21-فبراير-2020

ظاهرة مسكوت عنها في المجتمع التونسي (Getty)

 

"قاتلة أبنائها الستّة تعترف بممارسة زنا المحارم مع 3 أفراد من عائلتها"، و"تفاصيل صادمة في قضية زواج أب بابنته في تونس وانجابها منه بعد وفاة والدتها!" و"صادم: شاب يغتصب شقيقته في توزر" هي عناوين تنتشر بين صحافة محليّة وصحافة عربيّة لقضايا تشمئزّ لها الأنفس.

 زنا المحارم أو سفاح ذي القربى يعني العلاقة الجنسية التي تربط شخصين بينهما علاقة قرابة دموية تحرّم الزواج مثل الأب وابنته أو الأخ وأخته

هي قضايا تعرّي واقعًا تصرّ عديد العائلات التونسية على كتمه في الصدور وحبسه بين الجدران، فتتجرّع ضحاياه مرارة الصمت ويصبح الجناة فيه وحوشًا آدميّة مجرّدة من الانسانيّة. كيف لا وقد اختلطت بالدماء والأنساب فتحوّل الأب مانح الأمان لناهش لجسد ابنته، وأصبح الأخ مصدر الحنان مستبيحًا لعرض أخته.

سال الحبر وتعدّدت الدراسات حول ظاهرة "زنا المحارم" التي يصنّفها علم الاجتماع ضمن الانحرافات السلوكيّة، ويطرحها "ألترا تونس"، في هذا التقرير، مع إخصائيين اجتماعيين لنبش أغوار هذه الظاهرة المسكوت عنها.

اقرأ/ي أيضًا: "في بيتهم وحش".. قصص عن اغتصاب أطفال من ذوي القربى

ماهو زنا المحارم؟

عاش سكّان منطقة الانطلاقة من ولاية أريانة حالة من الصدمة والفزع بسبب حادثة فظيعة تمثّلت في اغتصاب أب لابنته ذات 14 سنة ممّا أدى إلى حملها.

وككلّ الحوادث من هذا النوع، تنتشر الروايات كانتشار النار على الهشيم فمن الجيران من يقول أن الأمّ اكتشفت حمل ابنتها صدفة عندما أخذتها إلى الحمّام، ومنهم من أكّد أنّ الفتاة ابنة زوجته، وهناك من أفاد أنّ العائلة معروفة بهذا النوع من العلاقات المحرّمة منذ سنوات.

وهذه الحادثة ليست الأولى من نوعها وسط المجتمع التونسي، وهو ما أعاد للواجهة الحديث حول موضوع "زنا المحارم" أو "سفاح ذي القربى"، ويعني العلاقة الجنسية التي تربط شخصين بينهما علاقة قرابة دموية تحرّم الزواج وبالخصوص علاقة القرابة من الدرجة الأولى (أب، أم، أخ، أخت، عم، عمة، خال، خالة، جد، جدة، زوج أم، زوجة أب).

وتكون هذه العلاقة الجنسية إما برضا الطرفين أو عن طريق الاجبار بواسطة القوة أو بالترهيب وهو يعرف باسم "اغتصاب ذوي القربى".

ويعدّ عمومًا شكلًا من أشكال الاعتداء الجنسي الذي يقضي بدفع طفل أو مراهق أو راشد على القيام بنشاط جنسي مع أشخاص تربطه بهم صلة قرابة، أي من العائلة المباشرة أو الممتدة، في معاشرة غير قانونية ومحرّمة اجتماعيًا وخلقيًا.

سلوك شاذ ينتشر في المجتمع

تؤكّد الباحثة في علم الاجتماع سوسن غريبي لـ"ألترا تونس" أنّ زنا المحارم هو فعل محرم ومسكوت عنه، وهو من الظواهر الشائكة التي يتداخل فيها النفسي بالاجتماعي ما يؤدي إلى صعوبة في فهمه وتفسير أسبابه على حدّ قوله.

وتضيف أنّه بالاطلاع على المجلة الجزائية في باب الجرائم الجنسية، لا يوجد فصل أو فقرة تخص زنا المحارم على وجه الخصوص بل تتعلق مجموعة فصول من الفصل 226 إلى 240 من المجلة المذكورة بالاغتصاب، والزنا، والتحرّش الجنسي ومجموعة من الجرائم الجنسية الأخرى.

سوسن الغريبي (باحثة في علم الاجتماع): "زنا المحارم" هو فعل محرم ومسكوت عنه من الظواهر الشائكة التي يتداخل فيها النفسي بالاجتماعي

وتشير إلى أنّ في المدونة الدينية الإسلامية، بصفة خاصة القرآن والأحاديث النبوية، فصّلت بين العلاقات الجنسية المباحة والآخر المحرمة مذكّرة بالتحريم الواضح لـ"زنا المحارم". ولكن تقول إن هذه الظاهرة تشهد، في المقابل، انتشارًا واسعًا في المجتمعات التي تنتمي للثقافة العربية الإسلامية بصفة عامة، وهذا يعني أنّ المُمارس لزنا المحارم غير منضبط لمجموعة القيم والقواعد الدينية والأخلاقية والمجتمعية، وسلوكه شاذ عن الطبيعة الإنسانية على حدّ قولها.

