يوم الأحد المنقضي لم يكن يومًا عاديًا بكلية الآداب بمنوبة. الجامعة عادة ما تكون مغلقة يوم الأحد لكنها في هذا اليوم شرّعت أبوابها وفتحت مدرّجاتها وتسامقت نخلاتها واستوى عشبها ناصع الاخضرار وتعالى صوت فيروز من مشربتها ليغمر كل المكان.
إنّه يوم الحنين، يوم محجّة القدامى لكليتهم، للمكان الذي استنبتوا فيه أجنحة وحلّقوا في سماء الحياة الواسعة. لقد جاؤوا من كل الدروب وكل الثنايا وكل القرى وكل المدن التونسية بحثًا عن ذكرياتهم ولحظاتهم الفارقة المبهحة التي نأت بها الايام وطحنتها طاحونة الشيء المعتاد، جاؤوا للبحث عن أنفسهم.
يوم الحنين حضره قرابة الثلاثة آلاف طالب من القدامى تجمعوا في أفنية الكلية وتزاحموا في مشربتها استعادة لطقوس بعينها
اقرأ/ي أيضًا: اتحاد الكتّاب التونسيين.. هل بات إرث الماضي عبئًا نحو المنشود؟
الدعوة ليوم الحنين بكلية الآداب بمنوبة كانت عفوية انطلاقًا من شبكة التواصل الاجتماعي الفيسبوك وقد أطلقتها مجموعة من طلبة كلية الآداب بمنوبة ينتمون لجيل التسعينيات مؤسسين لصفحة تواصلية سمّوها "أحبّاء الزمن الجميل" التي التفّ حولها إلى الآن حوالي سبعة آلاف طالب انتسبوا للكلية منذ تأسيسها سنة 1980 إلى اليوم. وسرعان ما تحول الحلم إلى حقيقة واختير الأحد الأخير من شهر جويلية/ تموز 2018 ليكون "يوم الحنين".
وحسب تصريح محيي الدين أولاد عزيز، أحد المبادرين لهذا الحدث ومؤسس صفحة أحباء الزمن الجميل، لـ"الترا تونس"، فإن هذه الفكرة تم اقتراحها عبر الصفحة المذكورة ودافع عنها آلاف الطلبة القدامى. ويضيف أنهم تحولوا من الافتراضي إلى الواقعي واتصلوا بعمادة الكلية التي رحبت بالفكرة ودعمتها دعمًا رمزيًا لا محدود.
يوم الحنين حضره قرابة الثلاثة آلاف طالب من القدامى تجمعوا في أفنية الكلية وتزاحموا في مشربتها استعادة لطقوس بعينها. لقد كانت المشربة فضاء حرًا للنقاش السياسي والتأطير النقابي والسجالات الأدبية والفنية وربط الوشائج العاطفية على وقع موسيقات العالم. لم تكن المشربة يومُا لشرب القهوة والتدخين فقط بل كانت جزيرة وارفة داخل كلية الآداب بمنوبة.
[[{"fid":"100894","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":375,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
توّج يوم الحنين بلقاء احتفالي داخل مدرج ابن خلدون (رمزي العياري/ الترا تونس)
العديد من "المنوبيين" الذين حضروا يوم الحنين تزوجوا حبيبات الأمس من طالبات الكلية وجاؤوا ومعهم أولادهم كثمرة لقصص الحب تلك، لقد عادوا لأمكنتهم وقصصهم وذكريات العشق منهم من جاء لزيارة شجرة كان يستظل بظلها مع حبيبته وقد ذكر لـ"الترا تونس" أنه نقش اسمه واسم حبيبته وقد بقي الاسمان في مكانهما لأكثر من ربع قرن شاهدًا على قصة حب لا تنسى.
كما التحقت بعض الأسماء القديمة المنتمية للفصائل النقابية التي كانت تنشط بالكلية بأمكنة الاجتماعات العامة لتذاكر تلك الأيام البعيدة، أيام السياسة والخطب العصماء وسحر الإيديولوجيا وأيام الحصار والتضييق الأمني على الحريات وتنافس الأجنحة النقابية.
