الإنتلجنسيا التونسية التي تشتغل بالتفكير والتفلسف يبدو أنها مازالت داخل أسوار الجامعة لم تغادر بعد نحو سماء المجتمع الواسعة والأسباب هنا عديدة، منها ما يشبه الانكفاء على الذات ومنها ما يرجع للوضع السياسي في تونس الذي كان يسعى دائمًا إلى تدجين المثقف وجعله منسجمًا مع تصوراته ورؤاه.
لكن ندرة من هذه النخبة تجرأت على الذهاب إلى الساحات السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية، وكانت لها إسهامات هامة غيرت ما استطاعت تغييره في بنية العقل التونسي سواء خاتلت الساسة أو اصطفت في المعارضة ومن هذه الأسماء على سبيل الذكر توفيق بكار، وهشام جعيط، وعبد القادر المهيري، وعبد السلام المسدي، وفتحي التريكي، وحمادي صمود، والطيب العشاش، وعبد المجيد الشرفي، والعربي عبد الرزاق، ومحمد علي الكبسي أستاذ الفلسفة السياسية بالجامعة التونسية الذي التقاه "الترا تونس" بعد نشره هذه الأيام لكتاب" الحداثة الخجولة" وأيضًا بعد صدور العدد الجديد من مجلة "مدارات" التي أسسها سنة 1992 رفقة مجموعة من الأساتذة الجامعيين ويتولى رئاسة تحريرها.
أصدر محمد علي الكبسي عشرات المقالات الصادرة بمجلات محكّمة وألف عديد الكتب آخرها "الحداثة الخجولة"
الدكتور محمد علي الكبسي من المختصين القلائل في الوطن العربي في الفلسفة العملية أي تلك التي تتوزع بين السياسة والأخلاق بحثًا عن تفكيك مفهوم الحكمة العملية وهو يدرّسها بتونس منذ التسعينات.
محدثنا يزور العديد من الجامعات العربية والأوروبية لإلقاء الدروس والمشاركة في الندوات والتظاهرات العلمية وله عشرات المقالات الصادرة بمجلات محكّمة لعل أشهرها تلك المنجزة في إطار عمله بمخبر "الفيلاب" مع مجموعة من الباحثين والتي توجت بإصدار جماعي عنوانه "فلاسفة قرطاج".
للدكتور محمد علي الكبسي العشرات من الكتب الصادرة بتونس وأوربا والوطن العربي منها "نقد فلاسفة الاختلاف"، و"كيمياء الربيع التونسي والعربي"، و"اليوتيوبيا والتراث"، و"قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر"، و"في النهضة والحداثة"، و"الفكر السياسي العربي من التطور إلى المصطلح"، و"نشأة الفكر السياسي عند العرب"، و"ميشال فوكو وتكنولوجيا الخطاب"، وآخرها "الحداثة الخجولة".
تحدث ضيف "الترا تونس" في هذا الحوار بجرأة الفيلسوف عن معوقات النهضة العربية وعن المآزق السياسية في تونس وجدوى الفلسفة في زمن المجتمعات الشبكيّة.
