مقال رأي
كانت الصورة الأكثر تداولًا في وسائل التواصل الاجتماعي والتي لخّصت حدث تسليم المهام بين رئيس الحكومة المتخلي يوسف الشاهد ورئيس الحكومة الجديد إلياس الفخفاخ وفريقيهما، هي صورة كليهما مندمجين تقريبًا، رأساهما متجهان إلى الأرض، واحد يغادر المنصة أي الشاهد والآخر، الفخفاخ، يأخذ مكانه لإلقاء كلمته. الصورة عميقة حيث كأننا تقريبًا إزاء حالة ولادة وحالة دفن، أو حالة ظهور مقابل حالة غياب. في كل الحالات الصورة تحيل على نسق بطيء ورصين، ترسخ عادة التداول على السلطة التنفيذية.
صمود المسار الديمقراطي كان ممكنًا لظروف تتعلق بوجود طبقة اجتماعية وسطى متعلمة قوية
اقرأ/ي أيضًا: هل الغنوشي أكثر السياسيين صبرًا على الانتقاد؟
أصبحنا إزاء تقاليد. لا يستحق من يخرج من السلطة أن يخوض حربًا دموية للبقاء. لا تحتاج المعارضة إلى تنظيمات سرية وتشكيلات انقلابية للقضاء على عدوها في السلطة. لكن لنبقى واضحين وبعيدًا عن السيناريوهات الوردية: ليس هناك تقاليد انقلابية أو تقاليد تشكيلات مسلحة تتداول على السلطة في تونس لاستثناء في الجينات التونسية.
الحقيقة أن صمود المسار الديمقراطي كان ممكنًا لظروف تتعلق بوجود طبقة اجتماعية وسطى متعلمة قوية، وأيضًا حالة تراكم طويلة وعميقة لضمير ديمقراطي اخترق تقريبًا جميع الأطراف السياسية وحالة نفور بينها من هيمنة أحد على الآخر.
ولكن أيضًا بقي المسار الديمقراطي صامدًا لحالة "توازن الضعف" حيث لا أجده قادرًا على حسم المعركة بالعنف والانقلاب. ولا يوجد في تونس جيش مكلّل بحروب إقليمية ومثقل بتاريخ "المسؤولية الوطنية" وشعارات الاستعلاء على البقية والهيمنة الضمنية. لدى البعض، في تونس، شهوة لذلك (صورة الجنرال الشبقية) أحيانًا، يبقى أن بين الشهوة والتنفيذ مسافات كبيرة.
لا يوجد في تونس جيش مكلّل بحروب إقليمية ومثقل بتاريخ "المسؤولية الوطنية" وشعارات الاستعلاء على البقية والهيمنة الضمنية
اقرأ/ي أيضًا: حكومة الفخفاخ.. التركيبة والمستقبل
بلا شك لا يغادر سياسي السلطة بشعور مرتاح وباطمئنان كامل. لا يزال القضاء غير مستقل تمامًا، ويحاول بعض السياسيين توظيفه وتوجيهه. ومن الطبيعي أن يفكر بعضهم أنه مثلما استعمله سيستعمله غيره. يبقى أن الجميع يعلم أن لا أحد يمكن له تصفية حسابه السياسي علنًا بأريحية من قبل القضاء ومؤسسات الدولة. وشرط كل ذلك الوعي الجمعي بـ"توازن الضعف".
لكن حالة الفخر هذه والاعتداد، على مشروعيتها، ألا تمثل خطرًا تنويميًا يدفعنا لحالة الركون والركود والاطمئنان الزائف؟ ومن ثمة مقدمات العود على بدء، وانتهاء حالة هيمنة القانوني على الإعلامي.
ثم الأهم يجعلنا أمام مفارقة رئيسية: ماذا بعد التداول؟ لسنا في نهاية الأمر في دربة تخص الحركية السياسية، والتأقلم مع النظام السياسي. لا يتعلق الأمر بتخمينات. الجميع يعلم أن قيس سعيّد يرغب أكثر في الحكم كلما قضى وقتًا أطول فيه. وكل من مرّ عبر السلطة أو بالقرب منها لا يرى فقط الوجاهة بل أيضًا المجهود لأحداث تنساق في الأدنى وقدرة على تحقيق مكاسب تترك أثرًا.
نعم انتقال ديمقراطي سلمي في تونس مقارنة بحالة التخلف العربي المسيئة. لكن ذلك لم يعد خبرًا مثيرًا واستثنائيًا في تونس. تداول أما بعد! هذا ما يهم معظم الناخبين. تلك السلمية ونسقها الديمقراطي لا يجب أن يحجبا حقيقة إصرار الناخب على تحقيق شيء ما، نوع من الإصلاح. وبهذا المعنى كان إصرار إلياس الفخفاخ لاستبعاد حزب قلب تونس من الطريق والتركيز على حد أدنى من الانسجام في مكانه.
ليس أمام حكومة الفخفاخ إلا تجاوز منطق وفلسفة حكومة الشاهد والرد على المتطرفين والاستئصاليين والحالمين بالحذاء العسكري بتحقيق المكاسب للناس
نعم صورة جميلة، لكن معظم الناخبين ينتظرون أفعالًا أجمل بعيدًا عن حالة التعاسة والكآبة التي تخيم على مجال عربي يعتبر أن التمزيق الدموي لبلد ما أكثر أهمية ومقبولية من حالة تعايش وتفاهم ضمن أطر الاختلاف والنقد المتبادل.
ليس العرب استثناء جينيًا. سيلتحق ركب قطار الغرب والشرق بالنسق التونسي. لكن حتى يصمد هذا النموذج فإنه يحتاج إلى بعض الإصلاح والمكاسب. وفقط حينها سنقول بكل وثوق "نحن إزاء ديمقراطية راسخة".
ليس أمام حكومة الفخفاخ إلا تجاوز منطق وفلسفة حكومة الشاهد والرد على المتطرفين والاستئصاليين والحالمين بالحذاء العسكري ليس ببلاغات إعلامية نارية، لكن بتحقيق المكاسب للناس. حينها فقط سيرون أن تهديم المكسب الديمقراطي لا يحل المشاكل بل سيعقدها. ولهذا يجب على الفخفاخ أخذ وقت ما واستعادة أنفاسه وربط الفريق بشكل متدرج.
عاشت تونس الجديدة!
اقرأ/ي أيضًا: