22-مارس-2020

شاعر وروائي ورئيس فرع اتحاد الكتاب التونسيين بجهة نابل

 

هادئ كطيف في أقصى القصيدة، وواثق كشجرة الشعر، وضاجّ كبطل رواية ودؤوب كالحياة ذاتها، هذه هي الصورة التي سرعان ما ترتسم في ذهنك عندما تلتقي الشاعر والروائي التونسي لطفي الشابي، المولود بمدينة قصر هلال بالساحل التونسي سنة 1965 والمتخرّج من دار المعلّمين العليا بتونس والمنخرط في الحياة الثقافية التونسية منذ ثلاثين سنة.

أصدر الكاتب لطفي الشابي 4 روايات وإصدارين شعريين وهو رئيس اتحاد فرع اتحاد الكتاب التونسيين بنابل ورئيس تحرير مجلة "رؤى الأدب"

"الحلم والمثابرة" يعتبران النسغ الأساسي لتصوّر الكاتب لطفي الشابي لحياة ثقافية تونسية مثمرة ومغيرة للواقع الإنساني وجعله أكثر جمالًا وأكثر بساطة وجعل الحياة أكثر إيناسًا في مواجهة غربة الوجود. فهو ينشط بلا تعب في الجمعيات الأدبية الثقافية التونسية والعربية إذ يترأس جمعية "أحبّاء المكتبة والكتاب" بنابل، وهو أيضًا مدير "الملتقى العربي للثقافة والفنون" بنابل، ومؤسس "البيت الثقافي في الوسط المدرسي".كما يرأس تحرير مجلّة "رؤى الأدب" وهي فصلية تصدر عن دار "رؤى للنشر بتونس". وأكّد فوزه مؤخرًا برئاسة الفرع الجهوي لاتحاد الكتّاب التونسيين بولاية نابل على تشبثه وإيمانه الشديد بقدرة العمل الثقافي المدني غير الرسمي على التغيير الثقافي نحو الأفضل.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| لطفي بوشناق: لم أنتظر الثورة لأتحرّر وهذا هو "سليمان" في "أجراس العودة"

وأيضًا كترجمة لفلسفة "الحلم والمثابرة " التي تقوم عليها مشاريعه الثقافية والأدبية، أصدر لطفي الشابي عددًا من الأعمال المنشورة منها إصدارين شعريين: "واقفون هنا والمدى واقف" (2011) و"نصف قمر على ليل الحديقة" (2016)، وأربع روايات هي "ما لم يقله الشاعر" (2009)، و"المائت" (2013)، و"هواوي" (2018) و"لن نعبر الجسر معًا"(2019).

لطفي الشابي بهذا الكمّ من الإصدارات الشعرية والروائية، يمكن القول إنه بصدد تمتين مدوّنته الأدبية الآخذة في التشكل منذ سنوات لتكون بملامح مخصوصة في المشهد الأدبي التونسي.

"ألترا تونس" التقى الكاتب لطفي الشّابي النحّات الذي يعمل إزميل الشعر في عوالم الرواية الفسيح ويرحّل أساليب التخييل الروائي إلى مروج الشعر في تزاوج وتجاريب مستجدّة، وتنافذ معه بخصوص الجدل المُثار إثر فوزه برئاسة فرع اتحاد الكتّاب التونسيين بولاية نابل وحول مسائل تهم الأدب والخيارات الثقافية في تونس. فكان الحوار التالي:  

  • لماذا اُحيط مؤتمر فرع اتّحاد الكتّاب التونسيين بولاية نابل الذي فزت برئاسته بحالة من الجدل واللغط بين مثقّفي وكتّاب جهة نابل وحتى خارجها؟ وفي اعتقادك ما هي الأسباب الحقيقية لهذه الضجّة؟

 لم يكن جدلًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. كلّ ما في الأمر أنّ البعض لم يرقْ لهم ما أسفر عنه مؤتمر بعث فرع الاتّحاد بنابل، فاختلقوا الأكاذيب وقاموا بحملة لم أشأ أن أردّ عليها لأنّني أعرف من يقف وراءَها. إنها نفس المجموعة التي لا تعمل ولا ترى الخير خيرًا إلاّ إذا كان خيْرَها، فشكّكوا في إجراءات المؤتمر القانونيّة، وادّعوا أنّ الكثير من الكتّاب وقع تغييبهم، والحال أنّ عدد المنخرطين العاملين والذين لم تسقط عضويّتهم لا يتجاوزوا العشرة وقد حضر منهم ثمانية. وتمّ المؤتمر على نحو عادي ووفق التّراتيب والقانون الدّاخليّ للاتّحاد. 

