30-يوليو-2018

قال أستاذ الفلسفة السياسية إن توظيف الهوية والدين ضد الحريات العامة والفردية تهدد مكاسب التونسيين يفتخر بها التونسيون

في الجزء الثاني من حواره مع "الترا تونس"، يتحدث أستاذ الفلسفة السياسية بالجامعة التونسية محمد علي الكبسي عن الواقع السياسي للبلاد وانعدام الثقة بين مختلف الفاعلين السياسيين. كما يتطرّق إلى مسألة النقاشات التي يعيشها المجتمع التونسي والمتعلقة بالهوية مؤكدًا ضرورة وجود نقاط مشتركة من أجل حوار في هذا الجانب مشددًا على ضرورة التمييز بين مسألتي الهوية والمواطنة. وتناول الكبسي في حواره كذلك الانتقادات الموجهة إلى الجامعيين واتهامهم بتوفير المستندات الأيديولوجية للسلطة.

اقرأ/ي أيضًا: محمد علي الكبسي: كنّا أوّل من قام بالتمييز ﺑﻴﻦ التنوع والاختلاف (حوار– 1/2)

  • باعتبارك أستاذ الفلسفة السياسية بالجامعة التونسية، كيف تقرأ الأزمات السياسية المتتالية التي تعيشها تونس؟

انصّب نشاطنا حول بحث الممارسات التقويميّة داخل إطار بناء الذات تاريخيًّا والتي تستمّد فعاليتها من العودة إلى الشخصيات التي صاغت سياسيًّا قولًا في الفلسفة وإلى يومنا هذا مازال يكتنفه الغموض. هذه الرغبة في تتّبع الفكر السياسي داخل دروب غير مطروقة، مأتاها قناعة أن الفكر الفلسفي المعاصر ليس منقطعًا عن تاريخه وهذا إقرار بأن التاريخ لا يقف عند المعاصرين ونظامهم ومنطقهم فقط، فاحترام الحقب يجنبنا الوقوع فى مطبات المركزيّة الأوروبيّة وتأويلاتها طالما أننا لا نبحث عن حقيقة خفيّة فكلّ غايتنا الوقوف عند خطابات سبقت المرحلة المعاصرة والكلاسيكيّة.

محمد علي الكبسي لـ"الترا تونس": الرغبة في تتّبع الفكر السياسي داخل دروب غير مطروقة مأتاها قناعة أن الفكر الفلسفي المعاصر ليس منقطعًا عن تاريخه

لقد ذهبنا أبعد من اليونانين أنفسهم لنتفحص خطابات سمح بها عصرها وأدرجها فى نظام المعرفة الفلسفيّة السياسيّة لكن أسبابًا سياسيّة وأخرى عقديّة عملت على استبعادها من المجال الفلسفي لتشهر أخرى وتقتلها بحثًا وتمحيصًا. من هنا نستمد شرعيّة حديثنا عن الفلسفة السياسيّة ولا ننفي هنا وجوب الانتباه إلى المحاذير التى تحّف بمدلولات القول السياسي من ناحيتين ليس أقلها صعوبة العثور على نسق متميز مقارنة بما وجد عند اليونان.  

على هذا النحو، جاءت مقالتنا الصادرة فى الكتاب الجماعي فلاسفة قرطاج غير مقتصرة على الاكتفاء بالوقوف عند هذه الخصوصيّة والارتباط باللاهوت المسيحي فقط. لقد فهمنا اعتزاز الفيلسوف "ترتيليانوس" بانتسابه إلى مدينة قرطاجنة بما هي قاسم مشترك بينه وبين عديد الفلاسفة، أمثال "أبيليوس" و"سيبريانوس" والتشديد على الهوية الإفريقيّة المطالبة بنديّة ثقافيّة وسياسيّة مع روما. فانبنى السؤال الفلسفي على الحوار المتوازن الذى اتخذه "ترتيليانوس" ركيزة لكل احترام للتنوّع الثقافي والعرقي والديني من جهة وبين اللغة الفلسفيّة الواحدة بما هي فضاء للعيش سويًا من جهة أخرى. لقد أرشدنا إلى قدرة العقل الفلسفي القرطاجي فى القرن الثاني مسيحي واختراقه فنون القول الشعري والأدبي والخطابي والفلسفي.