اقرأ/ي أيضًا: يوسف الصديق: لا عقاب في القرآن للمثلية.. ولا شيء اسمه الشريعة (حوار– 1/2)
- الدكتور محمد على الكبسي من الفلاسفة التونسيين الذين كانوا قريبين من واقع المجتمعات العربية إذ اشتغل على أمهات القضايا منظور لها بأدوات الفلسفة، هل يمكن الحديث عن مشروع متكامل للإصلاح خاص بك على غرار مشاريع محمد عابد الجابري وعبد الله العروي بالمغرب؟ وماهي ملامح هذا المشروع ؟
لمّا كنا شبابًا، ﻓﻲ أسوار الجامعة تفتحت أﻣﺎﻣنا آﻓﺎق جديدة لم ﻳكن ﺑﺎﻹﻣﻜﺎن ﺗﻮﻓّﺮها ﻓﻲ مكان آخر كما هو الشأن لبعض أقراننا الذين وجدوا في الانتماء المبكر للأحزاب السياسيّة خير معين لفهم بعض التصورات وإدانة تصورات أخرى. وأﺧﺮﺟﺘنا علاقاتنا الجديدة ﻓﻲ اﻟجامعة ﻣﻦ أﺟﻮاء الرضى عن النفس إﻟﻰ أﺟﻮاء جديدة أكثر نقدًا. ﻓﺘﻌرّفنا على مفكرين ومثقفين وأﺷﺨﺎص ﻳنتمون إﻟﻰ أﺣﺰاب ﺳﻴﺎﺳﻴّﺔ لم نكن قد سمعنا ﺑﻬم ﻣﻦ ﻗﺒﻞ. وربطنا جسور علاقات مع عديد الناشطين في الشأن العام مثل القوميين اﻟﻌﺮب، والقوميين الماركسيّين والشيوعيين ومن يسمونهم التحريفييّن آنذاك أو النقابيين الثوريين، أو الوطنيين الديموقراطيين، والوطنيّين بالجامعة والإصلاحيين والإسلاميّين واليسار الإسلامي والدستوريين إلخ.
محمد علي الكبسي: ربطنا في الجامعة التونسية جسور علاقات مع عديد الناشطين من مختلف التيارات الإيديولوجية والسياسية وأثر هذا التنوع وأحدث ثورة فكرية وأخلاقية ووجودية في حياتنا
وقد أثر هذا التنوع وأحدث ثورة فكرية وأخلاقيّة ووجوديّة ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗنا. وساعدنا ذلك على ﺗﺠﺎوز اﻻﻧﻐﻼق اﻟﻔﻜﺮي، ﻓﻲ وجه اﻟﻘﻮﻣﻲ والديني واﻟﻤﺎركسي، ﺑﻤﺎ اطلعنا ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ كتابات ألتوسير وﺟﻮن راولس وﻣﻴﺸﺎل ﻓﻮكو وﺑﻮل رﻳﻜﻮر وﺟﺎك ﻻكان وكارل ﺑﻮﺑﺮ وتولستوي والحصري والجواهري ولطفى السيد ومحمود طه وحسين مروة ومهدي عامل وعصمت سيف الدولة إلى جانب الفلاسفة الذين تمرسنا على نصوصهم طيلة الحياة الجامعيّة وما بعدها. وتعمّقت ﻗﺮاءاﺗنا اﻟﺠﺪﻳﺪة باﻹﺣﺴﺎس بقيمة التنوّع خلال اطلاعنا على كتاب الأستاذ فتحى التريكي حول فلسفة التنوّع واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ الجديدة والهامة التي يشير إليها ضمنيًّا بطريقة اعتقدنا أنها مغايرة. وأكدت لدينا الضرورة وجوب تبني مقولة التنوّع للقبول بكل هذه التيارات المختلفة لبناء ثقافة مستقبليّة مواكبة للواقع المعاش.
لقد تجذرت ﻓكرة التنوع عندنا ووسعت أﻓﻘنا حتى صرنا من دعاة اﻟتفريق ﺑﻴﻨﻬﺎ وﺑﻴﻦ ﻓﻜﺮة اﻻﺧﺘﻼف. ﻓﻜنّا أوّﻞ ﻣﻦ ﻓﺮق ﺑﻴﻦ مصطلح التنوع ومصطلح اﻻﺧﺘﻼف، ودافعنا عن ذلك ﻓﻲ الملتقى الدولي الذي انعقد ﻓﻲ أﻟﻤﺎﻧﻴﺎ ﺑﻤﺪﻳﻨﺔ ﺑﺮﻳمن ﺳﻨﺔ 2002 ونظمها كرسي اليونسكو للفلسفة بتونس. وشاركنا ﺑﻤﻘﺎﻟﺔ بعنوان "أبعد من الاختلاف".
محمد علي الكبسي: كنّا أوّل من قام بالتمييز ﺑﻴﻦ مصطلح التنوع ومصطلح اﻻﺧﺘﻼف
وﻗﺪ ﻧﺸﺮت ذلك ﻓﻲ كتاب ﺟﻤﺎﻋﻲ باللغة اﻷﻟﻤﺎﻧﻴّﺔ واﻟﻔﺮﻧﺴﻴّﺔ، وكرّﺮناه ﻓﻲ ﺣﻮاراتنا المثيرة للجدل ﻣﻊ الدكتور أﺣﻤﺪ ﺧﻠﻴﻞ ﻓﻲ كتاب مزدوج ﻧﺸﺮ ﻓﻲ ﺳﻮرﻳا ﺑﻌﻨﻮان" ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ اﻟﻤﺜﻘﻒ والسلطة". وﻋﻠﻰ هذا اﻷﺳﺎس، أﺸﺮنا إﻟﻰ أنّ ﻓﻜﺮة التنوع ﻻ ﺗﻘﺘﺼﺮ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻮار ﺑﻴﻦ ﺛﻘﺎﻓﺘﻨﺎ واﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻷﺧﺮى، وإﻧﻤﺎ ﺗﺪاﻓﻊ كذﻟﻚ ﻋﻦ الاعتراف داﺧﻞ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴّﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ عن التنوع الثقافي والحضاري للبلدان التي تنتسب لهذه الحضارة بمعنى داخل الأقطار المكوّنة لها. ﻓﻤﻨﻄﻘﺔ اﻟﻐﺮب اﻹﺳﻼﻣﻲ على سبيل المثال ﺗﻤﺘﺎز بتنوع داﺧﻠﻲ لا يستسيغه بعض المشارقة رغم ﻧﺒﻮغ كثير ﻣﻦ أﺑﻨﺎء هذا الغرب العربي الإسلامي ماضيًا وحاضرًا في معالجة قضايا هذه الحضارة، اﻷﻣﺮ اﻟﺬي يجهلها ﻣﻐﺎﻳﺮة ﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻣﺎ وراء اﻟﻨﻬﺮ، أو ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺑﻼد اﻟﺸﺎم أو الخليج تحديدًا، ﻣﻦ دون أن ﻳﻌﻨﻲ ذﻟﻚ اختلافًا، وإﻧﻤﺎ ﻳﺆكد تنوعًا فكريًا وثقافيًّا كثيرًا ما يغيّبه المركز. ﻓﻜﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻲ داﺧﻞ اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻮاﺣﺪة عدّة رواﻓﺪ ﻳﺠﺐ أن ﻧﻨﻈﺮ إﻟﻰ الغرب العربي الإسلامي ﻋﻠﻰ أنه راﻓﺪ أساسيّ لولاه ما كان للحضارة العربيّة الإسلاميّة ثراء. فهو رافد من جملة الروافد التي تعاﺿﺪت وتعايشت ﺑﺎﺳﻢ التنوع ﻓﻲ الزمن الوسيط وبإمكانها التعايش والتعاضد في زﻣﻦ اﻟﻌﻮﻟﻤﺔ.
محمد علي الكبسي: معاصرتنا ﻻ ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻰ اﻟﺪﻋﻮة إﻟﻰ التشبه بالسلف الصالح وإنما الوصول إلى مرتبة هؤلاء السلف
صورة تجمع أستاذ الفلسفة السياسية بالجامعة التونسية محمد علي الكبسي بمراسل "الترا تونس" رمزي العياري
اقرأ/ي أيضًا: يوسف الصديق: الإسلام فتح باب المواطنة.. والإنسان هو مقصده الرئيسي (حوار - 2/2)
- كيف دافعتم على مشروعكم في الواقع؟
يقوم ﻣﺸﺮوعنا الفكري ﻋﻠﻰ ﺑﻴﺎن أن اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﻨﻴﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ اﻟﺮواﻓﺪ وﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ومتعدّدة اﻷﺑﻌﺎد، ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻗﺼﺎء إﺣﺪاها أو اﻟﺘﻘﻠﻴﻞ ﻣن قيمتها ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎب اﻷﺧﺮى، كما ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺧﻠﻖ ﺗﺮكيبة ﺟﺪﻳﺪة ﺗﺮﺿﻲ اﻟﺠﻤﻴﻊ. وإﻧﻤﺎ اﻷﺻﻞ هو اﺣﺘﺮام ذاﺗﻴّﺔ واﺳﺘﻘﻼﻟﻴّﺔ كل راﻓﺪ، واﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻓﻲ تنوّعه دون احتواء أو التهام.
وللدفاع عن هذه الفكرة لبّ مشروعنا أسسنا جمعيّة في هذا الغرض اسمها مدارات معرفيّة وأسسّنا ﻣﺠﻠﺔ "ﻣﺪارات" ﺗﻨﺸﺮ اﻟﻔﻜﺮ ﺑﺜﻼث ﻟﻐﺎت لتدافع ﻋﻦ التنوّع. وقد ﻓﺘﺤﺖ اﻟﻤﺠﻠﺔ اﻟﺒﺎب ﻟﻸﻗﻼم اﻟﻤﺴﺘﻨﻴﺮة والمشهورة وﻟﻠﻜﺘﺎﺑﺔ ﺑﺄي ﻟﻐﺔ أرادت، ولم نقف عند هؤلاء فحسب بل احتضنت المجلة الشباب الجامعي ممن أدرك مرحلة الماجستير والدكتوراه، وقد نص على ذلك ﺑﻴﺎن اﻟﺠﻤﻌﻴّﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺪر المجلة.
هكذا ﺪافعنا ﻋﻦ مشروعنا الفكري وأردناه مغايرًا لمشروع الجابري وحسين مروة ﻟﻀﻤﺎن ﺑﻘﺎء هذا اﻟﻤﺸﺮوع اﻟﻔﻜﺮي اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ، ودفاعًا عن التراث الإنساني والعالمي بما هو حيوية تنضاف للفكر العربي ﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى، وﻣﻦ أﺟﻞ أن تصبح اﻟﺤﻀﺎرة اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴّﺔ قادرة على أن ﺗﺪاﻓﻊ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ بنفسها. كان التنوّع إﻋﻼنًا عن مستقبل جديد، في مقابل ماضي المحاكاة والإسقاطات، واﻟﺘﻘﻠﻴﺪ واﻟﺪﻏﻤﺎﺋﻴﺔ واﻟﺪﻳﻤﺎﻏﻮﺟﻴّﺔ. فحيويّة المشروع من حيويّة التنوّع، وذﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﻌﻄﻲ ﺷﺮﻋﻴّﺔ ﻟﻠﻤﺜﻘﻔﻴﻦ اﻟﻌﺮب واﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻟﻠﻤﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺎﻟنديّة في ما بينهم قبل مطالبة الغرب بها.
محمد علي الكبسي: ﻣﺸﺮوعنا الفكري يقوم ﻋﻠﻰ ﺑﻴﺎن أن اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﻨﻴﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ اﻟﺮواﻓﺪ وﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ومتعدّدة اﻷﺑﻌﺎد وﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻗﺼﺎء إﺣﺪاها أو اﻟﺘﻘﻠﻴﻞ من قيمتها ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺎب اﻷﺧﺮى
ﻣﺎ ﻳﻠﻔﺖ اﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ مسارنا هو اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ لبّ حضارتنا العربيّة الإسلاميّة ﻋﻠﻰ المستوى الداخلي وكذلك على المستوى العالمي والإﻧﺴﺎﻧﻲ. وكذلك الدفاع عن ضرورة استعمال اﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺎت، اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﻓﻲ اﻟﻐﺮب ﺑﻜﻞ ﺗﻠﻮﻳﻨﺎﺗﻬﺎ لأنها تتملّك الدقة والصرامة والتفوّق العلمي. ونفرّق هنا داخل الحضارة الغربيّة ﺑﻴﻦ المضمون اﻟﻐﺮﺑﻲ الإيديولوجي واﻟﻤﻨﻬﺠﻴﺎت اﻟﻐﺮﺑﻴّﺔ. ﻓﺎﺳﺘﻌﻤﺎل اﻟﻤﻨﻬﺞ ﻻ ﻳﻀﺮ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻌﺮﺑﻲ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻓﻲ ﺷﻲء. لقد سبق لاﺑﻦ رﺷﺪ أن قال إن السّكين التي يصنعها الذميّ ﻻ ﺗﻀﻴﺮ اﻟﺬﺑﻴﺤﺔ ﻓﻲ ﺷﻲء. وكذلك اﻻﺳﺘﻨﺠﺎد أو اﺳﺘﻌﻤﺎل ﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﻓﻲ اﻟﻐﺮب ﻣﻦ ﻣﻨﻬﺠﻴﺎت ﻳﻌﻄﻲ ﺣﻴﻮﻳّﺔ ﻟﻘﺮاءة ﻣﻮروﺛﻨﺎ.
ﻓﻤﻌﺎﺻﺮﺗﻨﺎ ﻻ ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻰ اﻟﺪﻋﻮة إﻟﻰ التشبه بالسلف الصالح، وإنما الوصول إلى مرتبة هؤلاء السلف حتى نستحق أبوتهم التي استحقوها لكونهم عاشوا عصرهم ولم يعيشوا عصر من سبقهم. فلا ضير أن يكون ذهابنا إﻟﻰ خير الدين التونسي وعبد العزيز الثعالبي أو الطاهر الحداد أو محمد ﻋﺒﺪﻩ أو إﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻣﻈﻬﺮ أو لطفى السيد أو قاسم أمين أو طه حسين أو طيب التزيني أو محمود طه أو محمد عمارة أو حسن حنفي أو ﻏﻴﺮهم ، للاسترشاد بهم شبيهًا باستنارتنا واسترشادنا بمفكري عصر الأنوار الأوروبي، واﺳﺘﻌﻤﺎل ﻣﻨﻬﺠﻴﺎت أﺛﺒﺘﺖ ﺟﺪواها وﺗﺴﻬﻢ في إﻳﺠﺎد ﻣﻨﻬﺠﻴّﺔ تباعد بيننا وبين التقليد، وﺗﺮﺳﺦ التنوّع وأخلاقياته من جهة ما هو مصدر الإبداع.
محمد علي الكبسي لـ"الترا تونس": الحديث عن التنوّع يجب أن يكون حديثًا حذرًا إذا ما تعلق الأمر بالمثقف العربي والمسلم نظرًا لالتباس الدلالة التي تحف به
كان اهتمامنا، في هذا السياق، بحفريات ﻣﻴﺸﻴﻞ ﻓﻮكو وإصدارنا لكتاب أطلقنا ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻨﻮان "ﻣﻴﺸﺎل ﻓﻮكو تكنولوجيا الخطاب" يندرج في ضرورة اهتمامنا بالمنهجيات اﻟﻤﻌﺎﺻﺮة. كما نذّكر باﻟﺪراﺳﺎت واﻷﺑﺤﺎث اﻟﻌﺪﻳﺪة التي ألفناها ﺣﻮل "أﻟﺘﻮﺳﻴﺮ "أو"هيدﺟﺮ" أو"كارل بوبر" أو"أﻧﺪرﻳﻪ ﺟﻴﺪ" ضمن كتابنا القيم "ﻗﺮاءات ﻓﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮة" بصورة أننا نحمل رؤية جدية عن كيفية معالجة شأننا إذا ما أردنا أن نكون حاضرين وفاعلين في التاريخ.
كما ﻤﻴّﺰنا في مشروعنا ﺑﻴﻦ ﺻﻴﻐﺘﻲ اﻹداﻧﺔ اﻟﻌﺪﻣﻴّﺔ التي رفعها نيتشه أمام العقل والعقلانيّة والتي لا نستسيغها، واﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴّﺔ كما ظهرت مع ديكارت وسبينوزا. كما ميّزنا ﻓﻲ ﻗﺮاءة اﻟﺘﺮاث بين الاكتفاء بالتحقيق والإحياء لمجمل عناوين الكتب التراثيّة واﻟﺒﺤﺚ عن مواضيع جديدة يقع تناول التراث من خلالها فأصدرنا كتابًا عن "اليوتوبيا والتراث" مؤكدين على ﺷﺮوط إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻘﺮاءات اﻟﻤﺘﻌﺪدة دون الوقوف عند اﻠﻤﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﺎﻟتراث. فاﻟﻘﺮاءة وﺳﻴﻠﺔ وﻟﻴﺴﺖ ﻏﺎﻳﺔ طالما أن الغاية لدينا تظل اﻠﺤﺪاﺛﺔ بما هي إﻧﺠﺎز للمشروع اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ اﻟﻤﺮﺗﻘﺐ.
- ما الذي يميز مشروعكم عن باقي المشاريع الأخرى التي ظهرت في المغرب وفي المشرق؟
ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ الجزم أن مشروعنا متكامل وواضح المعالم وﺗﻜﻮن وﺣﺪة النظرﻳّﺔ فيه انفتاحه ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺮاث اﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻧﺎ مشاركين حقيقيين ﻓﻲ هذا اﻟﺘﺮاث اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. فاﺗﺠﻪ المشروع اﻟﻔﻜﺮي لدينا إﻟﻰ اﻟﻘﺮاءة اﻟﻨﻘﺪﻳّﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ كونها اﻟﻤﻌّﺒﺮ ﻋﻦ اﻟﻮﻋﻲ اﻟﺤﺎد ﺑﺎﻷزﻣﺔ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮة. واشتغلنا ﻋﻠﻰ مشاريع خير اﻟّﺪﻳﻦ اﻟﺘﻮﻧﺴﻲ واﻟﻄﻬﻄﺎوي واﻷﻓﻐﺎﻧﻲ وﻣﻦ ﺗﻼهم، ﻓﻲ كتابنا "اﻟﻨﻬﻀﺔ واﻟﺤﺪاﺛﺔ". إذ ﻃﺮحنا ﻋﺪة ﻓﺮﺿﻴﺎت ﻣﻦ ﺧﻼل ﻧﻈﺎم ﻣﻨﻄﻘﻲ ﺗﺤﻠﻴﻠﻲ ﻟﺒﻴﺎن كيفيات انعدام شروط قيام حداثة أدﺑﻴّﺔ أوتارﻳﺨّﻴﺔ أوسياﺳﻴّﺔ أوفنيّة.
ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﻘﻮل إن ﻣﻴﺰة ﻣﺴﺎرنا اﻟﻔﻜﺮي تمثلت ﻓﻲ التأكيد أن اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ لدينا ﻣﺸﺪود دومًا إﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴنا ولا إلى ما يعنى السلف. لهذا كان إرﺳﺎء ﻗﻮاﻋﺪ ﻤﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﻔﻜﺮاﻟﻌﺮﺑﻲ، ﻋﻨﺪنا، يمرّ أولًا باﻟﻨﻤﻮذج الإنساني واﻟﻌﺎﻟﻤﻲ في معالجاتنا الفكريّة، بعد التشبع الكبير بمفاصل هذه الحضارة. فمنهما ﻧﺴﺘﻤﺪ "ﺣﺎﺳﺔ شمّ" السؤال واﻟﻤﻨﻬﺞ لوﺟﻬﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺦ. ﻟﻬﺬا قسونا قسوة شديدة على الدكتور ﺧﻠﻴﻞ أﺣﻤﺪ ﺧﻠﻴﻞ في كتابنا المزدوج "ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ اﻟﻤﺜﻘﻒ واﻟﺴﻠﻄﺔ" لأنه لم يطوّر ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻣﻔﺎهيمه، وظلّ حبيس تصورات فضفاضة وهلاميّة عن ﺎﻟﻤﺜﻘﻒ والإﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻟﺘﻨﻤﻴّﺔ واﻟﺴﻴﺎدة إﻟﺦ، وأبقى المسألة على شكلها القديم ذات الإطار التراثي والمضمون الديني، والأسلوب الإنشائي - الخطابي الذي لا يعدو أن يكون سوى مقولات عامة.
