04-يونيو-2018

ألفاظ يتجنب الكثيرون قولها لأنها تجلب النحس وتبعد الرزق بالنسبة إليهم (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

وأنت في إحدى الحافلات في تونس كثيرًا ما تسمع كلّما فتح بابها من يقول لسائقها كلمة "زيّن الباب" بدل "سكّر الباب"، وهي كلمة تتكرر طوال الرحلة سواء من قبل بائع التذاكر أو بعض الراكبين. تسأل البعض عن تعمد استعمال لفظ "زيّن" بدل "سكّر" فلا تجد إجابة، فقط يقول البعض تعودنا على ذلك. فيما يجيب البعض أنّ الأغلب يتفادى كلمة "سكّر الباب" لأنّها لفظ "نحس" خاصة في أوقات الصباح فهي تقفل باب الرزق بالنسبة إليهم.

"زّين" إذًا هو لفظ يتكرّر يوميًا في الحافلة أو الشارع وأيضًا لدى العائلات التونسية حين يطلب من أحد أفرادها غلق الباب، متجنبّين به العديد من الألفاظ الأخرى التي يعتقدون حسب فهمهم وموروثهم أنّها ألفاظ نحس لا يجب قولها حتى "يتعدى النهار على خير".

 يُفضل الكثيرون استعمال ألفاظ "زيّن الباب" و"ربح" و"بياض" و"ولد بحر" بدل "سكّر الباب" و"ملح" و"فحم" و"حوت" وذلك وفق موروث شعبي يعتقد أن هذه الألفاظ تقفل باب الرزق وتجلب النحس

في إحدى محلات بيع المنتوجات الغذائية، عدّدت سعاد ما كانت تحتاجه من مقتنيات للبيت لصاحب المحلّ الذي كان يوفرها لها الواحدة تلوى الأخرى إلى أن ذكرت له أنّها تريد كيس ملح، حتى نهرها صاحب المحلّ عن ذكر ذلك اللفظ خاصة في الصباح، بل وغمغم مستغفرًا. استغربت سعاد الأمر ولم تفهم وسألته إذا كانت تريد الملح فكيف تطلب ذلك، فأخبرها أنّه يجب أن تقول "لفظ "ربح" أو "إيدام" بدل "ملح" الذي يجلب النحس ويطرد الرزق من المحلّ وفق اعتقاده.

كان ذلك الموقف الأول الذي تتعرض له سعاد في حياتها حول هكذا مسألة، حتى أنّها سألت أكثر من شخص عن الموضوع مستغربة من توجس البعض من لفظ "ملح" وتفاديه وعدم استعماله في بعض الجهات لا سيما بالشمال والجنوب. إذ جرت العادة في بعض الجهات بالشمال الغربي قول لفظ "ربح" بدل "ملح" وذلك اعتقادًا منهم بأنّ الملح يطرد الرزق ويجلب النحس، فيما يستعمل بعض سكان الجنوب لفظ "إيدام" لنفس السبب.

اقرأ/ي أيضًا: "سكّرتك بالشروليّة على كل بنية".. وللفتيان نصيب من التصفيح في تونس

وقد ارتبط الملح في تونس حتى ببعض الأمثلة أو التشبيهات كأن يقال "يده كالملح" يعني لا تجلب الرزق، والأرض التي لا تثمر فيها الأشجار أو النبات يقال عنها "أرض ملح"، والمسرف يقال عن ماله "فلوسو كي الملح" يعني سريعة الذوبان. كما ارتبط الملح بالجفاف والقحط والفقر في الموروث الثقافي، لذلك يتجنّب العديد حتى ذكر لفظه، بل ولارتباط الملح عندهم بطرد الرزق تمت تسميته بالـ"ربح".

ومرّت تلك الحادثة على سعاد لكنّها ظلت تقول ساخرة الملح يبقى ملحًا، وهو فقط مجرّد تسمية ولا علاقة له بما يظنه البعض من أنه لفظ نحس. وربّما مرّ الموقف بالنسبة لها عاديًا، لكن محمد بن عمران (27 سنة) يقول إنّه لن ينسى موقفًا آخر حصل له منذ ثلاث سنوات، لكن هذه المرّة ليس مع لفظ "ملح" بل الـ"فحم".

إذ يروي لنا محدثنا محمد أنه ذهب في شتاء 2015 لشراء بعض الفحم في ساعات الصباح الأولى، إلاّ أنّه اختلف مع صاحب المحلّ، وحدثت بينهما مناوشة كلامية لمجرد قوله لفظ "فحم"، ليقول له التاجر إنّه من الأفضل قول "بياض" وليس فحم وخاصة في الصباح. استغرب محمد كثيرًا من ردة فعل صاحب المحلّ الذي أخبره "أنّ لفظ فحم نحس في المحلات والبيوت، ولا يجب أن يذكر. هي عادة يتبعها الأجداد والآباء" ودعاه ألا يذكر اللفظ مجدّدًا بتعلّة أنه يجلب النحس.

ارتبط الملح في تونس بالنحس حتى في بعض الأمثلة أو التشبيهات كأن يقال "يده كالملح" يعني لا تجلب الرزق، والأرض التي لا تثمر فيها الأشجار أو النبات يقال عنها "أرض ملح"

وقد تكرر الموقف ذاته بالنسبة له مع عدد كبير من باعة الفحم. فقد اعتقد في البداية أنّ الأمر تعلّق فقط بتاجر واحد قد يكره لفظ "فحم". ولم يكن يدري أنّ المسألة تمثل موروثًا فكريًا لدى العديدين، تدخل ضمن الثقافات الشعبية والمعتقدات الشائعة منذ القدم توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل.

وتختزن الذاكرة التونسية عمومًا كمًا كبيرًا ومتنوعًا من هذه المحاذير التي يخشاها ويتجنبها الناس في بعض الجهات، كأن لا تقول "حوت" أي سمك بل قول "ولد بحر" أو ألا تقول "سكّر الباب" بل "زيّن الباب"، لأنّ لفظ "سكّر" غير محبذ ويقفل باب الرزق كما يؤكد لنا صالح المسعودي (62 سنة) الذي يضيف في حديثه لـ"الترا تونس" بأنه "في عدّة جهات بالشمال يُفضل لفظ "زين الباب" و"ربح" و"بياض". وهي ألفاظ توارثناها عمّن سبقونا"، ويتساءل "لا ندري إن كان التذمر منها ومن نحسها صحيح أو أنّ ذلك مجرّد موروث خاطئ".

اقرأ/ي أيضًا: "كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة

ويعلّق الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمد في حديثه لـ"الترا تونس" حول هذه المسألة قائلًا "أن أتوحد اجتماعيًا هو أن أتملك علاقتي بالآخر عبر تملكي لنفس الرموز والدلالات عبر ما يسمى اللّغة التي تبقى أهم عنصر تواصل واتصال على الإطلاق. فاللغة وخاصة في المعيش اليومي هي تبليغ واشتراك، لكن في بعض الأحيان تتحول اللغة من عنصر تجميع إلى عامل فرقة".

 الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمد في حديثه لـ"الترا تونس": يسود اللهجة العامية الكثير من التشويش والعنصرية وسوء الفهم لأنها انعكاس لتقسيم طبقي أو جهوي أو جنسي

ويضيف بلحاج محمد "اللغة هي منتج اجتماعي يتطور بتطور المجتمعات وينمو في علاقة بالحركية الاجتماعية ولكن بالمقابل يتشوه إذا ما تشوهت البنى الاجتماعية والثقافية في مجتمع ما". ويوضح أن "تطور المجتمعات نقصد به تطور البنى الذهنية والثقافية والسياسية مجتمعة، فغياب بعض من هذه الأبعاد يمكن أن يشوه عملية التطور أو يبطئها ويظهر ذلك بجلاء خاصة في اللهجات العامية التي هي أقرب إلى الذهنية السائدة منها إلى البنى الفكرية".

وفي هذا الجانب، يشير الباحث في علم الاجتماع بأنه "يسود اللهجة العامية الكثير من التشويش والعنصرية وسوء الفهم لأنها انعكاس لتقسيم طبقي أو جهوي أو جنسي وبالتالي فهي تختزن في داخلها كل هذه التناقضات" وفق قوله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التونسيّات يهجرن وسائل منع الحمل.. الرجوع إلى الطبيعة؟

التونسي والمظاهر: مكره أخاك أم "فيّاس"؟