مقال رأي
لم يؤد المسار السلطوي الذي يقوده الرئيس التونسي قيس سعيّد إلا لتعليق الانتقال الديمقراطي بدل إنشاء "ديمقراطية حقيقية" كما يدّعي. أي مطلّع على المشهد العام منذ 25 جويلية/يوليو 2021، بداية من الاستفراد بالسلطة قبل تثبيت ذلك نظريًا بدستور سلطاني كتبه الرئيس بنفسه لنفسه وصولًا للإغلاق المتزايد للفضاء العمومي والتقييدات الممنهجة للحريات دونًا عن المحاكمات السياسية التي تستهدف المعارضين المُزعجين، لا يمكن أن يشكّك أحد بأن البلد يفتقد اليوم لمقوّمات أي نظام ديمقراطي.
لم يؤد المسار السلطوي الذي يقوده الرئيس التونسي قيس سعيّد إلا لتعليق الانتقال الديمقراطي بدل إنشاء "ديمقراطية حقيقية" كما يدّعي
هي عودة من جديد للنضال من أجل ضمان الحد الأدنى الديمقراطي، ولمنع استمرار نزوع السلطة نحو المزيد من قتل الديمقراطية. ولكن هل يعني ذلك الاكتفاء بالنضال من أجل هذا الضمان دون الحاجة، الحيوية أيضًا، للتفكير الجماعي في الديمقراطية التي نريد تثبيتها؟ أعتقد من اللزوم أن نفكر في ذلك.
لكن نحن بحاجة لوقفة تأمّل. إن أي مؤمن بالديمقراطية ومناضل من أجلها تعتصره اليوم حالة من الإحباط والخيبة في تونس، فالانتكاسة الحاصلة هي عنوان فشل حلم جماعي انطلق ذات 2010، أطلق معه حلمًا امتدّ في كامل المجال العربي.
والحقيقة ربّما أن الصورة أكثر سوداوية من خيبة، إذ يغمر عديد الديمقراطيين، على المستوى الذاتي، حالة انكسار نفسي. لا يجب إهمال الجانب الشخصي البحت فيما عشناه طيلة العقد المنصرم، من نشأة ديمقراطية وليدة في بحر من التحديات ومرافقة تطورها والمجاهدة من أجل إنقاذها قبل اغتيالها.
أي مؤمن بالديمقراطية ومناضل من أجلها تعتصره اليوم حالة من الإحباط والخيبة في تونس، فالانتكاسة الحاصلة هي عنوان فشل حلم جماعي انطلق ذات 2010، أطلق معه حلمًا امتدّ في كامل المجال العربي
ولكن ورغم تقدير مشاعر الإعصار الداخلي العاصف بكيان كل ديمقراطي، فهي لا يجب أن تهزمنا. أحيانًا أشعر أن هذا القول الناصح هو مصارحة لنفسي. الاغتيال الممنهج للديمقراطية ومنها للحريات العامة ولاستقلال القضاء، والذي بتنا نعاينه كل يوم في جميع الفضاءات العمومية، هو منهك، ولكن لا خيار إلا المقاومة. الإجابة هي تونس، هذه حقيقة لا يجب أن يخالفها التاريخ في نهاية المطاف.
بيد أن المقاومة اليوم لا معنى لها إن كان هدفها هو القول باسترجاع المسار الديمقراطي وكفى، وكأن المشهد هو استعادة قطار اختطفه الرئيس من سكّته، والحال لا يزال المعارضون للانقلاب يختلفون حول السكّة التي كان قد اتخذها القطار في السابق.
الاغتيال الممنهج للديمقراطية ومنها للحريات العامة ولاستقلال القضاء هو منهك، ولكن لا خيار إلا المقاومة. الإجابة هي تونس، هذه حقيقة لا يجب أن يخالفها التاريخ في نهاية المطاف
يتكوّن النظام الديمقراطي من ركائز لا يقوم دونها وغير مختلف بشأنها إجمالًا، ولكنه ليس وصفة جاهزة. ولذلك، إن النظام الديمقراطي الذي نريد استرجاعه يجب بالضرورة أن يأخذ العبرة من فشل الانتقال الديمقراطي المؤدي للانقلاب.
لماذا فشل المنتظم الديمقراطي في بناء ديمقراطية قوية وقادرة على الدفاع عن نفسها مؤسساتيًا وشعبيًا؟ في الجانب الأول، أعتقد أن الإجابة بأن السبب هو عدم استكمال البناء المؤسساتي وتحديدًا تركيز المحكمة الدستورية هي إجابة قاصرة.
