13-يونيو-2023
عبد الله عكار

حوار مع الحروفي التونسي عبد الله عكار

 

اللغة باعتبارها سلوكًا دلاليًا سيميائيًا بين البشر له طابع لفظي يعكس مباشرة انهمار الفكر في رأس الإنسان بل يعكس شكل الفكر وطرائقه "فمن المستحيل التفكير خارج نظم الكلام" وكما يقول "لاكان": "إن اللغة سابقة علينا وهي ما يحددنا، فداخل اللغة هناك اختلاف بين ذات التلفظ وذات الملفوظ وهو اختلاف يفسر السيرورة التي من خلالها تنتشلنا اللغة من طبيعة نجهل عنها كل شيء كي تقذف بنا في ثقافة نحصل داخلها على أبعاد موضوعية". 

لكن هذه اللغة الملفوظة، المنطوقة المنزلقة من عمق التفكير والمعبرة عن ذات التلفظ، كونت لها رصيدًا من الثقافة الشفوية التي يتم تداولها بالذاكرة في ذاتها والذاكرة الموروثة بين أجيال أي تجمع لغوي في أي زمان ومكان وهو ما عاشته أغلب اللغات قبل حلول الكتابة التي "دمّرت حرية اللغة" وقصفت لها أجنحتها وحاولت تدجينها وتقنينها وضبطها بالنحو والتصريف، وحتى فلول الشعر الشارد عن الضبط  باعتباره صوتًا حرًا للكينونة والتمظهر الجمالي الأوحد للغة جُعلت له البحور وعاءً لا يحيد عنها ناظم الشعر، وهو ما أدى إلى نوع من التطابق الثلاثي بين أنظمة التفكير وأنظمة التلفظ وأنظمة الكتابة. 

إن المغامرة التي أحدثها الفن في العالم الوجودي للخط العربي جعل منه حالة رمزية مثلى ومغرية ليس لفنانين عرب فحسب بل أيضًا لفنانين تشكيليين من ثقافات أخرى انجذبوا إلى  بهر الضوء الساطع من ثنايا الحرف العربي

والخط العربي منذ نشأته وهو يزاحم الثقافة الشفوية التي تعتبر قوام الثقافة العربية الإسلامية إلى اليوم، فما كان منه إلا التشقق والتفرّع والتشظي العفوي إلى خطوط أخرى عديدة وبديعة دفاعًا عن كياناته الجمالية والتشكيلية والهندسية وحفاظًا على استمراريته وبقائه حيًا استنبت الخط العربي من نفسه انحناءات مغرية وتشكلات تراوح العتمة بالنور نلمحها في خطوط النسخ والرقعي والإجازة والكوفي والثلث والمغربي.. وهي أنواع خطوط تتناسل من بعضها البعض مكونات دلالية جمالية وسيميائية.

هذه الانبلاجات الفنية العفوية التي يقوم بها الخط العربي حفاظًا على وجوده ووجود الثقافة التي يقولها منذ قرون عديدة التقطتها الفنون التشكيلية في حقب متقدمة وذهبت بها بعيدًا من أجل مساعدة الخط على التحرر من قوانينه العويصة الرتيبة فتم إخراجه إلى عوالم التلوين والانكسارات والترميز وكسر أنساق اللفظ والملفوظ ووهبه طاقات تعبيرية هائلة ومتوهجة فنجد خروجًا رائعًا ومغايرًا في الحروفية الفارسية والحروفية العربية المنتشرة في الشرق الأوسط والمغرب العربي، وهي في الحقيقة بحوث أودعها الفنان العربي والفارسي مهجه وقلقه الفني وتجليات الحرية التي تسكنه والمهارات التي تتملكها أصابعه، فجاءت الأعمال الفنية كارتحال في مجاهل الحرف العربي ووقوف على ما دفنه الأجداد في المنعطفات من كنوز جمالية. 

 

 

إن المغامرة التي أحدثها الفن في العالم الوجودي للخط العربي جعل منه حالة رمزية مثلى ومغرية ليس لفنانين عرب فحسب بل أيضًا لفنانين تشكيليين من ثقافات أخرى انجذبوا إلى  بهر الضوء الساطع من ثنايا الحرف العربي ومعماره الفاتن فنجد صدى لذلك في أعمال رسم وأعمال هندسية معمارية ومنحوتات ومنسوجات وتنصيبات وأعمال موضة تهم اللباس والمجوهرات.

هكذا يتحول الخط العربي من حالة جمود وسجن داخل دلالات اللغة إلى حالة ثقافية وفكرية يمكن أن تبلور جمل لامتناهية من العلامات المتجددة التي تهم البشرية قاطبة  في ظل قيمة التنوع الثقافي التي تنبني عليها الحضارة الإنسانية.

ضمن هذه الأطر الفكرية والفلسفية والجمالية تتنزّل تجربة الخطاط والحروفي والفنان التشكيلي التونسي المقيم بفرنسا عبد الله عكار الذي التقاه "الترا تونس" على هامش مشاركته في تظاهرة أيام قرطاج للفن المعاصر التي انعقدت بتونس نهاية شهر ماي/أيار المنقضي.

 

صورة
الحروفي التونسي عبد الله عكار

 

وعبد الله عكار ولد ونشأ ودرس بمدينة بن قردان بأقصى الجنوب التونسي وهو الفضاء "الجغراثقافي" الذي شكّل بصيرته الجمالية. وفي سنة 1970 انتقل إلى العاصمة الفرنسية باريس من أجل إتمام دراسته الثانوية في الإلكترونيك ثم الجامعية في مجالات العلوم التقنية، بعد ذلك قرر الإقامة النهائية بفرنسا كغيره من شباب الجنوب. وفي سنة 1980 تعرّف على الخطاط العراقي الشهير عبد الغني العلني وهو الذي دفع به إلى الأكوان المسحورة للخط العربي وجاذبية الحروفية، وجعله يذهب بعيدًا كبحار مغامر في المجاهل اللامتناهية للخط والإقامة الأبدية في عوالمه.  

الحروفي عبد الله عكار لـ"الترا تونس": نشأت بمدينة بن قردان ضمن ثقافة محلية مشبعة بالتيمات الأمازيغية القديمة وضمن مناخ مليء بالضوء الذي خزنته ذاكرتي وتقوم شخصيتي الفنية باستدعائه وزرعه على اللوحات

عبد الله عكار نظّم عدة ورشات للخط والحروفية بمعهد العالم العربي بباريس، كما نظم وشارك في العشرات من المعارض الجماعية والفردية بفرنسا وتونس والمغرب وإيطاليا والإمارات العربية المتحدة وآيسلندا وقطر. 

ولعكّار أيضًا مشاركات علمية في ندوات ولقاءات فكرية داخل فرنسا وخارجها حول الخط العربي والحروفية. كما أصدر مجموعة من الكتب تثبّت تجربته الجمالية والنهج التشكيلي الذي توخاه.

"الترا تونس"  تنافذ مع الفنان التشكيلي التونسي عبد الله عكار فكان الحوار التالي: 

 

  • الفنان المبدع قد تتشكّل ملامح شخصيته الجمالية والفنية منذ الصغر وقد يظلّ يمتح من طفولته القديمة إلى الأبد. إلى أي مدى ينطبق هذا القول على تجربة الفنان التشكيلي عبد الله عكار؟ 

أنا ولدت ونشأت بمدينة بن قردان بالجنوب التونسي ضمن ثقافة محلية مشبعة بالتيمات الأمازيغية القديمة وضمن مناخ مليء بالضوء الذي خزنته ذاكرتي وتقوم شخصيتي الفنية باستدعائه وزرعه على اللوحات ومزجه بضياءات المدن التي استقبلتني.

ونشأت أيضًا على ثقافة السماع والحكي والأسمار البدوية والموسيقى التي يتماهى صداها مع تلك السهوب والصحاري المترامية. كل ذلك شكّل ذائقتي وطبع ثوابت شخصيتي الفنية وجعلني ما أنا عليه اليوم.

 

  • عادة ما يكون هناك قوادح تحمل الإنسان إلى بوتقات الفن وتجرّه إلى طرق مجهولة. أين أنت من القوادح؟ 

القادح الأول كان قبل السادسة من عمري حين عثرت في منزل أحد أعمامي ببن قردان على كتاب "الفضيلة" للمنفلوطي الذي يروي قصة "بول وفرجيني"، ودهشت لتلك الصور التي تثري الكتاب وهي منجزة بفن الحفر وملونة بالأبيض والأسود، وقد بقيت ملتصقة بوجداني إلى اليوم.

الحروفي عبد الله عكار لـ"الترا تونس": نشأت على ثقافة السماع والحكي والأسمار البدوية والموسيقى التي يتماهى صداها مع السهوب والصحاري المترامية وهو ما شكّل ذائقتي وطبع ثوابت شخصيتي الفنية

القادح الثاني هو ما كنت أشاهده دائمًا من ألواح خشبية ملساء في الكتاتيب والتي تحمل تزيين وخطوط الأطفال وهم يتهجون القرآن الكريم.

هاذان الحدثان أصبحا بمثابة المرجع الروحي أو الخلفية البعيدة لقصة انشدادي لعالم الفن. 

 

صورة
من أعمال الحروفي التونسي عبد الله عكار

 

  • كيف دخلت إلى أكوان الخط العربي؟

الخط العربي كان دائمًا مجالًا مغريًا للتأمل وخصوصًا الانبهار الذي أشعر به جرّاء تلك الالتحامات التي تحصل بين الحروف والنقاط، فيتشكل المعنى والتشكيل معًا، لكني لم أمارس فن الخط يومًا إلى حين عثوري على كتاب حول تعلم الخط العربي بإحدى المكتبات العمومية الفرنسية حيث كنت أقيم بباريس فاستعرته مرات ومرات لمدة ستة أشهر وحاولت استيعاب كل محتوياته وخلال تلك الفترة بدأ تعلقي بفن الخط فيما يشبه قصة الحب، لكن وفي نفس الوقت انتابتني أحاسيس غريبة تشي بأن الأمر ليس سهلًا.

الحروفي عبد الله عكار لـ"الترا تونس": تعلمت على يدي الخطاط العراقي الشهير عبد الغني العلني كل تقنيات وأنواع الخط العربي، لكنه في النهاية أوصاني بأن أعتني بالخط المغربي لأنه لمس تقاربًا روحيًا بين موهبتي الفنية وهذا النوع من الخط

وفي مرحلة ثانية من قصة انجذابي للخط العربي هي لقائي بباريس بالفنان والخطاط العراقي الشهير "عبد الغني العلني" الذي تشكلت صداقة بيني وبينه وتعلّمت على يديه كل تقنيات وأنواع الخط العربي، لكنه في النهاية أوصاني وصية الحكيم وهي أن أعتني بالخط المغربي لأنه لمس تقاربًا روحيًا بين موهبتي الفنية وهذا النوع من الخط، كما شجعني على عرض أولى لوحاتي. 

 

  • لكنك لم تكتفِ بفنون الخط العربي ودخلت غمار الحروفية والتشكيل الخطي، كيف حصل هذا الانزياح الجمالي؟ 

لقد شعرت أن قواعد الخط العربي أضيق من أحلامي ومشاريعي الإبداعية فاطلعت في البداية على الحروفية الإيرانية والعراقية والتونسية، لأجدني أحلق بالحرف في سماوات بعيدة أنا نفسي لا أعرفها من قبل. 