وبالعودة لحادثة "حي الانطلاقة"، تقول محدثتنا إن العائلة عند معرفة وجود حالة زنا بين محارمها تسعى إلى الكتمان والصمت، وهذا يقابله "سكوت اجتماعي" يعكس بنية وثقافة المجتمع التونسي، الذي يخشى من "الفضيحة" و"العار" و"الوصم" الذي سيسلّط على الضحية وعلى الجاني.

"رغم أنّ العلاقات الجنسية بين المحارم مرفوضة دينيًا في مختلف الديانات السماوية، ومرفوضة إنسانيا إلاّ أنها منتشرة وغير معلنة. فكيف يمكن أن نفهم سلوك أب يستمتع بممارسة الجنس مع ابنته؟ وكيف يستطيع جماعها؟ ألا تمثل عاطفته الأبوية أو علاقته الدموية حاجزًا يمنعه من فعلته؟ كيف يمكنه لمس جسد طفولي خُلق من نسله ولم تكتمل بنيته الجسدية بعد؟"، هكذا تساءلت الغريبي التي نوّهت، في هذا الجانب، أنّه لا يمكن لأي باحث تقديم إجابات واضحة ودقيقة وعلمية في غياب دراسات نوعية تشتغل حول عينة ممثلة من الذين مارسوا "زنا المحارم" وذلك لفهم دوافعهم وتمثلاتهم.

اقرأ/ي أيضًا: قصص اغتصاب الذكور.. مأساة تقوّض ثوابت المجتمع الذكوري

ولكن في الحادثة التي سقناها، تقول الباحثة في علم الاجتماع إنه يمكن الرجوع بخصوص سلوك الأب إلى تفسيرات سوسيولوجية كضعف أو غياب المعايير الاجتماعية الضابطة، أو الضمير الجمعي كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي ايميل دوركايم الذي يرى أنّ وجود حالة من التفكك الاجتماعي واللامعيارية ارتباطًا بوجود اختلال في منظومة القيم والمعايير يمكن أن تؤدي إلى الانحراف والجريمة.

وترجّح سوسن الغريبي، في حديثها لـ"ألترا تونس"، أنّ وراء هذا السلوك المُنحرف إدمان جنسي أو إدمان على المواقع الإباحية، وقد يعود أيضًا إلى خلل في عملية التنشئة الاجتماعية وضعف الثقافة الجنسية حيث يسعى القائم بالانتهاك للحصول على اللذة أو المتعة الجنسية من طرف فئات مستضعفة كالأطفال القصر حتى لو كانت ابنته.

وتضيف أن الفاعل قد يبرر فعلته أن الضحية أثارته جنسيًا حين رؤيتها وهي بصدد تغيير ملابسها أو أثناء نومها، أو أنها تلبس ملابس "مثيرة"، معتبرة أن عامل العيش المشترك قد يمثّل بداية الانفعال الجنسي المنحرف الناتج عن خلل نفسي لدى الوالد الذي يمكن ان يُستثار جنسيًا من طرف ابنته.

ولكن أكدت الباحثة أنّ نفس الأسباب لا تعطي نفس النتائج لذلك يمكن أن نرجع سلوك الأب إلي وجود أعراض مرضية سلوكية نفسية، وفق قولها.

هل التغافل عن زنا المحارم يزيد في استفحاله؟

وفي نفس السياق، أفادت الباحثة في علم الاجتماع صابرين جلاصي لـ"ألترا تونس" أنّ ظاهرة "زنا المحارم" مستفحلة في تونس منذ سنوات عديدة ولكنها من الظواهر المسكوت عنها. وأعلمتنا أنه حسب بعض الدراسات، تحتل قفصة المرتبة الأولى من حيث عدد قضايا من هذا النوع تليها سيدي بوزيد ثم القيروان مؤكّدة أنها ليست مرتبطة بجهة معيّنة أو بطبقة اجتماعيّة محدّدة أو بجنس خاص إذ يتعرض الذكور أيضًا لمثل هذا النوع من الاعتداءات والانتهاكات الجنسية من طرف أقاربهم.

