّة وتحسين بيئة الأعمال. وهو ما تناولناه في مقال سابق حول ما وصلت إليه المنظومة الاقتصادية التونسيّة من قيود. إلا أنّ هذه الخطوات تثير هواجس عديدة كازدياد هيمنة المونوبولات والكارتيلات، إضافة إلى الخوف من تقلّص الدور الاجتماعي للدولة. وعلى ما يبدو من تردّي الأوضاع الاقتصادية، فإنّ السلط ربّما ستتجه إلى تطبيق ما تضمنته الاتفاقيات السابقة. فماهي الميكانيزمات التي يفترض أن تعتمدها الدولة، من خلال تجارب مقارنة، لمقاومة الهيمنة والاحتكار في ظلّ ما تفرضه المؤسسات الدولية؟

سياسة المنافسة

في قطاع الاتصالات في تونس، يتحكّم ثلاثة موزّعي خدمات في السّوق، ما يشكّل تركّزًا تجاريًا أو احتكارًا تشاركيًا Oligopole. بحسب دراسة للبنك الدولي سنة 2015، فإنّ في اقتصادات شبيهة بالاقتصاد التونسي، يمكن تواجد حوالي 10 شركات اتصال قابلة للزيادة، إلّا أن انعدام المنافسة في السوق التونسية أدّى إلى ارتفاع الأسعار وتراجع جودة الخدمة. إذ تقدّر تكلفة اتصال هاتفي وارد على تونس من الخارج بـ 0.4 دولار/دقيقة، أي حوالي 20 ضعف المعدّل العالمي، وضعفين بالنسبة للمعدّل الإقليمي (0.2 دولار لكلّ من مصر والمغرب). كذلك، وفي نفس الإطار، أسعار الموز والقهوة هي تقريبًا ضعف معدّل السّعر العالمي، أيضًا أسعار عجلات السيارات أعلى بـ30- 50% من المعدّل. وإزاء هذا الارتفاع في الأسعار، لا يبدو أنّ للسلطة قدرة على التعديل.  

قبل الثورة، كان التدخل المباشر في السوق من ضمن خطوط السياسة العامة للدولة فكانت يد النظام الاستبدادي حينها كافية لتعديل السوق والتدخل عند تغوّل أحد الأطراف أو اختلال معادلة العرض والطلب

إلى حدّ قريب، قبيل الثورة التونسية، كان التدخّل المباشر في السوق من ضمن خطوط السياسة العامة للدولة. فكانت يد النظام الاستبدادي حينها كافية لتعديل السوق والتدخل عند تغوّل أحد الأطراف أو اختلال معادلة العرض والطّلب. إذ تحتوي المخططات التنموية للسلطة على مصطلح غريب يتضارب وجوهر المنظومة الاقتصادية التونسية: "ترشيد الاستثمار". الاستثمار هو إكسير النّمو الاقتصادي. فكيف للدولة أن ترشّده؟ نظرًا لطبيعة النظام حينها، يتمّ الضغط على الذوات المادية (رجال الأعمال) أو المعنوية (الشّركات) عند محاولتها التمدّد والتوسّع خارج حدود ما رسمته السّلطة لها، ما قد يشكّل خطرًا وجوديًا بالنسبة لها.

اقرأ/ي أيضًا: عن الدعم الحكومي للشركات والاقتصاد.. إعادة إنتاج الأزمة؟

يرى ألفريد ستيبان أن من بين مراحل الانتقال الديموقراطي: تركيز نظام اقتصادي مستقل عن السّلطة. أي اعتماد اقتصاد السوق أو المنظومة الرأسمالية الليبرالية. لكن بحسب إلياس الجويني، وكذلك حسب مدرسة "هارفارد" في علم الاقتصاد، فإنّ الأنظمة الرأسمالية المطلقة تؤدّي "طبيعيًا" إلى تمركز أقطاب تجاريّة/صناعيّة، والتي قد تسعى بدرها فطريًا نحو "الريع" بقطع الطريق نحو المنافسين الصاعدين، وهو ما ينسف روح معادلة العرض/الطلب. ومنه، تضبط الدول، ذات الاقتصادات الرأسمالية الليبرالية، منظومات قانونية وتشريعية، في إطار سياسة عامة تسمّى "سياسة المنافسة Competition policy". باستثناء المثال الأميركي، والذي تتوفّر فيه قوانين كقانون ضد الاحتكار شارمان (1890) وكلايتون (1904)، لم تظهر آليات مقاومة الاحتكار antitrust policy في بقيّة دول العالم إلا مع مطلع الثمانينات، مثل كوريا الجنوبية (1980) فرنسا (1986).

تتجسّد سياسة المنافسة، التي تحدّدها السلطة السياسية، في توفير إطار تشريعي وقانوني لجهاز، أو سلطة، يحرص على عدم هيمنة طرف أو أقليّة على السوق، مراقبة عقد توافقات حول الأسعار، احتكار السّلع أو وضع عقبات أمام دخول أطراف أخرى جديدة إلى المنظومة الاقتصادية. في الحقيقة، كانت تونس من الأوائل في محيطها الإقليمي في وضع سياسة منافسة. وكان ذلك في إطار الإصلاحات الكبرى التي اعتمدتها الدولة أواخر الثمانينات.

تتجسد سياسة المنافسة التي تحددها السلطة السياسية في توفير إطار قانوني لجهاز أو سلطة يحرص على عدم هيمنة طرف على السوق واحتكار السلع أو وضع عقبات أمام دخول أطراف جديدة إلى المنظومة الاقتصادية 

 سنة 1991، بادرت السلط بسنّ القانون 64 القاضي بإحداث مجلس المنافسة، والذي انطلق فعليًّا بصدور القانون 42/1995. ومن مهامه النظر في الدعاوى المتعلّقة بالممارسات المخلّة بالمنافسة، كمقاومة الاحتكار، إلى جانب مهمّة استشارية لدى الجهات المعنيّة بالمجال الاقتصادي. إلا أنه رغم ذلك، لا تزال السوق التونسية مغلقة وفاقدة للديناميكية الحيوية. ورغم التنقيح الأخير سنة 2015، لا تزال تقارير المؤسسات الدولية توصي بضرورة تحرير الاقتصاد لتفعيل المنافسة داخل السوق التونسية. ويعود ذلك لأسباب سياسية وتراجع قدرة الدولة على فرض سياساتها.

تعزيز وتفعيل دور مجلس المنافسة

ورد في مداخلة للنائب الأول لرئيس مجلس المنافسة، محمّد العيّادي، بكليّة الحقوق والعلوم السّياسيّة سنة 2017، أن المجلس أصدر 111 قرار إدانة تضمّنت تسليط خطايا ماليّة بقيمة 35 مليون دينار، في الفترة الممتدّة بين 1991 و2019. لكن لم يقع استخلاص سوى 4.5 مليون دينار (حوالي 12% من إجمالي المبلغ).

يحسب للسيد رئيس الحكومة الياس الفخفاخ ولفريقه إثارته البارحة في حواره التلفزي موضوع مجلس المنافسة والدور المحوري الذي...

Publiée par Mohamed Ayadi sur Lundi 15 juin 2020

"أولى العقبات أمام عمل المجلس هي ضعف إمكانيّاته الماديّة، اللوجستيّة والبشريّة...". هكذا تحدّث القاضي محمد العيادي لـ"الترا تونس" مؤكدًا ضرورة أن "تتوفّر لدى المجلس القدرات التقنيّة بالخصوص، لتكوين قاعدة بيانات شاملة للسوق التونسية، وكذلك أن تتوفّر له إمكانيّة النفاذ إلى المنظومات الإعلامية التابعة للوزارات المتدخلة في المجال كوزارة المالية، حتى يتسنى له القيام بالاستعلامات المالية والتحقيقات اللازمة".

وتابع القول: " في مرحلة ثانية، هناك تداخل وضبابيّة بين صلاحيّات وزارة التجارة وصلاحيّات المجلس. إذ بحسب الفصل 44 من قانون 36/2015، فإنّ الوزير يتولّى متابعة تنفيذ القرارات الصادرة عن المجلس. فما معنى متابعة؟ وإلى أي حد يلزم هذا القانون السّلطة بالتنفيذ؟ كذلك، حسب التشريعات الحاليّة، يتولّى جهازان مجال تنظيم المنافسة. هيئة الأبحاث الاقتصادية التابعة للوزارة، ومجلس المنافسة. وهو ما يسبّب تداخل الصلاحيات بين الجهازين"، مضيفًا أنه "بمجرّد صدور قرار عن مجلس المنافسة، يمكن للطرف الآخر الاستئناف بالمحكمة الإدارية، والتي تعاني هي الأخرى من ثقل المهام الموكلة إليها، ما يسبب تعطّل مسار الملفّات وتأخير البت النهائي في القضايا بسبب طول زمن التّقاضي".

اقرأ/ي أيضًا: اقتصاد تونس سنة 2020.. أرقام مفزعة تحتاج إنعاشًا سريعًا

في اقتصادات شبيهة، بالمكسيك، هنغاريا، فرنسا...، تتخّذ إدارات تنفيذ سياسة المنافسة صبغة السّلطة المستقلّة autorité indépendante. وإذ تختلف حسب البلد، الخيارات الاقتصادية، والمناخات الإقليميّة، فإنّ سلط المنافسة تشترك في دورها الفعّال في تنظيم السّوق عبر تسليط العقوبات وإيقاف التّجاوزات.

محمد العيادي (نائب رئيس مجلس المنافسة) لـ"الترا تونس": من الضروري مراجعة النصوص التأسيسية والتنظيمية لمجلس المنافسة، إذ يجب أن يتخذ صيغة "سلطة" لتكون قرارته ملزمة وأن يُعزز بالأدوات والموارد كي يكون له دور أكثر فاعليّة

قد تختار بعض الدول، أو الاتحادات، كالاتحاد الأوروبي واليابان، الموافقة على تشكّل مونوبولات وتجمّعات كبرى لشركات قصد تدعيم قدرتها التنافسيّة في الأسواق العالميّة. مثل ما حدث في فرنسا منذ سنتين، عند انصهار شركتي صافران وزودياك،  المشتغلتين في مجال صناعة الطّائرات. يكون الغرض عادة من هذا الانصهار الرفع من القدرة التنافسية للشركة المنبثقة، حسب مدرسة "شيكاغو". ورغم ما تطرحه هذه الفكرة من خطر للهيمنة والتغوّل، يساهم ذلك، في سياق معيّن، في تحسين المردوديّة وخلق فرص عمل وإنتاجيّة جديدة، ما من شأنه أن يشجّع المبادرة والتجديد. أي أن سياسة المنافسة لا تنحصر في ردع المونوبولات، وإنّما توجيهها في اتجاه السّياسة العامة للدولة.

أخيرًا، يقترح نائب رئيس مجلس المنافسة، في تصريح لـ"الترا تونس"، مراجعة النصوص التأسيسية والتنظيمية للمجلس، إذ يجب أن يتخذ صيغة "سلطة"، وتكون قرارته ملزمة فور إصدارها، مع تعزيزه بالأدوات والموارد، كي يكون له دور أكثر فاعليّة إزاء ما تعتزم السلطة السياسية القيام به من إصلاحات اقتصادية"، مستدركًا القول إنّ "ثقافة المنافسة والإعلام بالتجاوزات تبقى منعدمة، إذ أن أغلب الملفّات التي تعهّد بها المجلس كان بمبادرة تلقائيّة"، حسب العيادي.

تشير أغلب الدراسات إلى أنّ أكثر من نصف الاقتصاد التونسي يقع خارج الاقتصاد الرسمي، أي الاقتصاد الموازي. يتمثّل الخط بين الرسمي والموازي، في جملة من الإجراءات، الرخص، التراتيب... قد يبدأ الإصلاح بشطب خط التوازي. لكن يبقى هذا، ككلّ الإصلاحات المفترضة، رهين الإرادة السياسية والوعي الوطني، ربما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"بلوك تشين" في تونس.. القصة كاملة

50 عامًا من الليبرالية المتونسة انتهت إلى تقييد كلّي للاقتصاد التونسي