  • إذًا يمكن القول أن إفريقيا ونوميديا وقرطاج كانت تتفلسف قبل اليونان نفسها؟

بالإمكان القول إننا نعثر داخل القول الفلسفي فى الشمال الإفريقي عمومًا على تعايش عناصر فكريّة ولغويّة وأسطوريّة نوميديّة إلى جانب خصائص ومميّزات ثقافيّة لاتينيّة تنتمي لعرق معين. لهذا نجد من يشدّد على أن فلسفة "ترتيليانوس" لا تنتمي الى الثقافة الرومانيّة إلا فى لغتها أما روحها فتعكس امتدادًا قرطاجيًّا وآخر يونانيًّا وهذا ما عنينا به بفرادة "ترتوليان"، هذا الفيلسوف المسكوت عنه لأنه غادر الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة من أجل كنيسة ترتوليانيّة قرطاجيّة تصدم وتصمد أمام تسلّط كنيسة روما المتعاونة مع السلطة الرومانيّة فى قرطاج. لقد ظهر ترتوليان فى هذه المقالة ذاك المفكر الباحث الذي لخّص قوله الفلسفي في تساوق حركة التاريخ الفكري في شمال افريقيا مع الأحداث التى جّدت أثناء تشكّل هذا الفكر ذاته. وهو تساوق مرتكز على فكرة الهوية القرطاجيّة والنوميديّة التى تحرّكت منذ أن حوّلت روما الرّب الإفريقي بعل حمون إلى ساتورن وعوّضت الكتابة اللاتينيّة الكتابة اللوبيّة، ومنذ أن فرضت كذلك على الإفريقي أن لا يرتقي إلى مصاف المواطنة إلا إذا انخرط في الجيش الروماني المساعد.

محمد علي الكبسي لـ"الترا تونس": لقد فتح مجال الصراع بين المحلي والكوني أمامنا وجوب الانتباه إلى امتداد هذا الصراع إلى الربيع العربي وتحديدًا تونس

يسعفنا القول الفلسفي لدى "ترتوليان" بمادة غنية عن كيفيّة قراءة اللاهوت من زاوية التنوع. فمثل هذا المناخ الجيوسياسي ضروري لفهم دلالات القول الفلسفي لديه لأنه ينبهنا إلى تضايف الدلالة القانونية مع الدلالة اللاهوتية حين يربط بين المسيحييّن وبين الأقليّة المضطهدة فتظهر فكرة الحقوق المدنيّة كاستباق نظري لفكرة المواطنة. هكذا يحوّل الإيمان الى حق ويحوّل طائفة المسيحيّين إلى ذات حق شأنها شأن بقية الطوائف الأخرى، يبرز القدرة التأملية لترتوليان فى دفع المشرع الروماني إلى الاعتراف بأزمة القانون الروماني. فتبدو فلسفته فلسفة  للقانون رغم ظاهرها اللاهوتي وهذه هي طرافتها وكذلك فرادتها في نفس الوقت.

تؤكد تأملات "ترتوليان" أن صوابية الحديث عن  فلسفته يجب أن تمرّ بمصطلحات "الحرية" و"القانون" و"المساواة" و"الحق" و"دولة الحق" وليس بمصطلحات الإيمان فقط. هذا هو المدخل القانوني الذى ألححنا عليه لفهم علاقات الحذر الذي اتسمت بها المسيحيّة الإفريقيّة تجاه المسيحيّة الرومانيّة. تلك هي الخصوصيّة المحليّة التى وقفت بنديّة أمام نزعة العالميّة التي رفعتها الكاثوليكيّة ومثلّت بذلك فرقها النوعي الذي هو فرق امتناع وليس فرق اختلاف لأنه يكشف عن وجه مقاومة أمام الكوني بما هو وجه اقتدار. لقد فتح مجال الصراع بين المحلي والكوني أمامنا وجوب الانتباه إلى امتداد هذا الصراع إلى الربيع العربي وتحديدًا تونس.

