07-يناير-2020

تعبّر الأمثال الشعبية عن العقلية السائدة في المجتمعات (Getty)

 

تختزن الذاكرة الشعبية في كلّ المجتمعات موروثًا ثقافيًا ومظاهر اجتماعية متوارثة في تقاليدها وأعرافها وحتى في أمثلتها وحكمها وأحاديثها، ينساب وراءها الانسان طواعية دون وعي أو تفكير في معانيها، بل تتحوّل بعض هذه الظواهر إلى وعي اجتماعي يُردد على الألسن جيلًا بعد جيل دون التفكير فيها أو حتى إعادة البحث في مقاصدها، وذلك على غرار الأمثال الشعبية المنتشرة بين التونسيين والقائمة على العنصرية بالخصوص على أساس اللون.

اقرأ/ي أيضًا: "كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة

الأمثلة الشعبية كخزان ثقافي

تُعتبر الأمثال الشعبية، في البداية، خزانًا ثقافيًا يختلف من مجتمع إلى آخر، ويعبّر عن وعي مجتمع أو تخلّف آخر. وتختلف الألفاظ والحكم ودلالات هذه الأمثال الشعبية، كما يختلف تقبل الناس لها حسب وعيهم الثقافي والفكري، بين من يأخذ بها كحكمة مسلّمة، وبين من يعتبرها مجرّد مظهرًا للتخلف أو اقصاء الغير أو الاستنقاص من شأن فئة عن أخرى.

وساهم، في هذا الإطار، غياب التعليم وتفشي الأمية خاصة في صفوف النساء في انتشار هذه الأمثال وتوارثها، حتى وإن كانت معظم هذه الأمثال تستنقص من قيمة من يرددها في حدّ ذاته. ولم تكن هذه الأمثال من صنع النساء وحدهن أو الرجال، بل هي تراث شعبي بشكل عام وموروث يمثل الجماعة وليس الفرد.

خصّ العديد من الكتاب والمؤرخين الأمثلة الشعبية ببعض الدراسات الاجتماعية لفهمها وتفسير مدى تعبيرها بالفعل عن العقلية السائدة في المجتمع

وتستنقص العديد من الأمثال الشعبية، في الأثناء، من قيمة شخص حسب العرق أو الدين أو اللون أو الهوية، لكن لا يمكن عزل أي ظاهرة فكرية عن الظواهر الأخرى في المجتمع سواء السلبية منها والإيجابية. فالعقلية مُترجمة في خطاب متوارث قد يعطي صورة عن بعض المظاهر السلبية في مجتمع ما.

وقد خصّ العديد من الكتاب والمؤرخين الأمثلة الشعبية ببعض الدراسات الاجتماعية لفهمها، وتفسير مدى تعبيرها بالفعل عن العقلية السائدة في المجتمع. كما جعل باحثون الأمثال الشعبية مجالًا لبناء بحوثهم الميدانية، ومقارباتهم العلمية السوسيولوجية على غرار الأمثلة التي تستنقص من قيمة المرأة وظهورها في مجتمع ذكوري، أو الأمثلة التي تكرس التفرقة على أساس الدين أو اللون أو العرق.

والمثل الشعبي ليس إلاّ قولًا متوارثًا عن الأجداد، قيل في وقت معيّن لوصف أو التعبير عن موقف معيّن، قد لا يعني أنه موقف إيجابي، إلاّ أنّه ظلّ متوارثًا بين الأجيال. وهو يعتمد على لهجة شعبية وبلاغة في اختيار الألفاظ لذا اعتبر المثل "فنًا قديمًا يُصاغ انطلاقًا من تجارب وخبرات عميقة، يحمل تراث أجيال متلاحقة، يتناقلها الناس شفاها أو كتابة، تعمل على توحيد الوجدان والطبائع والعادات، ولذلك يعدها البعض حكمة الشعوب، وينبوعها الذي لا ينضب، وقد تقوم في هذا المجال بدور فعال في دفع عجلة المجتمع إلى الأمام باتجاه التطور والبناء لذلك ينظر إليها باعتبارها وثيقة تاريخية واجتماعية"، وفق الكاتبة جمانه طه في موسوعتها "الروائع في الحكم والأمثال".

العنصرية على أساس اللون في الموروث التونسي

وفي نهاية الأمر، إن الأمثال المتوارثة بسلبياتها هي ثمرة تجربة الأجداد وصورة عن عمق بعض الظواهر السلبية في مجتمعاتنا العربية، ونخصّ بالذكر الأمثال الشعبية التي تكرّس العنصرية أو القائمة على أساس العنصرية التي مازال يشكو منها مجتمعنا إلى اليوم. إذ تبيّن تلك الأمثال أنّ المشكل أعمق بكثير من مجرّد إقصاء الغير عبر توارث أمثلة باتت وكأنها من الحكم أو الحقائق المسلّمة تعلي من قيمة أشخاص على حساب آخرين.

من بين الأمثلة القائمة على التمييز العنصري "دار عليا زماني وحتى مالوصيف يرمي عليا في المعاني" و"الوصيف" نعت تحقيري بالعامية يطلق على صاحب البشرة السوداء

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن معجم العنف والتحقير والشتائم في اللهجة التونسيّة؟

ومن الأمثال التونسية القائمة على التمييز العنصري "الوحلة في الكحلة أما حتى البيضة عرست" بمعنى أنّ ذات البشرة السوداء تمثل مشكلًا ويصعب على صاحبتها إيجاد زوج مقابل استطاعة الفتاة البيضاء الزواج، أو القول "دار عليا زماني وحتى مالوصيف يرمي عليا في المعاني"، و"الوصيف" نعت تحقيري بالعامية يطلق على صاحب البشرة السوداء. ومن الأمثلة أيضًا "إذا صبحت على كحلوش أرجع أرقد خير" في دلالة أنّ من يرى في صباحه صاحب بشرة سوداء يومه لن يبشر بخير.

وتتعدد الأمثال العنصرية الأخرى التي تختلف بين الجهات وتختلف معانيها لكنّها تؤكد على الموروث السلبي والمكرّس للعنصرية القائمة على اللون، ويردد البعض اليوم بوعي تام بمعانيها بينما يتناقلها البعض دون فهم مقاصدها.

ويرى الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أنّ الأمثال الشعبية تكرس العنصرية بصفة كبيرة بين أطياف المجتمع التونسي من خلال توريثها من جيل إلى آخر حتى تصبح حقيقة في بعض الأحيان. وأضاف أنّ هذه الأمثال تلعب دورًا في تكوين شخصية الطفل والناشئة وتمثّله لبعض القضايا والاشكاليات المحيطة به مثل المسألة العرقية والجنسية والطائفية قائلًا "قد نزرع في أبنائنا عدم تقبل الآخر المختلف عنا حتى بلون البشرة بتعلة أنه ليس مثله ولا يتطابق معه، والأتعس أن نجد بعض الأولياء يقدمون صور سلبية لأطفالهم أساسها الإقصاء والتمايّز".

معاذ بن نصير (باحث في علم الاجتماع): قد نزرع في أبنائنا عدم تقبل الآخر المختلف عنا حتى بلون البشرة بتعلة أنه ليس مثله ولا يتطابق معه

ويشير محدثنا، في هذا السياق، إلى مثال قطعة الحلوى التي يشتريها الأطفال بتسميتها "رأس العبد" لأنّ لونها أسود، وكذا القول "اسودّ وجهي" في صورة القيام بفعل مخجل، مؤكدًا توظيف اللون الأسود بطريقة سلبية للأفعال التي قد تخرج عن السياق العام المتعارف عليه مقابل الترفيع من قيمة اللون الأبيض على غرار قول "بيّضتلي وجهي" في صورة القيام بفعل حسن.

ويقول بن نصير إن هذه التفرقة اللونية قد تكون السبب في التمايز على أساس اللون فيما بعد، مشيرًا أيضًا إلى مثل "لبّس الأسمر أحمر واضحك عليه"، والقول في استعباد الناس "شراية العبد ولا تربايته" إضافة إلى ترديد بيت "لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ/ إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ"، وكأنّ العبوديّة شيء عادي في أيامنا، وفق قوله 

وأضاف الباحث في علم الاجتماع، في ختام حديثه لـ"ألترا تونس"، أنّنا لا نعتمد أسسًا تربوية صحيحة للأطفال داعيًا إلى التخلي عن العديد من الأمثال الشعبية حتى لا نقع في منطق التعصب والعنصرية والجهوية المقيتة. كما دعا الأسرة إلى زرع داخل سلوكيات أبناءها مدى أهمية تقبل الأخر كإنسان بعيدًا عن التفرقة بحسب لون البشرة أو العرق أو الدين، مؤكدًا على أهمية دور المجتمع المدني أيضًا في تأثيث ندوات ومحاضرات داخل المدارس والمعاهد والفضاءات العامة لنبذ العنصرية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"حِدّي"، "معيوفة" و"عَبْشَة": أسماء تمنع الموت حسب البعض؟

الملح "ربح" والفحم "بياض".. ميراث التخلّف في تونس