29-أكتوبر-2021

عودة على أجواء المشارب الجامعية بثلاث كليّات تونسية (صورة توضيحية/ Getty)

 

"مَشرب الكلية"، "مقهى طلبة الكلية"، "المشرب الجامعي".. تسميات مختلفة لمكان واسع بلا تخوم. مُعبّد بالحرية ومثقل بالشعر والحب والأغنيات والأمنيات. يصفه الطلبة بأنه المكان الأشهى داخل الحرم الجامعي، المكان الآسر الذي لا موت رمزيّ فيه.. يندفعون نحوه بقواهم الخفية ليرفعونه إلى مستوى الكل حيث يتجسد الزمان الأبدي والاستسلام للخلود، "المَشرب" مجيء يومي وتأسيس بالمشاعر والرؤيا، هي لا تغير حياة الطالب فحسب، وإنما تزيد إلى نموها نموًا وتغنيها وتدفعها إلى الأمام وإلى فوق حيث الذرى العاطفية.

المشرب الجامعي أو مقهى طلبة الكلية، يصفه الطلبة بأنه المكان الأشهى داخل الحرم الجامعي.. فيه تناقش كل المواضيع، إنّه النّهل الأول قبل الالتحاق بالمحاضرات

  • "مشرب كلية الآداب بمنوبة".. فضاء للحب والإيديولوجيا والشعر والشعرية

"كلية الآداب بمنوبة" هي واحدة من أمجد الكليات التونسية، عرفت التأسيس سنة 1986 وانغرست إلى الأبد في عمق بساتين بلا ضفاف واندمجت في طبيعة منوبة الساحرة والمستفزة للروح والشعر معًا، فتخالها بستانًا من فرط خضرتها ووفرة نخيلها السامق، كليّة عامرة بالندى والصمت والبرق والمعرفة العالمة. مشربها أصل فخم بكياناتها اللامحدودة وينابيعها المفعمة بالحياة.. شبابيكه الألمنيوم المنحنية والمفتوحة على المطلق، لوحاتها الزيتية معلقة في أقاصي جدارنه، المشرب تبدو صباحاته كحقل غواية يدخلها الطلبة منذ الصباح الباكر منجذبين إلى أكوانه وأركانه، تختلط رائحة القهوة برائحة التبغ، تشدو "فيروز" بصوتها الصباحي المدهش، إنّه النّهل الأول قبل الالتحاق بالمحاضرات، بل لا يحلو الدرس الجامعي ولا يكون له طعم ورائحة إلا بالمرور من المشرب.

اقرأ/ي أيضًا: في الجامعة.. حياة موازية

 بعد ذلك، وطيلة اليوم.. يبدأ الطلبة في التوافد على فضاء المشرب، حلقات طلابية متتالية حول الطاولات الدائرية ذات السيقان الطويلة، تكاتف حول "الكنتوار"، تزاحم أمام ماكينة عصر القهوة.. فضاء المشرب يحتمل كل شيء: أحزان الطلبة وأفراحهم، أخطاؤهم ونجاحاتهم، أحلامهم وانكساراتهم.. 

هنا يناقش كل شيء: ما تفعله الهرمينوطيقا بالأزهار البرية وعلاقة السرد بالسينما ودور الإديولوجيا في نحت الكيان والسياسة في ظل الخذلان الأخلاقي للأحزاب وجدوى الرومنطيقية الجديدة في زمن "التاكتيل".

هنا تراجَع دروس الألسنية والمعجمية والشعر والشعرية وتترجم نصوص وليام شكسبير وتأوّل قصائد أبو ذؤيب الهذلي وتعقد اللقاءات والتحالفات النقابية والسياسية.. هنا تنسج قصص الحب وتذرف دموع الوداعات، هنا كل شيء.. هنا الحياة!

  • المشرب الجامعي بكلية الحقوق بتونس.. أرض للنضال والحلم بوطن أجمل

المشرب الجامعي بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس (تأسست سنة 1960) المطل على مكتبة "دالوز"، دخله كل عمداء الكلية: الشاذلي العياري، الصادق بلعيد، الأزهر بوعوني، محمد رضا بن حماد، حافظ بن صالح، شفيق سعيد، فرحات الحرشاني.. وجلسوا إلى الطلبة وتحدثوا إليهم تواضعًا ورفعًا للهمم نحو بناء الوطن.

المشرب الجامعي بكلية الحقوق بتونس دخله خطباء مفوهون يحرّضون الطلبة على الجمال والحرية والديمقراطية، ومهم نذكر: شكري بلعيد ومحمد عبو وبشرى بلحاج حميدة وعبد الناصر العويني ونوفل الزيادي، وسمير العبيدي..