  • باعتبارك أستاذ الفلسفة السياسية بالجامعة التونسية، كيف تقرأ الواقع السياسي الحالي وما يحيط به من هزّات متتالية؟

حيال ما يجري ويدور من توترات وأحداث وترّقب ما قد يأتى وقد لا يأتى، من مبادرات حكوميّة، ثمة قلق كبير يزعج، وثمة ترصّد متبادل يدفع الى عدم الثقة بين حداثييّن وليبراليّيّن وقوميّيّن وماركسيّيّن لا يريدون التفريط في الطابع المدني للدولة وبين المنتمين إلى تيار النهضة الذين أرغموا على القبول بالغطاء مدني ليوجدوا لأنفسهم مكانًا داخليًّا ودوليًّا. ثمة عجز وعدم اتفاق على حكومة وفاق، تنأتى بالبلاد عن مخاطر انهيار اقتصادي يلوح في الأفق، ويدفع إلى كلّ أنواع هروب رأس المال. وثمّة وضع مريب لربيع بات مترنحًا من كثرة خلافات الطبقة السياسيّة التي كلّما ظّن الشعب أنها باتت قريبة من التوافق، تفاجئه بتخندقها وتمترسها ضدّ بعضها البعض. لتفرّخ اقتراحات وتصورات توضع فوق اقتراحات كانت وضعتها فوق اقتراحات وضعت بدورها فوق اقتراحات أخرى كانت قبلها موضوعة فوق أخرى قبلها.

رغم جدل الطبقة السياسيّة الذى مثّل جهازًا مفهوميًّا غزيرًا وفرّته أحداث 14 جانفي/ كانون الثاني 2011، فإن العنف والاحتقان، ظلّا ماثلين أمام أفراد الشعب أضف إليهما غلاء الأسعار الذي هدّد مقدرته الشرائية وصعّد درجة الاحتقان، والتظاهر العفوي الذى بلغ مداه إلى تعطل دواليب لدولة قد يؤدي إلى اغتيالات سياسيّة تذكرنا بتحوّل جدل السياسييّن فيما مضى إلى اغتيال كلّ من شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

تونس، لم تعد قادرة على التعبير عن نفسها في حركتها نحو التغيير والثورة، الإعلاميون والجامعيون وأساتذة الثانوي والفلاحون والشباب المعطل بكل أصنافه والأعراف لم يعودوا يؤمنون بالتحوّل الديموقراطي كارتقاء إلى عقد يعين على التغييّر بوسائل سلميّة وديمقراطيّة، بعيدًا عن التطرّف الديني أو السياسيّ، أو الطائفي.

محمد علي الكبسي: ثمّة وضع مريب لربيع بات مترنحًا من كثرة خلافات الطبقة السياسيّة التي كلّما ظّن الشعب أنها باتت قريبة من التوافق، تفاجئه بتخندقها وتمترسها ضدّ بعضها البعض

هذا هو الحدث الرئيسي، حدث غضب الشعب لسقوط قيم ومبادئ المواطنة في تونس. غضب نسيان الحكومة إطلاعه على تقارير رسميّة تكشف الفاسدين علانيّة وتدينهم تمهيدًا لمحاكمتهم. فالمشهد السياسي والاجتماعي لم يتغيّر في تونس منذ 2011 إلى اليوم. فالصراع كان دومًا بين المعارضة، وحزب النهضة الإسلامي سواء لمّا كان في الحكم (بمعيّة حزب المؤتمر والتكتل في الإطار المسمّى "ترويكا") أو حين خرج منه. فوجب الوقوف عند العلاقة بينهما، حتى لا تفهم السياسة على شكل تسويات فى الكواليس، أو هرولة إلى تقديم التنازلات، وتدافع أو تصادم للتغطيّة على الفساد حماية لأعضائهما. فذاك يهدد الدولة في ذاتها.