 

 

  • يبدو أنك ذهبت أبعد من وصية معلمك الخطاط العراقي فعدت للشعر العربي القديم أو ما يسمى بالشعر الجاهلي وقمت بتوليفة غريبة بين جمال الحروفية وتواقيع المعنى الخارج من القصائد وجعلتها في لوحات وتنصيبات من قماش؟

لم أنسَ أني عربي يقيم في الغرب، كما لم أنسَ سطوة الشعر الجاهلي ومقامه في الحضارة العربية الإسلامية، حيث قمت بالاشتغال على المعلقات السبعة التي كانت تعلق قديمًا على ستائر الكعبة، فجعلتها على قماش  "التارتيلون" الفرنسي المعروف باستعماله كضمائد في المستشفيات، وقد نجحت التجربة وبادرت بعرض هذه التنصيبة القماشية  في مكتبة باريسية، ثم بإحدى الكنائس وتنقلت بها في العديد من المعارض العربية ومنها زيارتي مؤخرًا لتونس ضمن تظاهرة أيام قرطاج للفن المعاصر. لقد أعدت لهذه القصائد الأسطورية الحياة كما أعدت للشعر مكانته ودوره وجعلته "ضمّيدة" للروح.

 

صورة
من أعمال الحروفي التونسي عبد الله عكار

 

  • هل اشتغلت على أشعار تونسية؟ 

نعم  لقد اشتغلت على المدونة الشعرية  لأبي القاسم الشابي 

 

  • حاولت الذهاب بفن الحروفية إلى الخط اللاتيني فكانت لك تجربة مع الشاعرة الفرنسية "ميريال أوقري". هلّا حدثتنا عن ذلك؟ 

الشعر هو الشعر وإن تعددت اللغات لأنه مديح للإنسان أينما كان والحروفية هي انعكاس لذلك المديح لذلك نجد تماسًا ما بينهما. وبالنسبة للتجربة التي خضتها مع الشاعرة ميريال أوقري فهي متفرّدة لأن تطابقًا حصل بين ثقافتين ومبدعين لهما نفس الهواجس الجمالية المترعة بالإنسانية.

وقد صدر الديوان الشعري متضمنًا جميع القصائد وقد أعدتها ملونة ومركّبة على نحو مغاير للمألوف وأحيانا أضيف إليها بعض الحروف العربية كنوع من التداخل والمزج الذي يضفي على القصيدة المكتوبة باللغة الفرنسية معنى بصريًا آخر لم تألفه العين من قبل. 

 

  • في بداية الحديث أشرت إلى وجود "حروفية تونسية"، إلى أي مدى يبدو ذلك صحيحًا؟ 

الحروفي عبد الله عكار لـ"الترا تونس": الحروفية التونسية موجودة فعلًا وقد أرسى دعائمها في أرض التاريخ الثقافي والتشكيلي الفنان نجا المهداوي الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم 

الحروفية التونسية موجودة فعلًا وقد أرسى دعائمها في أرض التاريخ الثقافي والتشكيلي الفنان نجا المهداوي الذي ذاع صيته في جميع أنحاء العالم، هناك أيضًا موجات متتالية من الشباب الذين أتابع أعمالهم ضمن صالون الحروفية الذي ينعقد سنويًا بتونس وينظمه اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين.

 

  • لو تقيّم مشاركتك ضمن فعاليات أيام قرطاج للفن المعاصر لسنة 2023 والتي انتظمت فعالياتها مؤخرًا بمدينة الثقافة بالعاصمة تونس؟ 

هي مشاركتي الأولى وقد استحسنت الفضاء والتظاهرة معًا، كما وقفت على تميّز اللوحة التونسية كما كانت فرصة للتواصل مع الفنانين التونسيين والعرب والأفارقة، وحقيقة قد عدت لمرسمي بفرنسا بانطباعات جيدة.

 

صورة
مراسل "الترا تونس" مع الحروفي التونسي عبد الله عكار