اقرأ/ي أيضًا: أولاد أحمد.. تونس التي تعلّم الثورة

ودخله أيضًا كتّاب وفنانون وشعراء ورسامون وسينمائيون نذكر منهم: محمد الصغير أولاد أحمد، محمود درويش، الشيخ إمام، مرسال خليفة، أميمة الخليل، أولاد المناجم، الحمائم البيض، النوري بوزيد، الطيب الوحيشي، الهادي التركي.. 

من هذا المكان المعتّق بالقيم الإنسانية حيث تتقاطع النضالات، لا يستطيع طالب الحقوق الجديد سوى مواصلة الدروب، دروب الثورة والحرية والفن والثقافة وحب الوطن والذود عنه ورفعه إلى الأعلى.

"مشرب كلية 9 أفريل 1938" ملتقى الطلبة بكبار صناع المعرفة الذوق

"مشرب كلية 9 أفريل" (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، أم الجامعات التونسية والتي تأسست سنة 1958 واتخذت تسميتها من اسم الشارع الذي توجد به وهو شارع 9 أفريل/ نيسان 1938) هو واحد من أرفع المشارب لعراقته وللأحداث التي كان شاهدًا عليها في الحرم الجامعي أو حتى خارجه.

مشرب كلية 9 أفريل لم يكن يومًا مقهى بالمعنى التجاري المتعارف عليه، بل هو فضاء جذوره ضاربة في أرض اللغة، مشبعة بلهب المعرفة والتمرد، داخله تستعيد النّفس وحدتها الأولى وتذهب إلى ما وراء الواقع، إلى ذرى الأحلام المستحيلة لأن الإنسان لا يعدو أن يكون في النهاية سوى حلم.

في هذا المشرب تحلق طلبة الثمانينات حول الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو" الذي كان مدرّسًا بقسم علم النفس بالكلية واستمتعوا لتحليلاته حول ولادة السجن وتاريخ الجنسانية واستعمال المنع، وتعلموا منه الدفاع عن المجتمع وعن الحقيقة وكيفية الحفر في المعرفة، وفهموا منه تاريخ الجنون ونظام الخطاب..

اقرأ/ي أيضًا: هشام جعيّط مثقفاً عضويًا

كان هشام جعيّط وهو من هو في التاريخ الإسلامي، يدخل المشرب على عجل ليحمل قهوته السوداء ويغادر نحو الدرس، لا وقت لديه للحديث مع أحد ولا أحد يتجرأ على قطع الطريق أمامه ولو بالتحية، لكن حضوره الوهاج يعتبر حدثًا يوميًا ملهمًا بالنسبة لجميع طلبة الكلية. أما الأستاذ القدير توفيق بكار فكان يخرج من حلقة طلابية ليدخل في أخرى، لقد كان لدرسه التأملي الاستقرائي تتمّات بالمشرب. ورغم صخب المشرب فإن الأستاذ بكار كان لا يتخلى عن عفويته ولغته الهامسة، لقد كان نحاتًا فذًا لذائقة طلبته من سبعينات القرن العشرين إلى حدود بدايات الألفية الجديدة. لقد علّم الطلبة أن النقد الأدبي ليس مسألة فنية ميكانيكية، وإنما هي عملية استسلام للنص الأدبي والإنصات إلى نداءاته الداخلية العميقة والبحث عن فجوات التمرّد فيه.

"مشرب كلية 9 أفريل" كان منتدى للنقاش الفكري والإيديولوجي، فحول طاولاته تحاك تفاصيل المؤتمرات النقابية للاتحادات الطلابية وخاصة الاتحاد العام لطلبة تونس (تأسس سنة بباريس سنة 1952) ومناوراته التاريخية مع طلبة الحزب الاشتراكي الدستوري (الحزب الحاكم)، وفي هذا المشرب صاغ الطلبة التونسيين شعاراتهم التاريخية التي توارثتها الأجيال الطلابية إلى اليوم: "جامعة شعبية وتعليم ديمقراطي وثقافة وطنية" و"لا دراسة مع الحراسة ولا تدريس مع البوليس".

مشرب الكلية أو المشرب الجامعي هو مركز للأبدية وأرض للمغامرة الوجودية الأولى لأغلب الطلبة التونسيين، إنه تجسيد لمقولات المواءمة بين العدم والحرية، إنه شجرة دائمة الخضرة، تتجدد ثمارها مع كل جيل، إنه مكان قصيّ منسيّ لصناعة الأحداث، يروى تاريخ تونس ويحفظه من التلف بكل صدق ومكابدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"حجرة سقراط" بالمركب الجامعي المنار: صهوة للمعنى وفنون السياسة

"مقهى لونيفار" في العاصمة التونسية.. أرض فكرية للمقاومة الثقافية والسياسية