هناك "براديغم" مؤكد يقوم على الإقرار بصعوبة إرساء حوكمة قائمة على محاربة الفساد في هذه الدولة من ناحية، وصعوبة جعل البلاد متراصة الصفوف ومتنوّعة ومتكاملة ومتضامنة من ناحية ثانية. والإعلان عن محاربة الفساد من طرف رئيس الحكومة يحتاج إلى جرأة قد تؤدي به خارج السلطة لو أعلن صعوبة اجتثاثه أو أنكر محاربته.

اقرأ/ي أيضًا: ياسين العياري: سأكشف مغالطات "الداخلية" في قضية المواطنة الألمانية (حوار– 2/2)

  • وما الحل حسب رأيك؟

قد يكون ذلك مقدمة للانزلاق نحو العنف السياسي المنظم والممنهج من جديد. وقد يستفيق التونسيون مرة أخرى على اغتيالات جديدة كالتي حدثت في 2013 فما آلت إليه الأوضاع، إزاء استهداف واستهداف مضاد بين الإرهابيين والأمنييّن. واستمرار السكوت على استفحال مثلث برمودا (الفساد/الإرهاب/العنف) وتوظيف الهويّة والدين ضدّ الحريات العامة والفرديّة على صورة ممارسات منفلتة ومتعصبة، تهدد مكاسب يفتخر بها التونسيون.

 ليتذكر من يعتقد بحق في مدنيّة الدولة أن "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" ينصّ على أنه "لن يخشى أحد من آرائه، حتّى الدينية منها، شريطة عدم إثارة ممارسته لها لأيِّ اضطراب في النظام العام المحدَّد في القانون".

  • الجامعة التونسية ما زالت أسوارها عالية تجاه المجتمع ومازالت نخبها تفكر خارج القضايا الحارقة. كيف السبيل لكسر هذه الجدران؟ و أيّ دور لأقسام الفلسفة في ذلك؟

يُواجه الجامعي بالاِنتقاد والاتّهام له بالتّقصير، والاِنْتقادات التي توجّه إليه بأنّه في برجه العاجي أو يوفّر المستندات الإيديولوجيّة للسلطة التي يحيى داخلها حتى تتخفّى وراء مثل عليا، وتمارَس مصالحها الخاصة باسم المصلحة القومية لذاك البلد. وكم من مفكرين عِيب عليهم كونهم دافعوا عن الأنظمة الشموليّة وصمتوا أمام الإبادات الجماعية. غير أنّه يجب عدم تعميم هذه المواقف ففولتير وروسو وديدرو فيكتور هيغو وغاليلي وقاسم أمين وطه حسين والخذر الحسين وعلي البلهوان ومحمود طه وغيرهم من المفكرين الذين ناضلوا ونزلوا إلى الشوارع قبل أيام ثورات الربيع العربي وبعده. وهذا ما يجعلنا حذرين أمام إطلاقيّة القول إن النخب تعيش بعيدًا عن القضايا الحارقة. لقد أعطوا الكثير حتى تصبح  للتّجربة وللعقل دوْر أهمّ بالقياس إلى التّقاليد، وعبّروا وشاركوا وشرحوا أفكارهم في الفضاء العمومي، وهو ما مكّن للشعب أن يتحرّر، وللفرد أن يحصل على استقلاليّته وأن ينظّم حياته الخاصّة وفْق ما يراه.

محمد علي الكبسي لـ"الترا تونس": مهما ارتفعت نسبة التعليم العالي ومهما تدنّت نسبة الأميّة فقوى المجتمع المدني مازالت بعيدة عن أن تكون صمام أمان للفلسفة مع المجتمع

فالإعتراف بالتعدّدية ضمن النّوع البشري يدفعنا إلى التخلّي عن اتهام بعض الفئات وإدانتهم والطعن في اشتراكهم في بشريّتنا. وجوبًا علينا الوعي بأنّ جميع النّاس ينتمون إلى النّوع نفسه، ولهم الحقّ في الكرامة بالدّرجة نفسها، فما يجمع أكثر ثباتًا ممّا يفرّق بيْننا. والتّلاعب بالحقائق لا يخفى إنتاج القيم والمعرفة واستغلال الاستنتاجات العلميّة لا ينفى الحق في الدفاع عن اختياراته سياسيّة. الخطر الذي علينا الانتباه له دائمًا يتمثّل في عدم إعطاء الأولويّة للانتصار السياسي على قوْل الحقيقة. فاحترام الإنسان يعني بالمقابل احترام التنوّع، لأنّ التنوّع هو المشترك وهو حقّ من حقوق الوجود.

نقول هذا ونحن نعي انْكفاء المثقّفين، وإخفاق مشاريع النهضة وانْتشار قيم الرّداءة والأنانيّة وتراجع الأحزاب، والبحث عن السّلطويّة ودبيب اليأس الذى يعرّض وجودنا إلى عتمة داهِمة، وهذا يعود إلى غياب الفرز الذي يعقب كل ثورة أو كل حراك اجتماعي. فلا بد أن نأخذ مهل الأيام. فلا نعتقد أن هناك وصفة خاصة صالحة لمواجهة القول إن هناك نخبًا جامعيّة تفكر خارج القضايا الحارقة فالاختلافات الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية للجامعييّن تجعل لهذه الشريحة ظروفها الخاصة والمعقدة وليس للفلسفة ميزة تجعل أفرادها تتميّز عن بقيّة أفراد هذه الشريحة، طالما أن الفلسفة في تونس وفي كامل البلاد العربيّة مازالت الجفوة كبيرة بينها وبين المجتمع المدني.

ومهما ارتفعت نسبة التعليم العالي، ومهما تدنّت نسبة الأميّة فقوى المجتمع المدني مازالت بعيدة عن أن تكون صمام أمان للفلسفة مع المجتمع. فهيمنة الفضاء التقليدي يحتاج أن يكون موضوع قراءة حتى نفهم ما يحصل لنتمكن من التصرف بطريقة صحيحة. لكن هذا لا يعفى مسؤولية البعض عندنا المشغولين طيلة حياتهم الجامعية بالبحث عن الطبيعة الأنطولوجيّة للوجود الهيدغيري أو كتابة حواشي عن غاليلي وقذيفته أو عن الكسندر كوريه وفتوحاته فهذا مفيد. لكن ما يفعلونه الآن من كتابة في الشأن العام فى الصحافة اليوميّة يظهر شعورهم بكون حياتهم كانت صوريّة ودون جدوى هكذا يحمل مشروعنا في ذاته شكلًا من أشكال الوعي لأنه يحمل واقعًا أفضل، وهو مدفوع دفعًا للتفكير في أحداث العصر وهمومه.

  • أيّ مستقبل للفلسفة في العالم بعد رحيل آخر الكبار " بول ريكور" و"جيل دولوز"؟

رحيل الكبار حجر الزاوية في كل المجالات سياسيّة كانت أو علميّة أو أدبيّة أو دينيّة والفلسفة عامة إحدى هذه المجالات. ورحيل القامات في الفلسفة وإن كان يعود أولًا لقانون الموت الطبيعي المعروف إلا أن هيغل أعطانا تفسيرًا جميلًا لهذا الرحيل الذى اعتبره حتميّة أولى لكل تطور روحي لكل حضارة في الآونة الأخيرة من حضورها الفعلي والواقعي. فظهورها مشابه لرحيلها طالما أن ظهورها لون رمادي يرسم رحيلها من جهة كونها تعيش مرحلة رماديّة بدورها إيذانًا باندثارها فرحيل الكبار وفقًا لمقولة هيغل مقدمة رماديّة لرحيل حضارات القرن الثامن عشر وتحديدًا الحضارة الفرنسيّة، طالما أن الحضارة الإنكليزية وجدت عزاءها في الأمة الأمريكيّة التي ضخت دماء جديدة في هذه الحضارة الرماديّة لتستأنف دورتها الجديدة. وهذا ما لم يتفطن إليه هيغل ولم يتفحص كيف أن حضارة يرتسم خطها الرمادي لا تنقرض وإنما تعود لترسم خطًا جديدًا يطيل عمر هذه الحضارة العجوز.

