31-مايو-2023
ماكرون ميلوني

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني (Ludovic MARIN/ أ ف ب)

مقال رأي 

 

على مدى أكثر من ثلاثة أشهر، كثفت الحكومة الإيطالية تصريحاتها وضغطها في جميع الاتجاهات لتسهيل حصول تونس لقرض من صندوق النقد الدولي دون الالتزام مؤقتًا بالشروط المنصوص عليها في اتفاق الخبراء في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وتوافقًا مع رفض الرئيس قيس سعيّد لهذه الشروط.

"اللوبيينغ الإيطالي" يأتي في سياق مقايضة عامة حول تعاون أمني وثيق في ملف الهجرة غير النظامية مع السلطات التونسية

اللوبيينغ الإيطالي مثلما أسلفنا وتحدثنا، يأتي في سياق مقايضة عامة حول تعاون أمني وثيق في ملف الهجرة غير النظامية مع السلطات التونسية. هذا النسق الإيطالي الحثيث كان متباينًا مع توجه فرنسي محتشم وغير مرئي، وأحيانًا حتى أكثر نقدية تجاه السلطات التونسية، مثلما كان الحال عند إيقاف رئيس حركة النهضة (في الوقت الذي لم تعلق فيه روما عن الموضوع). لكن الآن وتحديدًا إثر دعوة وزيارة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار، بدأت تظهر مؤشرات على تغيير ممكن في الموقف الفرنسي.

 

 

الجهود الإيطالية لم تنجح حتى أسابيع قليلة إلا في حشد بعض العواصم الأوروبية غير المؤثرة بشكل كبير في الموقف العام الأوروبي. مثلًا، عبّرت وزيرة الخارجية البلجيكية إثر زيارتها تونس ولقائها الرئيس قيس سعيّد عن موقف مساند للسلطات التونسية وخاصة تفهمًا في خصوص أن يأخذ أي اتفاق مع صندوق النقد بعين الاعتبار الدور الاجتماعي للدولة وعدم المس بـ"السلم الأهلي" مثلما يطالب الرئيس سعيّد، ونقلت عنه إشارته إلى "أحداث الخبز" سنة 1984 كمؤشر على خطورة رفع الدعم عن مواد أساسية مثل الحبوب

موقف مفوض الشؤون الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل تميز بتصريحات نقدية واضحة خاصة في الملف السياسي وتحديدًا في خصوص الإيقافات الأخيرة لعدد من المعارضين وتهديد استقلالية القضاء

الوزيرة البلجيكية أشارت إلى أن زميلها البرتغالي الذي زار معها تونس ذهب بنفس موقفها أي "الاستماع"، وهو موقف أقل صدامية من موقف مفوض الشؤون الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل الذي تميز بتصريحات نقدية واضحة خاصة في الملف السياسي وتحديدًا في خصوص الإيقافات الأخيرة لعدد من المعارضين وتهديد استقلالية القضاء.

الموقف الإيطالي بدا مستفيدًا من مواقف عدد من العواصم الأوروبية التي تمثل خطًا مختلفًا عن التوجه السائد في بروكسيل، ومنها عواصم تقاربت تجاريًا واقتصاديًا مع بيكين في السنوات الأخيرة ومنها المجر والبرتغال، والتي تبدو أقل حساسية لموضوع الحريات والمسألة الديمقراطية. في المقابل، أظهرت العاصمتان الأساسيتان في صناعة القرار الأوروبي، أي باريس وبرلين، برودًا واضحًا تجاه السلطات التونسية. وبدت بوضوح أقل حماسًا من الموقف الإيطالي حتى في قمة مجموعة السبع الأخيرة في اليابان والتي لم تتجاوب مع الطلبات الإيطالية في تسهيل القرض والتمويل رغم التحذير الإيطالي المتواتر من استغلال روسي-صيني للثغرة التونسية والتموقع في قلب المتوسط.

أظهرت العاصمتان الأساسيتان في صناعة القرار الأوروبي، أي باريس وبرلين، برودًا واضحًا تجاه السلطات التونسية وبدت بوضوح أقل حماسًا من الموقف الإيطالي حتى في قمة مجموعة السبع الأخيرة في اليابان

حتى الزيارة التي أدتها رئيسة الحكومة الإيطالية ميلوني إلى ماكرون منذ أسابيع قليلة لم تظهر توافقًا واضحًا حول أهم طلب إيطالي أي ملف صندوق النقد، لكن يبدو أن شيئًا تغير في الأسبوع الأخير. وربما تكون أرقام تزايد الهجرة غير النظامية أحد عوامل هذا التغيير.

 

 

أهم مؤشرات التغير هو بلاغ الخارجية الفرنسية بعد اللقاء مع وزير الخارجية التونسي، والتي أكدت في فقرتها الثالثة على "دعم فرنسي في ملف صندوق النقد" والتأكيد على "الإصلاحات الاقتصادية التي سيتم تحديدها من السلطات التونسية" أي كأن هناك إقرارًا فرنسيًا بأن اتفاق 15 أكتوبر/ تشرين الأول لم يعد مرجعًا للإصلاحات وأن هذه الإصلاحات لم تتحدد بعد، وهو يبدو قبولًا ضمنيًا لرفض قيس سعيّد للإصلاحات المقررة في اتفاق 15 أكتوبر/ تشرين الأول. 

بلاغ الخارجية الفرنسية بعد اللقاء مع وزير الخارجية التونسي يعدّ من أهم مؤشرات التغير بما يبدو قبولًا ضمنيًا لرفض قيس سعيّد للإصلاحات المقررة في اتفاق 15 أكتوبر الماضي

في الفقرة نفسها، هناك حديث أيضًا عن أن هذه الإصلاحات "يجب أن تحفظ الدور الاجتماعي للدولة" وهو أيضًا موافقة ضمنية على مطالب الرئيس التونسي. لغويًا على الأقل، هناك رسائل توافق مع الجانب الإيطالي في الملف التونسي. في البلاغ نفسه أيضًا فقرة أطول حول أهمية التعاون في ملف الهجرة غير النظامية، أي ذات المقاربة الإيطالية في المقاربة لتونس، مقايضة ملف بملف. 

تصاعد الهجرة غير النظامية المتوقع كلما يتحسن الطقس ونتقدم في الصيف يمكن أن يكون أهم عامل مؤثر في تغيّر ممكن للموقفين الفرنسي والألماني، أمام تصاعد التهديد الانتخابي للحركات اليمنية في مجمل الاتحاد الأوروبي، وخاصة بعد وصول حزب قريب من التراث الفاشي لرأس السلطة في بلد بحجم إيطاليا.

تصاعد الهجرة غير النظامية المتوقع كلما تحسنت حالة الطقس يمكن أن يكون أهم عامل مؤثر في تغيّر ممكن للموقفين الفرنسي والألماني من دعم السلطات التونسية

التغير الفرنسي إن تأكد سيكون حاسمًا لأنه يمكن أن يؤثر على الموقف الألماني ومن ثمة يحدد الموقف الأوروبي العام. كيف ستتصرف واشنطن إن حصل تغيير في اتجاه الموقف الإيطالي؟ في اعتقادي أن إفادة جون هاريس منذ أسابيع في الكونغرس تؤشر على أن أحد العوامل المحددة في موقف واشنطن لتونس هو الموقف من حلفائها الأوروبيين. إذ أن تواجد تونس في مجال النفوذ الأوروبي يجعلها أكثر أهمية أوروبيًا، وتاريخيًا كانت تونس "محل نظر" فرنسي وأوروبي من الزاوية الأميركية نظرًا لقربها الجغرافي والآن خاصة بسبب ملف الهجرة غير النظامية. 

واشنطن تبدو حساسة في سياق طول الحرب الروسية في أوكرانيا لإرضاء حلفائها الأوروبيين للحفاظ على وحدة موقف الناتو خاصة أمام الخسائر الأوروبية الاقتصادي المتزايدة واتهامات أوروبية لواشنطن بأنها تستفيد من الأزمة ولم تخسر مثلما حال هو العواصم الاوروبية.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"