صابرين جلاصي (باحثة في علم الاجتماع):  المشكل اليوم مرتبط بالعقلية الاجتماعية التبريرية لهذه الانحرافات السلوكية التي حطّمت العديد من الفتيات اللاتي تتعرّضن لممارسات لا إنسانية

وتضيف محدثنا أنّ استهلاك المخدّرات بأنواعها قد يكون من الأسباب الأساسيّة لهذا السلوك المنحرف خاصّة وأنّ المدمن يخرج من حالة وعيه وإدراكه السليم للأشياء أو للأشخاص مضيفة أنّ عدم التوافق الجنسي بين الزوجين في بعض الحالات تجعل الزوج يبحث عن اللذّة او متعة مفقودة من قريبته لأنه يضمن سكوتها وخوفها وخاصّة يضمن حمايته باعتبار أنّ العائلة عادة ما تكذّب رواية الضحية، على حدّ قولها.

اقرأ/ي أيضًا: ما يجب أن تعرفه عن إدماج مادة الصحة الجنسية في البرامج التعليمية التونسية

وترى الجلاصي أنّ الجاني قد تجول في ذهنه فكرة أنّه هو قريب لذلك فهو أولى بها من جانب الأنانية والنرجسية الذاتية التي تخول له أن يمارس الجنس مع ابنته أو ابنة أخيه او أخته لأنه يرى أنه أولى بجسدها وبالاستمتاع بها، على حدّ تعبيرها.

وتقول إن المشكل اليوم مرتبط بالعقلية الاجتماعية التبريرية لهذه الانحرافات السلوكية التي حطّمت العديد من الفتيات اللاتي تتعرّضن لممارسات لا إنسانية يقع فيها عزل الفتاة وحرمانها من أبسط حقوقها فقط لكي تفضح هذه الممارسة وهذا العزل يكون دون حماية فتتواصل هذه الممارسات عليها.

وتضيف الباحثة في علم الاجتماع، في ختام حديثها معنا، أنّه على قدر التغافل عن الظاهرة على قدر استفحالها وانتشارها داخل المجتمع، مؤكّدة على ضرورة تدخّل الجمعيات الحقوقية في مثل هذه الحوادث لتوعية الفتيات وخاصّة في الأرياف، وداعية كي تكون التنشئة الاجتماعية للطفل أكثر انفتاحًا خاصّة في المواضيع التي تهمّ حرمة أجسادهم.

ظاهرة متوحّشة تؤدي لاضطرابات نفسية

عن تداعيات مثل هذه الممارسات على نفسيّة الضحايا، اعتبرت الباحثة سوسن الغريبي أنّ "زنا المحارم" هو "نوع من الانحراف الاجتماعي السلوكي وهو إرهاب وعدائية نحو فئة اجتماعية هشة". وتقول إنه بعد تعرّض الطفلة للاغتصاب من قبل والدها أو أحد محارمها تتحطم نظرتها الإيجابية عن نفسها، وتتحولّ من طفلة متوازنة إلى طفلة منهارة نفسيًا تعاني في صمت قاتل.

وتفسّر محدّثتنا قائلة:"هذه الظاهرة هي ظاهرة متوحّشة قاتلة تحمل بين ثناياها الكثير من المعاناة، والصراع النفسي إذ يعيش الضحايا حالة من التمزق بين القبول والرفض، وبين الحب والكره، وبين الاستسلام والمقاومة، فمن اعتدى عليها جنسيًا يكون فردًا من العائلة ربما الأب الذي من المفترض هو مصدر الحب والأمان. ولذلك يكون الألم مزدوج، ألم جسدي ونفسي جراء التعرض لاعتداء جنسي وألم نفسي عاطفي جراء اهتزاز أو كسر للصورة النمطية للأب وصورته الاعتبارية والرمزية في مخيال الطفل".

غالبًا ما يعاني ضحايا "زنا المحارم" من الشعور بالخوف المستمر وعدم الأمان، كما يعاني أغلبهم من اضطرابات نفسية واضطرابات في الوظائف الجنسية

بالنهاية، غالبًا ما يعاني ضحايا "زنا المحارم" من الشعور بالخوف المستمر وعدم الأمان، كما يعاني أغلبهم من اضطرابات نفسية واضطرابات في النوم وفي الوظائف الجنسية، إذ يخلق الضحية لنفسه عالماً يخصه وحده ينجّر عنه في معظم الأحيان الإصابة بالعزلة والاكتئاب، وأحيانا الإصابة بـ"متلازمة صدمة الاغتصاب"، كما تسيطر الأفكار الانتحارية على تفكيره وقد يصل إلى إجراء محاولات انتحارية فعليّة تؤدي أحيانًا إلى موته.

ويظل السؤال بالنهاية، كيف السبيل لمواجهة هذه الظاهرة المتوحّشة التي تنتشر بين خفايا الصمت المجتمعي؟ وكيف يمكن إنقاذ ضحايا زنا المحارم واغتصاب ذوي القربى ممن يخشون البوح والمواجهة القضائية خوفًا من ردة فعل العائلة والمجتمع؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضحايا الاغتصاب في تونس.. قصص الوجع الدائم

العجز الجنسي.. سرّ يخفيه بعض الرجال في مجتمع الفحولة