  • هل ثمة صراع واضح بين الفلسفة الشرقية والفلسفة الغربية؟

إذا لم يكن للعلم وطن رغم أن الجبر والحساب وعلم الضوء ظهروا في الشرق منذ القديم وتحديدًا في العراق ومصر قبل أوروبا فلماذا نريد أن توسم الفلسفة بكونها شرقيّة أو غربية فالمنشأ التاريخي والجغرافي لا معنى له. وارتباط اليونان بالشرق وتحديدًا الفرس أوضح من أن نقدم عليه دليلًا لمن يعرف صراع الثقافة الفارسيّة مع الثقافة اليونانيّة الذي امتد الى الحضارة العربيّة الإسلاميّة وفعل فعله فيها. ومن سموا فلاسفة ما قبل سقراطييّن أو قل الفلاسفة الطبيعييّن أمثال طاليس وانكزاغوراس وانكسماندراس كانوا من آسيا الوسطى وتحديدًا من من ميلتوس (آيدن التركيّة).

محمد علي الكبسي لـ"الترا تونس": ليس هناك حديث عن هويّة إن لم تكن بيننا نقاط مشتركة والإلحاح على أن الفلسفة شرقيّة أو الإلحاح أنها غربيّة تصنيف جغرافي يلغى مبدأ التنوّع الذي نؤمن به وندافع عنه

والإلحاح على أن الفلسفة شرقيّة أو الإلحاح أنها غربيّة تصنيف جغرافي يلغى مبدأ التنوّع الذي نؤمن به وندافع عنه. ولسنا معنييّن برأي أو اعتقاد الأستاذ "برييه" مؤرخ الفلسفة المعاصر فرغم اعتقادنا أن الحضارات ظهرت قديمًا في الشرق قبل الغرب بقرون كثيرة، وفيها علوم وفنون وصناعات وضروب من التفكير الديني والأدبي وغيره من الموضوعات الفلسفيّة فالاتصال بين الفكر الفلسفي والفكر الأسطوري كان دومًا ميزة أساسية للفكر الشرقي، هذه الميزة تدفعنا إلى افتراض التنوّع حين نرى الأهمية التي احتلتها الأسطورة في فلسفة أفلاطون.

فمع أفلاطون لا نعثر على الفصل بين الفلسفة التي يقال إنها يونانية والأسطورة التي يقال إنها شرقية. ومن ثمة ماذا نسمي عودة الأسطورة من جديد لتلتحم بالفكر الفلسفي المعاصر، وامتدت لتقترن بالفكر العلمي. وكما نعثر في الشرق على الطاو، الين واليانج، الكارما، المايا، النيرفانا، اليوجا .. إلخ، في فلسفات بوذا، زرادشت، لاو تسي، ماني، كونفشيوس وغيرهم من حكماء وفلاسفة الشرق. نعثر في الغرب على طوائف مماثلة: البلاليون، الفراخانية، الدونمة، الماسونية، الصهيونية، بناي برت، الروتاري، الليونز، حيروت، الأنتراكت، الروتراكت، المورمون، شهود يهوه، الأبوس دي، المونية.

  • الأستاذ محمد على الكبسي أسس جمعية "مدارات فكرية" سنة 1992 مع مجموعة أخرى من الأساتذة الجامعيين التونسيين، لو تحدثنا عن هذا الحلم المعرفي وما الذي تحقق منه؟

كان حلمًا ارتبط كما ذكرت مع مشروعنا الذي تبلور وكتاب فلسفة التنوّع. وقد ضمنا ذلك في البيان الافتتاحي للعدد الأول من مجلة "مدارات" وحافظنا على حضوره في كل الأعداد. لقد لقيت مجلتنا كل الترحيب والعناية من الإعلامييّن آنذاك والصحافييّن. واعتبرت حدثًا فكريًّا جادًا في الساحة الفكريّة التونسيّة. لقد استقطبت جلّ الأقلام المعروفة في تونس ومن خارج تونس (مصر/لبنان/الجزائر/العراق/ اليمن /فرنسا/كندا) والتف حوله فريق عمل متكوّن من جامعييّن آنذاك أمثال محمد عبد العظيم، وفتحي التريكي، وعمر الجمني، ونجيب بوطالب، وغير الجامعييّن أمثال على المخلبي وعدنان منصر ومهدي مبروك إلخ.