لطفي الشابي: منذ ثلاثين سنة ونحن نحاول بعث الرّوح في المشهد الثّقافي في نابل 

لكن المضحك في الأمر هو أنّ من يقفوا وراء الحملة ليسوا أعضاء في الاتحاد. ولم يواكبوا فعاليات المؤتمر، ولم يطّلعوا على القانون الدّاخلي للاتّحاد. لهذا اختلقوا الأكاذيب ولم يفاجئنا ذلك أبدًا. فقد دأبوا على ذلك، وهم عدد قليل يحرّكهم شخص معروف افتضح أمره في السّنوات الأخيرة فبعد أن فقد مركزه السياسي في العهد السّابق صار يبحث عن تموقع في المشهد الثّقافيّ بأساليب أقل ما يقال فيها أنّها سياسويّة، ثمّ إنّ ما يروّجه يُدينه. إذ يقول إنّني لستُ ابن الجهة، وهذه الحجة أثارت اشمئزاز كلّ من اطّلع عليها. 

على كلّ حال، تعوّد هؤلاء إثارة الغبار، ولن يثنينا ذلك عن العمل من أجل مشهد ثقافيّ وأدبيّ يحتضن الجميع. نحن مشغولون منذ أيام بإعداد برنامج عمل يجمع كلّ كتّاب الوطن القبلي. هذا الفرع هو من أقدم الفروع في تونس. وأنا أتساءل: لِمَ لمْ يتحرّك هؤلاء حين ظلّ الفرع مجمّدًا طيلة أكثر من تسع سنوات. الحمد لله أنّ الكثيرين وقفوا معنا، من تونس ومن خارجها. وهذا ثمرة عمل ثقافيّ استمرّ على امتداد ثلاثة عقود. 

منذ ثلاثين سنة ونحن نحاول بعث الرّوح في المشهد الثّقافي في الجهة. في جمعيّة أحبّاء المكتبة والكتاب بنابل التي تأسّست سنة 1992  وفي جمعيّة فنون المتوسّط التي تأسّست سنة 2010. لم يكن عملنا سهلًا، لا قبل الثّورة ولا بعدها، ولن يمنعنا ذاك من الاستمرار في نفس الرّسالة وشعارنا دائمًا: "الخيرُ خيْرٌ وإن طال الزّمان به؟".

  •  ماهي المشاريع الثقافية والبرامج التي ينوي فرع اتحاد الكتّاب التونسيين بنابل إنجازها؟

في خاتمة مؤتمر تكوين الفرع، جلسنا واتّفقنا على أن يكون عمل الفرع مختلفًا عن سائر الفروع. فبالإضافة إلى اللّقاءات الشّهريّة، وتقديم الإصدارات الجديدة والاحتفاء بالتّجارب الأدبية في مختلف الأجناس، ننوي إقامة مهرجان جهوي يمتد على ثلاثة أيّام للاحتفاء بكلّ كتّاب الوطن القبلي. سنحاول أن نجعل من الفرع ملتقى أجيال، وسنقيم ندوة كبيرة ومعرض كتاب ضخم لكلّ الكتب التي صدرت في الجهة. التّفاصيل سنعمل على ضبطها حين نتجاوز أزمة نفشي وباء الكورونا ببلادنا. ولكنّ البرنامج واضح في أذهاننا، وسيكون حدثًا ثقافيًا في الجهة.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| أحمد القاسمي: سينمائيون يعرقلون النقد الأكاديمي والفيلم الوثائقي مشوّه

لنا تجربتنا الطّويلة في تنظيم الملتقيات الثّقافيّة، وسنعمل على الإفادة منها. كما لنا تصوّر في العمل ينحو نحو تشبيك المجهودات مع الفروع القريبة من نابل، ونفكّر في إقامة أنشطة مشتركة دوْريّة. نحاول أن نجدّد طريقة عمل الفروع، ونحاول خاصّة توفير الموارد الذّاتيّة، لأنّ المنح التي يرصدها الاتّحاد لا تكفي للقيام بكلّ هذه المشاريع. ولنا تصوّر أرجو أن تسمح الظّروف بإنجازه كما نريد.

  •  هل فعلًا "اتحاد الكتّاب التونسيين" مؤسسة تغرّد خارج السّرب بالنظر إلى الانتقادات الموجهة من قبل الكتّاب وخاصة الشباب منهم وإلى أدائه الذي وصف بالهزيل في السنوات الأخيرة ومدى قدرته على تجميع الكتّاب من الشمال الى الجنوب؟

اتّحاد الكتّاب يعاني من إرث ثقيل وتركة مرهقة والجميع يعرف ذلك. ما أنجز في السّنوات الأخير أعتبره مؤشّرًا على تحوّل كبير ننتظره من الاتّحاد الجديد. في شكله الجديد الذي بدأ يظهر من خلال إنجازات كثيرة لا ينتبه إليها البعض. وربّما القائمون عليه مقصّرون في التّعريف بها. 

لطفي الشابي: أنا كمن يعيش في بيتيْن متنافذين: بيت الشّعر وبيت السّرد والثّاني أرحبُ وأوسع مدى

أنا انضممتُ إلى الاتّحاد سنة 2012 حين استوثقت من بوادر عودته إلى سالف دوره الذي أسّس من أجله. كثيرون عادوا إلى الانخراط فيه من جديد، ومنهم من كان من مؤسّسي "رابطة الكتّاب الأحرار". ومهم كذلك جامعيّون كانوا قد غادروا قبل الثورة ولا أخفي سرًا عندما أقول أنّ هناك مشروعًا جديدًا يليق بالكتّاب ويخدمهم. ولهذا أنا مؤمن جدًا بالدّور الذي يمكن أن يلعبه اتحاد الكتاب التونسيين في المشهد الثقافي التونسي وحتى العربي.

  • تراوح بين الشعر والرواية، فأيّهما أنت؟

الاثنان معًا وربّما أكثر. إذ بدأتُ بكتابة الرّواية، ولم أسعَ إلى ذلك. ولكنّ الشّعر كان معي منذ سنوات مراهقتي الأولى. لم أكن أنشر ما أكتب، بل أتلفتُ الكثير منه. حين انفتح باب النّشر من حين لم أكن أتوقّع، كانت المراوحة بينهما تلقائيّة وغير مبرمجة. أنا كمن يعيش في بيتيْن متنافذين: بيت الشّعر وبيت السّرد والثّاني أرحبُ وأوسع مدى. حين يرهقني نصّ روائيّ أحتمي وألوذ ببيت الشّعر وأمارس تماريني البلاغيّة وألاعب اللغة والمجاز على النّحو الذي أتخفّف به من كدْح السّرد وكدّ الذّهن في خلق عوالم متشابكة غريبة ولكنّها تحتاج الكثير من الدقّة والتّماسك.

مراسل "ألترا تونس" رمزي العياري يحاور الروائي والشاعر لطفي الشابي

 

  • يعرّف "أدونيس" الشعر بأنّه سفر حزين على الأرض، في طريق تقوده مهما تعدّدت مسالكها، إلى ما وراء الواقع وليس في الطريق غير الشقاء لكن في الشعر وحده ينبوع الغبطة الوحيد في هذه الدنيا. إلى أيّ مدى تتّفق معه؟

يبدو أنّي أسبقُ الإجابة عن هذا السّؤال فيما تقدّم، وهذا يعني أنّي أخالف جزئيًا الشّاعر والنّاقد الكبير أدونيس فيما ذهب إليه. هو يرى أنّ الشّعر سفر حزين على الأرض، ثمّ يقول إنّه ينبوع الغبطة الوحيد في هذه الدّنيا، وهذا صحيح. وما أختلف فيه معه هو أنّ كل كتابة، بل كلّ عمل فنيّ ينطبق عليه هذا الحكم. 

اقرأ/ي أيضًا: ألفة يوسف: "وجه الله" ينتقل بي من النسبي إلى المطلق لأبدأ تجربة التصوّف (حوار)

كلام أدونيس يصحّ حين نسحبُه على مختلف الفنون.،وهنا أسمح لي بأن أقول إنّ الرّواية، من حيث هي ملتقى فنون، هي الأكثر تجسيدًا لهذا المعنى. الرّواية ينبوع غبطة بلا قاع، والغبطة عندي هي الفرح العقلي. ومن مارس الرّواية يعرف جيّدًا أنّه ليس من لحظة يعرف فيها المرءُ أوْجَ النّشوة كلك التي يضع آخر نقطة في عمل روائيّ عاشره طويلًا وكابد عوالمه واحتمل أمزجة أبطاله وعَنتَ وقائعه.

  • كأنّي بك من أنصار القول إننا نعيش "زمن الرواية"، بمعنى أنّنا اليومَ نحن إزاء جنس أدبيّ انصهر داخله الشعر والمسرح والقصة والمقالة والتاريخ، استوعب كل الأجناس القديمة وهضمها وبتنا نسمّيه "الرواية"، إلى أي مدى يبدو ذلك صحيحًا؟

بكلّ تأكيد. الرّواية الحديثة شهدت تحوّلات كبيرة وهذا ليس جديدًا، فمنذ أواخر القرن المنفلت ونحن نشهد تحوّلات هامّة في الكتابة الرّوائية. لذلك صارت الرّواية "اسفنجة" تمتصّ كلّ الأشكال التّعبيريّة. ولكنّ المشكلة أنّ البعض فهم هذا التطوّر على نحو ساذج فاستسهل الكتابة واكتفى بالجمع دون وعي، ودون اختيار جمالي أعني، وذلك هو العمل المضني الذي يهب النصّ الرّوائيّالحديث قيمتَه وجماليّته الفريدة التّي تُدهش القارئ. كلّ الفنون تتطوّرُ من عصر لآخر. وأظنّ أنّ فن الرواية هو من أكثر الفنون قابليّة اليوم للوصول إلى القارئ وشدّ الانتباه. ومن هنا تستمدّ الرواية قيمتها.

  • هل  يمكن القول إنّ الرواية أفسدت على الشعر حضوره وأنزلته من عليائه؟

الرّواية احتضنتْ الشّعرَ. والشّعر منح الرّواية وهَجًا جديدًا وركّب فيها جناحًا إضافيًا قويًا لتحلّق على نحو أيسر وأعلى. لستُ ممّن يقيمون الحواجز بين الأجناس الأدبيّة ، بل أنا مؤمن بأنّ تضافر الأجناس يمكن أن يكون عنصر ثراء وخصوبة مضاعفة.

لطفي الشابي:  فن الرواية هو من أكثر الفنون قابليّة اليوم للوصول إلى القارئ وشدّ الانتباه

للشّعر مسارٌ صار اليوم قريبًا جدًا من عالم القصّ ومدار السّرد وأعتقد أنّنا نعيش فعلًا زمن تحرّر غير مسبوق، تحرّر من قوالب النّقد التّقليديّة. للكاتب المُنشئ دومًا أسبقيّة على النّاقد. وعلينا أن ننتبه جيّدًا لهذه التحوّلات الكبيرة التي يعيشها فنّ الكتابة في مختلف المسالك والرّوافد سواء في تونس أو خارجها .

  • يقال أنّ أرض الشعر في تونس أصبحت جدباء منذ سنوات، فلم نعد نسمع الأصوات العالية التي تصدح بالجمال فتسلب الألباب وتهزّ الأفئدة هزًا. إلى أيّ مدى يبدو ذلك صحيحًا؟

هذا حُكم جائر، ولا يقول ذلك في رأيي المتواضع، إلاّ من كان غير مطّلع على حقيقة المشهد الشّعري التّونسي اليوم. في تونس لدينا حركة شعريّة حقيقيّة ومتينة وواعية بما تحاوله من إنجازات، ولها صيتٌ خارج تونس وحضور محترم في مختلف المحافل المهتمّة بالشّعر ولو أردنا أن نذكر أسماء الشّعراء الجيّدين في تونس لضاق المجال هنا من وفرة عددهم. وأعتقد أنّ المسألة تتعلّق أكثر بتغيّر الذّائقة الشّعريّة.

 هناك حركة نقديّة تقليديّة ومحافظة ترفض كلّ جديد وتصرّ على تسليط قوالب قديمة على نصّ جديد متمرّد. وهذا ليس حكرًا على عصرنا هذا، فكلّ حركة جديدة تلقى من الصدّ ما يُخمد ذكرها ويبخس حقّها، ثمّ تفرض اختيارها بعد وقتٍ وتصبحُ معيارًا للنّبوغ والجدّة. والشّعرُ لا يكون شعرًا إلاّ إذا اقترن بالبحث المستمرّ عن الجديد في كلّ شيء، في اللّغة وفي الإيقاع وفي فنون التّصوير والمعني.

  • في تونس حرب باردة بين معسكرين لكتابة الشعر: واحد ينتصر لقصيدة التفعيلة والثاني ينتصر لقصيدة النّثر. لطفي الشابي في أي معسكر يقيم؟ ولماذا؟

أعتقد أنّ القضيّة أعمق من هذا الافتراق الشّكلي فأنا أكتبُ الأنماط الثّلاثة: العموديّ (أطلقت عليه في مجموعتي الأخيرة "نصف قمر على ليل الحديقة" اسم "مقام عتيق") والتّفعيلة والشّعر المنثور، وأفضّل هذه التّسمية. ولكلّ نمط عندي رونقه ومذاقه وجماليّته.

اقرأ/ي أيضًا: كمال الرياحي: الثورة الثقافية لامرئية وما حصل لـ"بيت الخيال" عمل داعشي (حوار)

أقرأ أحيانًا قصيدة عموديّة فتطربني أيّما طرب، وفي المقابل أقرأ قصيدة نثر فلا أكاد أفهم منها شيئًا. الشّعر عندي هو ما لامس روح القارئ وحرّك وجدانَه وخرق سكونه وأخذ بيده إلى عوالم من الدّهشة والحيرةِ والسّؤال. فكلّ نصّ ينفذ إلى أعماق القارئ ويخلق فيه حالة وعي جمالي بالعالم هو عندي كلام جدير بمقام الشّعر.  

  • المبدع عادة ما تشبّه مسيرته بالسفر، أيّ المحطّات تستحضرها أكثر؟

نعم الإبداع طريقٌ ودرب في الوجود والمبدع عابر رحّالة. حين أحطّ عصا التّرحال وألتفتُ ورائي أرى المسافة التي قطعتها وأتذكّر كلّ محطّة عبرتُها. ولكنْ المحطّة الأقرب إلى روحي هي تلك التي أمشي إليها ولم أصلها بعدُ. وأظنّ أنّني لن أصل إليها فأنا ابن روحي وربيب اللّغة، وصديق الكتبِ. والكتب هي من علّمتني أنّ " الطّريق لا تكون طريقًا إلاّ إذا كانت بلا نهاية".

لطفي الشابي: الكائن الوحيد الذي لا يموت في اعتقادي هو الكاتب الفنان

لذلك أقول إنّ الكاتب الذي يحترم ما يُحاوله هو ذلك الذي يعي جيّدًا أنّ الرّحلة التي بدأها (ولم يخترْها) هي رحلة مرهقة وطويلة ولا نهاية لها. الكائن الوحيد الذي لا يموت في اعتقادي هو الكاتب الفنان، والكبير توفيق بكّار كان يُسمّيه الكاتب المِفنان لأنّه يمضي ويترك وراءَه أثرا حيًا يشدّه إلى الحياة مهما عاش النصّ وانتشر.

  • أنت شاعر وروائي وتمارس الرسم، لو تحدّثنا عن رحلة الفرشاة؟

هي محاولة طفوليّة عابرة اقتضتْها كتابة روايتي الأخيرة "لن نعبر الجسر معا". بطلها رسّامٌ. حين خلقتُه ورسمتُ ملامحَه ومسيرته في النصّ، فرض عليّ أنّ أمارس فنَّه. هي خربشاتٌ تعلّمتُها أثناء الكتابة. أنا ممّن يتقمّص الدّور حين أكتب. أتلبّس شخصيّة أبطالي الذين أخلقهم، وأجعل لهم حياة حيّة في الحقيقة. لهذا تعلّمتُ الرّسم من أجل "دالي" ورسمتُ لوحات بأنامل الطّفل الذي كان وأنا سعيدٌ جدّا بما حقّقتُه. ولا أخفيكم أني لم أرسم خطّا واحدًا منذ أغلقتُ ملف الرواية. ولكنْ قد أقبل على تعلّم الرّسم، فصديقي الرّسام طارق السّويسي يلحّ عليّ في ذلك. وقد شهد لي بالموهبة ومن يدري، لعلّه يتملّقني تحبّبًا.

  • هل استطعت إيصال صوتك خارج تونس؟

شاركتُ في بعض الملتقيات في بعض البلاد العربية: العراق ولبنان ومصر والجزائر والإمارات. حين أسافر أشعر بأنّي أحمل معي أصوات عدد كبير من الكتّاب الذي أراهم جديرين بأن يكونوا  في واجهة المشهد الأدبي التّونسي، إذ أحمل ما استطعتُ من كتبهم وأعرضها في كلّ مكان.

أعتقد أنّ مسؤوليّة الكاتب أن يعرّف بالحركة الأدبيّة في وطنه، وأن يعتبر نفسه جزءًا من مشهد ثريّ وناضج. وهذا يخدم الكاتب نفسه لأنّ ذلك يرفعه في أعين من يستضيفه. أمّا صوتي، فأعتقد أنّني غنمتُ في كلّ بلاد زرتها صداقات حقيقيّة وذلك بفضل النصّ وبفضل الأخلاق التي لا تكذّب النص.

  • أنت أحد نشطاء النسيج المدني الخاص بالثقافة في تونس. لو تقيّم هذه التجربة؟

تجربة مرهقة وممتعة في نفس الوقت فأنا كنتُ ممّن واكب تأسيس جمعيّة أحبّاء المكتبة والكتاب بنابل سنة 1992 ببادرة من الشّاعر الصّديق الراحل محجوب العيّاري. فمعه تعلّمت معنى أن تُكرم المدينة التي تعيش فيها بأن تجعلها مقصدًا ومزارًا فكريًا وثقافيًا وقد حرصتُ على ذلك من بعدَه. فأنجزنا الكثير من الملتقيات السنويّة والأنشطة الشّهرية في المناطق الدّاخليّة لولاية نابل وركّزنا المكتبات في المدارس النّائية وساهمنا في صناعة أحلام الأطفال والشّباب، تلك ينابيع متعة حقيقيّة.

لطفي الشابي: ارتباط الكاتب بالدّعم الذي تقدّمه الدّولة يجعله يمارس رقابة ذاتيّة على ما يكتبُه

أمّا الإرهاق، فمصادره عديدة، وخاصّة في مرحلة ما بعد الثّورة: غياب الدّعم، غياب الاهتمام بالمشاريع الجادّة، كثرة النّاعقين والدخلاء على الحقل الثقافي واختلاط الحابل بالنّابل وتقاطع السّياسي بالثّقافي وتناحر الأيديولوجيّات العمياء. كلّ ذلك جعلنا نصاب بشيء من الإحباط ونتوقّف عن النّشاط لأكثر من عام. ولكنّنا عدنا مؤخّرًا، وسنحاول أن نجعل من فرع اتّحاد الكتاب بنابل ملتقى الجمعيّات الجادّة من أجل المساهمة في تحريك المشهد الثقافي في الجهة.

  • دائمًا ما يبحث الكاتب التونسي والمثقف عمومًا عن دعم الدولة له ولإبداعه ومجهوده الفنّي، متى تكتمل حريّة الكاتب والمبدع، ويتخلّص من تلك التبعية للدولة؟

مع الأسف، هذا واقعنا، فالدّولة تفعل ذلك على نحو غير بريء طبعًا، وارتباط الكاتب بالدعم الذي تقدّمه الدولة يجعله يمارس رقابة ذاتيّة على ما يكتبُه. ونحن معشر الكتّاب والمثقفين نحلم بأن تكون الكتابة صناعة حقيقيّة مستقلّة تمامًا كما هو قائم في البلاد المتطوّرة، أي أنّ الكاتب يتفرّغ للكتابة، ولا يمارس أيّ نشاط غيرها لأنّ حقوقه محفوظة وموارده تجعله يعيش حياة مترفة.

فالكاتب حين يكون حرًا في الحياة وغير مرتبط بأيّ جهة يكون حرًا في أدبه، وذلك ما يرتقي بالكتابة وبالفنّ. وهذا المشروع لا بدّ أن يدافع عنه الكتّاب ويناضلوا من أجله لأنّه هو ضمان جودة الأدب. وأعتقد أنّ الكثير من الجهات اليوم صارت على وعي بأهميّة هذا المشروع، وهناك تحرّك حقيقي من أجل تجسيده في الواقع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد علي الكبسي: كنّا أوّل من قام بالتمييز ﺑﻴﻦ التنوع والاختلاف (حوار– 1/2)

محمد علي الكبسي: تونس لم تعد قادرة على التعبير عن نفسها (حوار - 2/2)