وفي الجانب الثاني، أعتقد أن الابتهاج في الشارع بالانقلاب مساء 25 جويلية يعكس حقيقة أن الفاعلين الديمقراطيين انغمسوا في بناء ديمقراطية لم تجد شارعًا يدافع عنها في نهاية المطاف. لماذا؟ الإجابات متعددة قطعًا، ولكن الأرجح تقديرًا أن المجتمع الديمقراطي فشل أن يصدّر للناس أن الديمقراطية هي ليست استحقاقًا نخبويًا، بل هي أيضًا أداة منتجة للرفاه الاجتماعي والاقتصادي.
الابتهاج في الشارع بالانقلاب مساء 25 جويلية يعكس حقيقة أن الفاعلين الديمقراطيين انغمسوا في بناء ديمقراطية لم تجد شارعًا يدافع عنها لاعتبارات عدة
إن هجمة السلطة اليوم على معارضيها الديمقراطيين، والنضال من أجل التصدي لانتهاكاتها، لا يجب أن تمنع هؤلاء المعارضين أن يفكروا أيضًا في الدروس التي يجب استخلاصها من تجربة الماضي من أجل بديل ديمقراطي متين. واستخلاص التجربة يفترض بالضرورة تقييمًا علنيًا وجريئًا للتوجهات والخيارات الكبرى من طرف الأحزاب الفاعلة طيلة السنوات الماضية.
وهذا التقييم يحتاج بالضرورة أن يتبعه اعتذار بدون مكابرة، ودون شروط. لماذا لا يزال جزء مهمّ من الشارع يدعم رئيس دولة غير ديمقراطي ولكن الأهم فاشل في إدارة الملف الاجتماعي والاقتصادي؟ لا يتردّد البعض في المجاهرة أنه دعم مناكفة لا قناعة، وهي مناكفة لخصومه اليوم ممّن كانوا يديرون العملية السياسية في البلاد طيلة سنوات.
يجب على المعارضين اليوم أن يفكروا في الدروس المستخلصة من تجربة الماضي من أجل بديل ديمقراطي متين واستخلاص التجربة يفترض بالضرورة تقييمًا علنيًا وجريئًا وتقدير الاعتذار
أحيانًا بحاجة أن ننظر مليًا للمرآة العاكسة. قيس سعيّد مثلًا بصعوده لرئاسة الدولة عام 2019، وقبلها المواجهة في الدور الثاني التي فرضته مع رجل الأعمال "الفاسد" نبيل القروي، هو نتيجة لسنوات خلت.
التوافق بين الإسلاميين وممثلي النظام القديم الذي كان يقع تصديره كمثال لنجاح الانتقال الديمقراطي في تونس سابقًا، هو في الحقيقة، ودون الخوض في تفاصيله ومعالمه، هو أيضًا الذي أنتج قيس سعيّد رئيسًا للدولة عام 2019. سعيّد، الرجل السلطوي والذي غدر بالحلم الديمقراطي، هو نهاية فصل لاغتيال الديمقراطية، ولم يكن البداية.
التوافق بين الإسلاميين وممثلي النظام القديم الذي كان يقع تصديره كمثال لنجاح الانتقال الديمقراطي في تونس سابقًا هو الذي أنتج قيس سعيّد رئيسًا للدولة عام 2019
كم ستدوم محنة الديمقراطية المعدومة الآن؟ لا نعلم، ولكن من واجب كل ديمقراطي اليوم أن يدفع نحو تحفيز النقاش العمومي حول الديمقراطية التي نريد استرجاعها. الديمقراطي، المحترف في المجال السياسي، بحاجة بالخصوص أن يقنع عموم الناس، الذين كان يتوّجه إليهم أصلًا في كل انتخابات، أن الديمقراطية هي استحقاق وأنها ناجعة أي ليست معطلة عن الاستحقاقات التي تراها الناس أولويتها المطلقة.
مثلًا، أعتقد أن هذا الديمقراطي، إن كان فعلًا معنيًا بإقناع العموم بالديمقراطية كقيمة، إن ما قبل 25 جويلية لم تكن الديمقراطية التي نريد: ديمقراطية مريضة بداء المال السياسي وغياب حوكمة إدارة الدولة والتشظي الحزبي. وإن كنا نريد أن نعتبر الانقلاب فرصة، ولو يبدو ذلك خديعة نفسية لا أكثر، فلنعتبره كذلك، ونكيّفه أنه إنهاء قسري لحالة ديمقراطية مريضة استنفذت طرق علاجها، لتكون الانتكاسة الحالية فاصلًا ضروريًا سيلحقه إرساء نظام ديمقراطي متين وناجع.
بالنهاية، لا بأس أن ينظر الجميع دون استثناء للمرآة وأن يفكّر بكل هدوء حول الديمقراطية التي نريدها في المستقبل للأجيال المقبلة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"