وقد أصدرنا إلى حدّ الآن اثنان وثلاثين عددًا مزدوجًا نالت رضى متتبعي الشأن الفكري دون عشر السنوات العجاف التي مرت بها المجلة من 2000 إلى 2011 نتيجة ضغوطات من مراكز القرار لننخرط في لعبة سياسيّة رفضناها فقطعوا عنّا منحة وزارة الثقافة التي كانت تمثل دعمًا أساسيًّا لصدور المجلة. وبعد 2011 عادت المجلة للصدور بتصور جديد وأقلام جديدة أغاضت به حسادها.

  • ما هو موقف الأستاذ محمد علي الكبسي من النقاشات التي تندلع بين الحين والآخر داخل المجتمع التونسي حول الهوية؟

منذ القرن الماضي ونحن نقرأ عديد الطروحاتٍ الفكرية/السياسية لتيارات تعزّز دلالات مختلفة عن مفهوم الهويّة لا تخرج كلّها عن دلالات الوطنيّة أو العروبة أو الدين. واستقرت في الأذهان منذ ظهور الدولة القوميّة، في مطلع القرن العشرين. وزاد ظهور مشكلة "الأقلّيات" وتعزيزها من طرف الغرب الأمر تعقيدًا، لما تمثله من خطر يرتبط بتقسيم الشعوب والأوطان. فكلّما نظرنا إلى هذه المسألة بعيدًا عن التنوّع الإثني والديني الذي قامت عليه الحضارة العربية الإسلاميّة منذ قرونٍ عديدة تبدو لنا القضيّة على أنها قضيّة انفصاليّة، في حين أن القضيّة قضيّة غياب حقوق مواطنين. وجب إذن التميّيز بين مسألتين، مسألة "المواطنة"، وتعالج في المؤسسات الدستورية حتى لا يقع استخدام العنف ضدّ "الآخر"داخل الوطن الواحد، ومسألة "الهويّة" التي هي انتماء إلى ثقافة حاضنة للتنوّع وللتعدّدية تتطلّب أولاً التسليم بوجود الولاء للوطن بماهو هويّة مشتركة، لتحديد العلاقة تحديدًا كليًّا فيما بينها، ليؤدّي ذلك إلى التعايش بنديّة.

محمد علي الكبسي: أرى أنه ليس هناك حديث عن هويّة إن لم تكن بيننا نقاط مشتركة ففي غياب القواسم المشتركة تصبح الهويّة هراء

أرى أنه ليس هناك حديث عن هويّة إن لم تكن بيننا نقاط مشتركة. ففي غياب القواسم المشتركة تصبح الهويّة هراء، لأن القواسم المشتركة تسمح بأن يكون هناك حوار بيننا ويكون ممكنًا. فما هي تلك القواسم المشتركة؟ حتمًا هي كل ما هو إنساني، ولا يجوز اختزاله. القضية إذًا أن الهوية غير مبنية على الأحادية أو المركزيّة إذا أردنا إحداث التفاعل. فيجب أن يكون ثمة تفاعل مع الآخر وأن لا يكون هناك تشكيل لهوية بمعزل عن الآخر. وقد صدعنا بهذا الرأي منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2008 بمناسبة المؤتمر الفلسفي العربي الخامس الذي انعقد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببيروت تحت عنوان "حقّ الاختلاف وسؤال الهوية".

 

اقرأ/ي أيضًا:

بن عمّو مؤلف "عام الفزوع": شوقي الماجري أراد تزييف تاريخ "بن غذاهم" (حوار)

المختصة في تصميم الصورة ريم الزياني: الصورة نمرود تلخّص الواقع وتختصر الزمن