محمد علي الكبسي: ﻣﻴﺰة ﻣﺴﺎرنا اﻟﻔﻜﺮي تمثلت ﻓﻲ التأكيد أن اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ لدينا ﻣﺸﺪود دومًا إﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴنا ولا إلى ما يعنى السلف
فأمام التحوّلات السياسيّة الاقتصاديّة التكنولوجيّة، والثقافيّة وأساليب الضبط السياسي وعلائق التنافس وحرية انتقال رؤوس الأموال، وسهولة انتشار المعلوماتية، وتسارع الاستهلاكية، يعاني المثقف حالة ضمور وانكماش بعد انزياح مراكز الفاعلية عنه. فرصد التوجهات المستقبلية الكبرى واستيعابها، تحتاج لكنس ما ترسب من مفاهيم ومقولات الألفيّة الماضية، لأن الصورة التي تعلن عنها هذه الألفية لا تخص الغرب وحده، بل إن كل دول العالم ستنخرط في شبكتها. ويطالب مشروعنا بضرورة فهم المسألة من زاوية الفلسفة السياسيّة المعاصرة، والعوامل المحرّكة للتاريخ، والتي أضحت تتمثل في العلاقة التي كان من الممكن أن تستمر في إشكالها السابقة والتي دخلت مع الألفية الثالثة مرحلة جديدة فارقت فيها دلالتها السابقة، نظرًا لكون هذه الألفية أضحت تعيد بناء العالم على نسق سريع منذ العشرية الأخيرة للألفية لهذا رأينا المفكر خليل أحمد خليل مفكرًا لم يغادر الزمن التقليدي إلى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: يسرا فراوس: يجب تحرير الجسد بتونس وهذا موقفنا من أحكام الشريعة الخاصة بالنساء
إن الدرس الذي يمكنا مشروعنا من استيعابه هو الانتباه إلى التساؤلات التي تطرحها هذه الألفية بخصوص العولمة وعولمة المعرفة التي خضعت بدورها لقانون السوق، وحتى لا تكون هذه العولمة وسيلة جديدة لإخضاع الثقافات والحضارات لصالح ثقافة معينة، فرّقنا بين التنوّع والاختلاف داخل هذا التطوّر التكويني وهذا الأفق المسمى ألفية. وركزنا على ضرورة بقاء التنوّع الثقافي والحضاري عنوانًا وخلاصًا للإنسانيّة عوضًا عن الاختلاف الذى يبشّر به جاك داريدا.
نشير إلى أن الحديث عن التنوّع يجب أن يكون حديثًا حذرًا إذا ما تعلق الأمر بالمثقف العربي والمسلم نظرًا لالتباس الدلالة التي تحف به، ليس أقلها غموضًا معنى التنوّع وارتباطه في أحد أوجهه بالتذرّر. وهذا ما يسهل عملية قيام التنوّع راهنيًا حيث يجب أن يقوم في مواجهة فلسفة الاختلاف المنغلقة على الهويّة والمغرمة بتفتيت ما لا يفتت. ومهمة المثقف منع الكونيّة من السقوط في التذرير كنتيجة لانغلاق الهووي على نحو لا تتوّجه فيه إلى إنسان/ شعب/ أمة معينة وإنما إلى الإنسانية ككل من جهة كونها متنوّعة وليس مجرد مختلفة. وبذلك نتفادى فخ الاختلاف الذي يقف عند قراءة النص دون معناه ويتناسى الهامّ والمركزي والضروري للاهتمام بالهوامش. أليس هذا وهمًا؟ ما معنى أن نحارب الوهم ثم نلهث وراء المختفي والمقصي؟ ولماذا نحارب الوهم بالوهم؟ أليس هذا تصوّفًا في لبوس جديد وعصري؟
لفهم ذلك جيدًا لابد من الرجوع الى كتابنا "نقد فلسفة الاختلاف" لنبحث عما يوجد وراء الأكمة حتى يكون مجال دفاعنا عن التنوّع غير مجال الاختلاف وزعيمه جاك دريدا.
- بداية القرن العشرين، عرف العالم العربي محاولات فكرية جادة لمشروع نهضة متكامل مع جمال الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا عبد الرحمان الكواكبي، لكن تم وأد هذا المشروع ولم نرى له امتدادات حقيقية إلى الآن. في اعتقادك لماذا لم يحصل ذلك؟
إن إعادة النظر في البديهيات أهم ميزات الفكر الفلسفي، وإعادة اكتشاف بديهيات بلا حدود علامة مميزة لكل صاحب مشروع. فبعدما تخلصت القوى الدوليّة من الإمبراطوريّة العثمانيّة، اكتشفنا ضحالة مرتبتنا وضحالة من كانوا سادة لنا فأعدنا النظر في بعثاتهم (الطهطاوي على سبيل المثال) من جهة ماهي ممهدات المشاريع النهضويّة التي ستعيدنا إلى ما كنّا عليه، وستوقف انهيار حضارتنا.
محمد علي الكبسي: إن مقصد مشاريع النهضة العربية في بداية القرن العشرين هو الدفاع عن قضية التأخر التاريخي على حدّ عبارة العروي ضد التفوق الأوروبي المهتم
وعاد الصراع مع السؤال الأول: كيف يجب أن نعود أسيادًا للعالم؟ فطالما اعتقدنا أن السلطة قادرة على إنتاج الأحلام العليا لنا. ولقد كان مقصد مشاريع النهضة هو الدفاع عن قضية التأخر التاريخي على حدّ عبارة العروي ضد التفوق الأوروبي المهتم بمواجهة التفسيرات المستوحاة من علوم الطبيعة بعيدًا عن الاجتهاد الكنسي. وإن مشروع وصف الظواهر بواسطة أدوات هذه العلوم، أصبح يتم تأكيده مرة أخرى وبقوة من طرف مفكرين وعلماء ظلّ حاضرًا لديهم مصطلح مركزية الإنسان، لهذا لم تفهم المشاريع المسماة "نهضوية" النهضة الأوروبية واقتصر دورها على الدفاع والبحث عن مخرج للسلطة المعطوبة. وقد وضحنا عدم الفهم بشكل مستفيض في كتابنا "في النهضة والحداثة" وهو من منشورات دار سيراس سنة 1994 وأعادت طبعه دار الفرقد بسوريا سنة 2006.
- يبدو أن السياسة أعاقت تقريبًا كل المشاريع النهضوية العربية؟
العنوان الفرعي الذى وضعناه للكتاب المذكور يؤكد المعنى الذي أشرنا إليه، وهو "حفريات في مفهوم الكتابة والدولة والوطنية والشرعة الدولية". وكما يظهر من عنوانه، فإنّ الكتاب يندرج في إطار الدّراسات الجيوسياسية والفكريّة والتّاريخية التي عادت إلى عصر النهضة وتتناول أفكارها وقضاياها بالدّرس والتّحليل، والكتاب يقدم مراجعة نقديّة وإبستمولوجيّة لذلك العصر في ضوْء متغيّرات السياق الحضاري بعد سقوط الخلافة، والواقع العربي الراهن تحديدًا، مستدلًا على الممارسات السياسية العربية، من الأنظمة إلى الإيديولوجيا، التي أدارت ظهرها لفكر النهضة والتقدم والأنوار، وغدرت بها من خلال التوظيف المُسيء إلى روح العقلانيّة والتعدّد الّلذين أنشآ روح النهضة. من هنا تبرز أهميّة دراستنا وضرورتها حين تفكّر من جديد في المشروع الأنواري/النهضوي المرتقب.
اقرأ/ي أيضًا:
ياسين العياري: النهضة ستتخلى عن الشاهد "إذا وجدت ثمنًا مناسبًا" (حوار– 1/2)
ياسين العياري: سأكشف مغالطات "الداخلية" في قضية المواطنة الألمانية (حوار– 2/2)