هذا الحدث النوعي حضره أيضًا بعض الأساتذة المباشرين من مختلف الاختصاصات والأقسام والتقوا طلبتهم بالعناق وتذكروا معًا لحظات لا تنسى في المدرجات، من هؤلاء الأساتذة هناك من هو في التقاعد لكنه أصرّ على المجيء. لقد كانوا كأيقونات وهم يتنقلون من حلقة إلى أخرى ويلتقطون الصور وتتعالى ضحكاتهم عاليًا.
اقرأ/ي أيضًا: حديث في أحضان "سيدي محرز".. سلطان المدينة
توّج يوم الحنين بلقاء احتفالي داخل مدرج ابن خلدون وهو أكبر مدرجات الكلية أين قدمت الهيئة التأسيسية لهذا الحدث نفسها وتحدثت عن مستقبل عملها ونيتها في تأسيس "جمعية أحباء الزمن الجميل"
[[{"fid":"100895","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":666,"width":500,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
العديد من الطلبة القدامى جاؤوا ومعهم منتوج إبداعي وأدبي (رمزي العياري/ الترا تونس)
هناك العديد من الطلبة القدامى جاؤوا ومعهم منتوج إبداعي وأدبي. كانت كلية الآداب هي الملهمة أو القادح ومن هؤلاء نذكر الشعراء عادل مالك ونجوى الروح الهمامي وعبد الفتاح بن حمودة، وكتّاب الرواية والقصة كمال الرياحي وعبد الرزاق بن رجب وعماد العباسي. لكن يبقى عبد الرزاق المسعودي من القلائل الذين كتبوا الكلية فعلًا وخلدوا مشاعر جيل التسعينات في رواية أجمل الذنوب. وفي تصريح لـ"الترا تونس" يقول المسعودي إنه مسكون بهذا المكان الفاتن المرفوع على جناح فراشة. وقد حوّل هذه السكنى إلى رواية تشبه سيرة المكان. ويضيف أن الكتاب يتطرّق إلى انكسارات جيل التسعينيات، انكسارات السياسة والحب.
وتوّج يوم الحنين بلقاء احتفالي داخل مدرج ابن خلدون وهو أكبر مدرجات الكلية أين قدمت الهيئة التأسيسية لهذا الحدث نفسها وتحدثت عن مستقبل عملها ونيتها في تأسيس " جمعية أحباء الزمن الجميل ". كما ألقى عميد الكلية كلمة ثمن فيها ما أتاه القدامى واعدًا بمزيد التواصل مع مثل هذه المبادرات الحية التي تزيد الكلية بهاء. كما تضمن الحفل قراءات شعرية وعزف موسيقي ورقص وغناء وتكريمات.
القدامى ومن فرط حنينهم كانوا يتساءلون عن الموعد القادم وثمة منهم من طالب بمأسسة هذه التظاهرة الوجدانية الهامة التي تعيد الناس إلى بعضهم البعض وتوطد العلاقات القائمة وترتق تلك التي أبلتها الأيام. وفي خاتمة اليوم التقينا عبد الرزاق وصيفي، وهو من مهندسي اللقاء وعضو الهيئة التأسيسية، الذي أوضح لـ"الترا تونس"، أن الحدث كان أكثر من ناجح وقد حقق هدفه الأسمى وهو تكريس ثقافة الاعتراف لهذه المنارة التي وجّهت آلاف الطلبة ممن تخرجوا منها نحو دروب الحياة، أيضًا الاعترف لأساتذتنا الأجلاء ولبعضنا البعض. وأكد وصيفي أنه تقرر بعث جمعية أحباء الزمن الجميل التي ستجعل من يوم الحنين مهرجانًا سنويًا، كما ستعمل الجمعية على إقامة تظاهرات أخرى علمية وثقافية وخاصة ربط الصلة مع كليات أخرى عربية وأجنبية.
يوم الحنين بكلية الآداب بمنوبة كان يومًا عفويًا ونوعيًا لذاكرة الأجيال وذاكرة المكان التقى فيه الأحبة والخلان والزملاء. لكنه ذهب في اتجاه المأسسة تكريسًا لثقافة الاعتراف وخلقًا لمساحة قارة للعمل الثقافي والفني في رحاب أمجد الكليّات التونسية وأعرقها، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة.
اقرأ/ي أيضًا: